يراه المصريون كرفيق حياة طيب متفاعل، فقد جري فوق أرضه الطيبة السمراء آلاف السنين، ويصل إلى مصر بلهفة العاشق تتسارع أنفاسه بعد رحلة طويلة لا تخلو من مشقات السبيل، حيث يجتاز وديان ومنحدرات وتلال وهو مندفع إلى أعلى وإلى أسفل دون تخطيط للمسار حتى يصل إلى منهاه بدلال ورشاقة الوقور إلى مصبه.
لقد أطلق المصريون القدماء على نهر النيل في اللغة المصرية القديمة "إيترو عا" بمعنى (النهر العظيم)، وتشير الأصول اللغوية لكلمة النيل إلى أنها من أصل يوناني، " نيلوس "، بيد أن آخرين تحدثوا عن أصول فينيقية للكلمة اشتقت من الكلمة السامية "نهل" بمعنى (مجرى أو نهر).
والأنهار جسور بين الأرض والســــماء، ورســــل الحياة من السماء. وأن تلك الأنهار باتت اليوم تتعرض لهجوم من قوى الشر ابعد سريان عللها في أرجاء المعمورة لتدمر إنجازات البشرية، وتدمر الأنهار التى هي دساتير الحياة، وبكل قسوة تُفني الحياة بكل معانيها وصورها، كل يوم نرى آثارها المدمرة في مواطن الأنهار مهد الحضارة ومنابعها الأولى.
في زمن العصر الحجري توافرت مقومات الحياة البشرية في منطقة شمال إفريقيا حيث تنمو الأعشاب والأشجار واستيطان قطعان الغزلان والأبقار والأغنام، فاعتمد الإنسان على صيدها باستخدام آلات بدائية عُثر على كثير منها في صحراء مصر الشرقية والغربية.
" فليحيا الإله الكامل، الذي في الأمواه جمع مياه) ، إنه غذاء مصر وطعامها ومؤونتها، إنه يسمح لكل امريء أن يحيا، الوفرة على طريقه، والغذاء على أصابعه، وعندما يعود يفرح البشر، كل البشر".. تلك ترنيمة دوّنها المصري القديم في نصوصه الأدبية تبرز قدر عرفانه لنهر النيل، جاعلاً منه "الإله" الخالق لمصر، واهب الحياة والخُلد لها منذ القدم..
ولعل من أبدع تفاعلات أهل الأدب والشعر في عشق النهر الخالد ما أبدعه أمير الشعراء أحمد شوقي ..
النيلُ العَذبُ هُوَ الكَوثَر
وَالجَنَّةُ شاطِئُهُ الأَخضَر
رَيّانُ الصَفحَةِ وَالمَنظَر
ما أَبهى الخُلدَ وَما أَنضَر
البَحرُ الفَيّاضُ القُدسُ
الساقي الناسَ وَما غَرَسوا
وَهوَ المِنوالُ لِما لَبِسوا
وَالمُنعِمُ بِالقُطنِ الأَنوَر
جَعلَ الإِحسانَ لَهُ شَرعا
لَم يُخلِ الوادِيَ مِن مَرعى
فَتَرى زَرعاً يَتلو زَرعا
وَهُنا يُجنى وَهُنا يُبذَر
جارٍ وَيُرى لَيسَ بِجارِ
لِأَناةٍ فيهِ وَوَقار
يَنصَبُّ كَتَلٍ مُنهارِ
ولعل من الإشارات الأولى لارتباط المبدع المصري بنهر النيل العثور على ثلاث لوحات تصف جميعها المراسم، الدينية والشعبية، التي تحتفل بفيضان النيل، وتعود إلى عصر الملك رعمسيس الثاني ومرنبتاح ورعمسيس الثالث، وتشير إلى أن الملك كان يحضر الاحتفال الذي يبدأ بذبح عجل أبيض وأوز وبط ودجاج كقربان، ثم تُلقى في النيل "رسالة" مكتوبة على ورق بردى تتضمن أناشيد تمدح النيل اعترافا بفضله.
ويواصل الاستفادة من الفنون المصرية القديمة وارتباطها بالنيل الفنان المصرى المعجزة محمود مختار (1891– 1934) الذى استلهم أسس فن النحت المصرى القديم من حيث متانة التكوين والتوازن في البناء والهندسة غير المنظورة للأشكال..
