عندما تبلغُ الشكوى حاجزَ الألم، عندما يصبحُ البَوحُ أثقَلَ على الروحِ من الكتمان، يغدو من الصعبِ أو من شبهِ المستحيلِ علينا أن ننطِق. كان ذلك حالي يومَها، حطَّمتُ مُشَغِّلَ الاسطواناتِ في داخلي لألاّ أتَمَكَّنَ من تشغيلِ اسطوانةِ التَذَمُّرِ المُعتادة، ذلك أنها باتت مُكرَّرةً حتى أقصى حافّاتِ الملل. يَومَئذٍ لم أستطع اختراعَ شَكوى جديدةً لتَنطَلي على الآخرين، على الشامِتينَ و المُستَهزئينَ الذين كانوا ينتظرونَ سُقوطي. لم أكُن وقتَها إلا دَوّامةً ضخمةً من الفشلِ و الأعذار، دوّامةً ثقيلةً تَمشي على قدَمين. بَقيتُ رهينةَ الشَكوى حتى سَمِعتُ من إحدى مَعارِفي عن "الانتقامِ الإيجابي" كنتُ في تلك اللحظةِ أريدُ أن أنتقمَ بشدّة، أن أنتقمَ من الظُروف، من الدولةِ و الحكومةِ و الضَرائب، من شتاءِ كندا و من أولئكَ الذين يُلقونَ بنَصائحهم و مَواعظِهم على قارِعةِ طَريقي، كمن يقذِفُ قطعةً نقديةً في يدِ مُتسَوِّلٍ عَفيف. لطالَما رَغبتُ بالانتقامِ اللَذيذِ من مُصَدِّري الشَفَقة، من عَبيدِ المالِ و السُلطة. في الحقيقةِ لم أكُن أريدُ في تلك المرحلةِ من حياتي سوى الانتقام، لكنني لم أكُن قد سَمعتُ قط عن الانتقامِ الإيجابي. و الذي اتَّضحَ لي عن طريقِ البحثِ و سؤالِ المُثقَّفينَ و ذَوي الخبرةِ هو أنهُ انتقامٌ مشروعٌ لكنهُ يكونُ بصيغةٍ أكثرَ هُدوئًا، أكثرَ اتِّزانًا و رَوية. بحيثُ أنه لا يتَطَلَّبُ القتلَ أو تَدبيرَ المَكيدات، لا يَتَضَمَّنُ تَجنيدَ قانونِ الكارما لصالحِنا أو إعادةَ حفرِ الجرحِ بنفسِ العُمقِ في قلوبهم. إن الانتقامَ الإيجابي أسهلُ من ذلك بكثير، أسهلُ و أبسَطُ من ارتدادِ سَهمِ الخَيبة، لكنهُ أفضلُ و أقوى أنواعِ الانتقامِ على الإطلاق. إنه الانتقامُ بالصمتِ و النجاح. بحيثُ يُعرَّفُ الانتقامُ الإيجابي بعدمِ إبداءِ أيةِ ردّةِ فعلٍ تجاهَ ما حدثَ في الماضي، في ابتلاعِ كلماتِ الوَعيدِ و المُضي قُدُمًا. ما يميّزُ هذا النوعَ من الانتقام هو أنه كسفينةٍ تَنتَشِلُنا من دورِ الضَحية، بل إنهُ أبعَدُ ما يكونُ عن ذلك الدَور. فمن ينتَقِمُ بالفعلِ و الكلامِ و التَجريحِ ليس سوى ضَحية، ضَحيةٌ تتعطَّشُ لامتِدادٍ في جرحِها، ضَحيةٌ تتوقُ إلى تَسريبِ جَرحِها إلى ذلك الجاني. كما أن الضحيةَ التي تنتَقِمُ تتحوَّلُ إلى جانٍ فتُساهِمُ في تَكاثُرِ نسلِ الجُناةِ على هذه الأرضِ الطاهرة. هذا هو ما يفعلهُ "الانتقامُ المشروع" بمُتَّبِعيه. في نظَري، إنه يُعتبَرُ انتقامًا بِدائيًا و غير حَضاري، فلو فكَّرَ كل إنسانٍ في جَرحِ مَن يكرهُ بنفس الطريقةِ التي جَرحهُ بها لتحوَّلَت الدنيا إلى غابةٍ دون أسد، دون مَلك، فعندَها سيكونُ الجميعُ مُلوكًا في أعيُنِ أنفسِهم، و سيرتَفِعُ منسوبُ الأنا بطريقةٍ مُريعة، مما سيؤدّي تَدريجيًا إلى اضمِحلالِ حَضارةِ السيادةِ و القيادة، و ليس هذا ما يُريدهُ البشَر، لا سيما أنه سيستَمِرُّ حتى انقراضِ الخَليقة.
يبقى الانتقامُ الإيجابي هو السبيلُ الأرقى و الأسلَم، حيث يَستخدمُ المَرءُ سِلاحًا فتّاكًا ضدَّ غَريمه، ألا و هو سِلاحُ التجاهل. يكفي أن ننجَح، يكفي أن نستَمِرَّ في تحسينِ أنفُسِنا و تطويرِ حياتنا حتى نعتَلي بطُموحنا فوق كل سَقف. يكفي أن نوقِظَ الوعي في أعماقِنا و أن نبدأَ باكتشافِ ذلك العالَمِ الغريب، عالَمِ الذات. في اللحظةِ التي نُقّرِّرُ فيها الالتفاتَ لأنفُسِنا و الانطلاقَ في طريقِ نجاحِنا، سيعلَمُ الجميعُ أنهم ليسوا محَطَّ اهتمامِنا، سيدرِكونَ حقيقةَ أنهم لا يستحقّونَ التِفاتةً واحدةً منا و أنهم لم يكونوا يومًا محوَرَ أكواننا.
أريدُ من كل من يقرأُ هذا المقالَ الآن أن يأخُذَ شهيقًا طويلاً و أن يبدأَ بتَطبيقِ خطّةِ الانتقامِ الإيجابي. هل تذَكَّرتَ ذلك الهدفَ الذي لطالَما رَغبتَ في تحقيقه؟ نعم، إنه الهدفُ ذاتهُ الذي جعلَكَ تبتسمُ و أنت تقرأُ هذه الجُملة الآن، أريدكَ فقط أن تتخيَّله، أن تتخيَّلَ نفسكَ المُنهكةَ بعد أن جعَلتهُ حقيقة، أريدكَ أن تتذوَّقَ حلاوةَ جَبرِ الانتصار. لا يُهمُّني ما هو ذلك الهدَفُ الذي يحتَلُّ تفكيركَ في هذه البُرهة، سواءٌ أكانَ افتتاحَ مشروعكَ الخاص، أو نيلَ الدرجاتِ العُليا في دراستك، أو الحصوبلَ على شهادةِ الماجستير، أو حتى خسارةَ بعضِ الكيلوهات الزائدة من وزنك. كل هذا ليس مُهمًّا، المهمُّ هو تحديدهُ و عقدُ العزمِ على تحقيقه، هكذا ستنتَقِمُ منهم دون أن تشعر، دونَ أن تُحاولَ.