لا أحد يعلم ماذا ترتب على توقف عزرائيل عن ممارسة وظيفته هذه الساعات ، من المؤكد أن ما فعله عزرائيل جُرم كبير لا يقاس بجرم النبي الذي ابتلعه الحوت واستضافه لثلاثة أيام ثم لفظه ، لو قارنا بين عقاب عزرائيل الذي أخطأ مرة واحدة ، وعقاب البشر الذين يخطئون كل ثانية ، لعرفنا كم هي عظيمة رحمة الخالق على البشر ، كم من البشر ينتزعون أرواح بعضهم تحت مسميات مختلفة دون أوامر أو سلطة لأداء هذا الفعل الإجرامي ، كم يُخطئ القادة والرؤساء وتهرق دماء شعوبهم باطلة نتيجة هذا الخطأ ، لا حساب فوري ، ولا أسماك قرش فاتحة فاها لتبتلعهم داخل زنزانة جوفها ، بل يزدادون في غيهم ، يعيشون في ترف والشعوب تجني نتيجة أخطاء نفوسهم المريضة ، لكن أعتقد أن يوم الحساب سيكون عسيراً . تابعت سيلفيا الأحداث ، وتيقنت عندما سقطت الطائرة في الماء أن هذه اللحظة هي لحظة نهاية وظيفة عزرائيل ، لتتسلم هي مقاليد عمله ، شعرت بارتعاشة صيفية تجوب جسدها وهي تتوقع ظهور الغريب في أية لحظة .
********
بين حاثة الطائرة الأولى والثانية ، كثرت الإشاعات واجتاحت العالم كله ، الأولى التي حلقت بركابها دون قائد ثم هبطت سالمة ، والثانية التي حلقت خاوية دون ركاب ودون قائد ، ثم سقطت في الماء وانفجرت وكأن هناك من يوجهها . أمور كثيرة تحدث في أرجاء متفرقة من العالم ولا تجد تفسيراً لها ، عزرائيل لا يقوم بممارسة عمله بعد أن سُجن في جوف سمكة القرش . ما يقرب من ثلاثة أيام والموت لم يقترب من أحد ، خلت صفحات الصحف التي تنشر نعي الذين رحلوا ، الحانوتيه يندبون توقف أعمالهم ، حوادث تقع من المفروض أن يكون لها ضحايا ويخرج منها الجميع دو خدش ، أغربها حافلة ممتلئة بالسياح الأجانب فجرها الإرهاب وتناثرت أجزائها مشتعلة ، لكن الموت لم يقترب من أي فرد بها ، أخرى انهيار مبنى من خمسة عشر طابقاً تساوى أعلاه بسطح الأرض ، نجى الجميع حتى الأطفال في شهورهم الأولى . حوادث من كل نوع يعلن عنها في العالم كله ويُعلن عن نجاة كل الأرواح ، ألآف من علامات الاستفهام والتعجب لا تجد إجابة . بعض رجال الدين قالوا أنه المؤشرعلى أن نهاية العالم أصبحت وشيكة . امتلأت دور العبادة بالمصلين ، محاولة التوبة قبل أن يدق جرس النهاية وتحين لحظة الحساب المحتمة على كل البشر . الخوف أصبح الزعيم الأوحد الذي يفرض سطوته على الناس . واحدة فقط تعلم الحقيقة ، سيلفيا التي أصبح مقرراً لها أن تقوم بوظيفة عزرائيل ، خوفها من نوع آخر ، تنتظر قدوم الغريب ليكلفها بأول مهمة ، كم عدد الذين ستقبض أرواحهم في أول مهمة العلم عند الله ، هي المنفذة لأحكام الموت على البشر في العالم كله ، ليس من المعقول أن تكلفَ بمهمة واحدة ، ربما مئة ، ربما ألف ، ربما ألاف ، كما يأمُر دفتر المقرر لهم الرحيل في كل لحظة ، بالضبط كدفتر المواليد ، كل لحظة تُقيد به مواليد جدد ، أيضاً دفتر الوفيات مقيد به المقرر رحيلهم عن العالم لحظة بلحظة . منذ أن قابلت الغريب واضطرت للموافقة على القيام بمهمة عزرائيل تحت عذاب النيران التي أحرقت ساقيها لا يغمض لها جفن . أتت اللحظة الحاسمة ، في حديقة منزلها تنتظر ساهرة مشتتة الفكر ، زوجها وطفلها في الفراش ، وحيدة تستعرض في ذهنها الدور الذي أصبح لزاماً عليها أن تؤديه . فجأة خرجت من أرض الأفكار إلى أرض الواقع ، دون إي مقدمات كان الغريب بجانبها على نفس الأريكة ، فَزعت ، ابتسامته الهادئة أعادت لها توازنها بعض الشيء . على غير وعي نزفت عيناها دموعاً لا تدري كنهها ، لم تستطع تسميتها ، المؤكد أنها تلك الدموع التي تعلن عن نفسها عندما يجد الإنسان نفسه لا حول له ولا قوة . ربت الغريب فوق ركبتها ، اجتاحت جسدها رعشة انتقلت إلى يده ، شيء من الشفقة في عينيه ، إزدادت الربته وسألها :
-ما الذي يخيفك ؟!