لقد نحت"مختار" تمثاله "رأس عروس النيل" في 1929، بخامة البرونز، حيث قام بإضافة أدق التفاصيل الخاصة بعروس النيل في عمله النحتي، المتمثلة في انحناءة رأسها الخجلى كعروس مصرية ، مرتدية حلقها وزينتها الفرعونية فوق رأسها وتفاصيل السلسلة على رقبتها، كما اهتم الفنان بملامح العروس ورسم عينيها بالطريقة الفرعونية المعروفة.
أما الفنان الرائد "صلاح طاهر" فقد كانت لوحته التي مثلت "الطبيعة المصرية المنفتحة على مياه نهر النيل" لتبدو من أصالة مصريتها وكأنها توثق البيئة والمناخ الصعيدي بعدماهه ركزت عين الفنان على صورة النيل ، فأبدع في رسم النيل مُختلطًا بالموجودات البيئية الساحرة في تمازج وتركيب ألوانها، كما اكتمل بنيان العمل برسوم مراكب الصيد بالأشرعة ، نرى في العمل رؤية ناقلة بإبداع للحياة والطبيعة المصرية الأصيلة التي تتميز بوجود المُسطحات الخضراء والنيل.
إن نهر النيل بصورته عبر التاريخ يعبر عن فلسفة وفكر بالنسبة للتراث الإنساني أجمع، وليس فقط مصدر مياه للشعوب المستفيدة منه، حيث خلق شخصية المصريين في مقولاتهم الشعبية وأفكارهم ومعتقداتهم "لقد بنى المصريون حضارتهم على ضفاف النيل وتأثرت بها كافة حضارات العالم، وكان أبرز تلك المظاهر تأثرهم بشكل الكتابة والخط الهيروغليفي..".
من أبيات المبدع الراحل " فؤاد حداد".. " من القوافي لمّا خدت الأمان، قلّدت بحر النيل بلا استئذان، بين الشواطئ أمشي في الأحضان، وأضاحك الفجرية وأسقي الغيطان، وأهدي الكباري نظرة الولهان، وأكسر خيالي في كل عود إنسان، وفي نيّتي أكبر من الفيضان، الضي بعد الري من أسوان، عِبرة حياتي وصنعة الفنان، معنى المروءة وزرع الاطمئنان، في كل مطرح لما ألاقي حنان، وألاقي قعدة تجمع الخلان، وألاقي نسمة من هوى الأوطان".. وهكذا يسير، متقمصَّا روح النهر، منطلقًا في دهاليز الإلهام وفياضًا في المعنى والإبداع، من بين كثير من تشبيهات فؤاد حدّاد لطلاوة شِعره وتفجّره، يظل تشبيهه بنهر النيل أشمَل وأجمَل.."
أما الفنان "أيمن سعداوي" فقد قال عن معرضه "النيل" الذي أقامه عام 2018، عن تأثير النهر الخالد على حياة المصريين اليومية قائلاً: لقد امتهن البعض حرفة الصيد للحصول على قوت يومهم، والبعض أخذ "نهر النيل" كوسيلة انتقال، وقد تناولت ذلك الواقع المصرى فى عدة مراحل، بداية من العصر الفرعونى إلى الآن، وذلك لأهمية هذا الشريان، وما ينتج عن وجوده من نشاط بشرى نابض بالحياة، وذلك من خلال أعمالى الجديدة في المعرض ومنها "عروس النيل"، و"خير النيل"، و"صيد العصارى" "الصيادين الثلاثة"..
ويتميز نهر النيل بموقع جغرافي فريد جدًا حيث أنه يبدأ من المرتفعات مرورًا بالأراضي المنخفضة حتي يصل إلى السهول الفسيحة والموجودة في أقصي الشمال عند المصب، والسبب في ذلك هو ميل الأرض من الجنوب إلى الشمال، ويشكل نهر النيل أهمية أقتصادية كبيرة تؤثر بشكل كبير على اقتصاد الدول التي يمر بها، فيعتمد عليه المزارعون في مجال الزراعة وذلك لوفرة مياهه وتوفير الطمي ومن أشهر المحاصيل التي تتم زراعتها علي ضفتي النيل هي القطن وقصب السكر والبقوليات والبلح. كما يشكل نهر النيل أهمية كبيرة في مجالي السياحة وصيد الأسماك النيلية والتي تعتبر من الأكلات المفضله لدي الكثير من سكان هذه الدول، أما في مجال السياحة والتي تستغله كل من دولتي السودان ومصر فتقوم السياحة النيلية حيث تنقل المراكب النيلية السياح بين السدين الثالث والرابع الموجودين في شمال السودان، وبين منطقتي جوبا وكوستي بجنوب السودان ،ومدن الجيزة والمنيا وقنا وسوهاج وأسوان بدولة مصر ..