- ألا تدري ما الذي يخيفني !!
- ما ستقومين به لا يضعك في مرتبة القتلة ، إنها وظيفة كأي وظيفة ، أليس من المفروض على البشر أن يدينون بالطاعة ، أنت منفذة لأمر غير بشري يستوجب الطاعة ، لست أعلم لماذا تخشون عزرائيل !! ، وظيفة عزرائيل هي نقلكم من حالة إلى حالة ، الانتقال من الحالة الجسدية إلى الحالة الروحية ، الانتقال من حالة التعب والشقاء إلى حالة الراحة من هموم الدنيا التي أصبحت تطبق على نفوس الجميع دون استثناء ، الفقير له همومه ، الغني له همومه ، المريض عليه هموم المرض ، الُمعافى يعيش هموم الخوف من المرض ، كل البشر تملأهم الهموم منذ أن يعوا الحياة إلى أن يغادرونها . - إنني لا أفكر في الأمر من هذه الناحية ، الجزع يتملكني عندما أفكر أن يدي ستمتد لتقبض أرواح إناس قد أعرفهم أو لا أعرفهم .
امتدت يد الغريب نحوها بشيء لونه أخضر يشبه القلم ولا يزيد عن حجمه قائلا:
- هذه هي اليد التي ستقوم بالمهمة ، ليس عليك سوى توجيهها إلى من ستكلفين بإنهاء حياتهم ، ستضيء باللون الأخضر بمجرد أن تترك الروح الجسد ، سترين على شفتي من ستقومين معه بهذه المهمة ابتسامة ، وكأنه يشكرك على إراحته من هموم الدنيا .
- ولماذا منذ البداية يأتي البشر ليرحلوا عنها بعد ذلك ؟! ابتسم الغريب قائلاً : - ما تنظرين إليه على أنه شيء مُحزن ، في الحقيقة هو شيء مُفرح ، قدوم أي مولود إلى الحياة ما هو إلا منحة له ، إذا اجتاز اختباراتها ، يُكتب له أن يعيش بعد انتقاله في سعادة لا نهائية .
- وإذا لم يجتز هذه الاختبارات ؟ - بالضبط كما يحدث الآن لكم في الدنيا ، الذي لا يؤدي واجبه في دراسته أو عمله يكون نصيبه الفشل في الدنيا ، أيضاً الذي لا ينجح في اختبارات منحة الحياة والآخرة ، يفشل في الوصول إلى السعادة اللانهائية التي يعدها سيدي للناجحين ، وجزاء الفشل دائماً هو العقاب ، وعقاب الدنيا يختلف عن عقاب الآخرة . أطلقت سيلفيا زفرة حارة ، ربت الغريب فوق ظهرها قائلاً : - هل لا تزالِين خائفة ومتهيبة ؟
- أعتقد أن المهمة بالنسبة لي ليست بالسهولة التي تدعني أكذب وأجيبك بأنني لست متهيبة ، وما يشغلني أكثر ، كيف سأصل إلى الذين كُتب عليهم الرحيل من الدنيا ؟
- هذه مسئوليتنا ، ما كان يحدث مع عزرائيل سيحدث معك (ضاحكاً) هل تظنين أن عزرائيل يتنقل بطائرة خاصة ، سأريك الآن أن الأمر أسهل بكثير مما تعتقدين . في كل فترة سأسلمك كشفاً مدوناً به أسماء المكتوب عليهم الرحيل ، وفي اللحظة بالضبط المدونة أمام كل اسم عليك أن تشيري نحو اسمه بالعصا التي معك ، في ذات اللحظة ستنتقلين إليه ، أشيري نحوه بالعصا وفي أقل من لحظة سينتهي كل شيء .
- ألم يحدث أبداً أن روحاً تمردت وعصت ؟ - الإشارة بالعصا أمر بالرحيل غير قابل للتفاوض .
- هل تم اختياري لهذه المهمة ، لأني كنت سيئة في سلوكي وارتكبت الكثير من الخطايا ؟ - إطلاقاً ، وهل عزرائيل أُختير لهذه المهمة لأنه سيء أمام الله ، إنها مجرد وظيفة ، أنتم كبشر تنظرون إليها على أنها شيء سيء ، لأن مجرد كلمة الموت تخيفكم ، وتطلقون عليه هادم اللذات ومفرق الجماعات ، لكن بالنسبة لنا كما أخبرتك من قبل ، مجرد عملية انتقال ، ولذا فالأديان جاءت كدرس خصوصي للبشر ، من يفهمه جيداً يضمن نجاح الانتقال للأفضل .
-متى سأبدأ ؟
ابتسم الغريب وهو يقدم لها قائمة كبيرة مدوناً به أسماء ، نظرت إلى الكشف ، سألته :
- وما هذه الأسماء التي وُضعت أمامها علامات حمراء ؟ - أسماء المفروض أنها رحلت ، لكن توقف عزرائيل عن مهمته في الفترة السابقة ، عطل رحيلهم ، عليك من الآن ، أن تستغلي فترة توقفك عن القيام بمهمتك ، لتشيري نحو أحدهم بالترتيب ، حتى تنتهين منهم جميعاً ، على أن يتم هذا سريعاً ومن حسن حظك أنه ليس بينهم من تعرفينه ، حتى لا ينتابك ضعف البشر وتتباطئين عن قصد في الإشارة نحوه . ولكي تعرفي عدالة سيدي ، هذه الفترة التي أمضوها في الدنيا فوق أعمارهم ، ستحتسب لهم الأعمال الصالحة فقط ، ولن يُنظر إلى الأعمال السيئة التي ارتكبوها خلال هذه الفترة ، لأن هذا التأخير في الرحيل لم يكن لهم يداً فيه . ألقت سيلفيا بالقائمة فوق المقعد ونهضت غاضبة :
- أنا أيضاً تأخر رحيلي لم يكن بيدي ، عزرائيل هو الذي تراخى في أداء مهمته ، فلماذا تقسون على كاهلي بوظيفته . أمسك الغريب بيدها وأعادها لمكانها قائلاً : - تصرين على فهم كل شيء ، حسناً .. هل تتذكرين يوم واجهك زوجك بخيانتك ، وأقسمت حانثة تنكرين أنه واهم ، وقلت له بأنك كنت تتمنين لو كنت عزرائيل لتقبضين روحه بيدك ، ظللت ترددينها أكثر من مرة ، وها هي أمنيتك تحققت . - وهل كل من يتمنى على الأرض تتحقق أمنيته بهذه السهولة حتى لو كانت تعتبر من المستحيلات !
- البعض يتمنى وهو لا يعلم أن ما يتمناه يمكن أن يكون شراً عليه ، ويلح في طلب أمنيته ، ونتيجة لهذا الإلحاح تتحقق أمنيته ويتحمل هو شرها .
- وتحققت أمنيتي التي طلبتها في وقت الغضب .. أتقصد أن تقول هذا !! - الأمنية هي الأمنية ، بغض النظر في أية حالة يكون طالبها ، الفيصل هو هل تتحقق أم لا. - معنى هذا أنني سأقبض روح زوجي بناء على أمنيتي ! - لا أستطيع أن أؤكد أو أنفي ، هذه علمها عند سيدي وكفى فلقد استفضت معك بما فيه الكفاية ، معك القائمة وعصا الرحيل ، إبدأي مهمتك وسأراك كل فترة ،لأتمم على عملك ، وأمدك بقائمة جديدة .
وإلى اللقاء مع الحلقة القادمة ؛