مُنذ خَطّت قَدمي فاغبرّت بهذه البلاد ، وأنا أرى عَجَبا عُجَابَا ، في البِدءِ شَقَّ الأمرُ ريثما اعتاده ، استدعى إيقاظي في سَاعاتٍ اللّيلِ وبواكير نهاري ، قديما عوّدت نفسي ألَّا انتَزعها من الفراشِ قبل أن آخذ قِسطَا من الرَّاحةِ كَافيا ، وإني والله لفي عَجب ؛ إذ كَيفَ الانصياع لهذه الأمور العَارضة بهذا الانجذاب ، كُنتُ في مَهدِ طُفولَتي الغَابر ، اطرب لأمثالِ هذا الاِنزعاجِ ، فصياح الدِّيكة ، وزَقزَقة العَصافير ، وزعيق الرِّيفيات أمام كوانين الناَّر ، كفيلٌ لأن يُثير حَفيظتي ، تَصَادف تحت شباك غرفتي ساحة فارغة ، امتلأت بصنوفِ الخُردة ، غسالات ملابس قديمة ، أكوام الحديد لأسرّة مُمزَّقة ، نهشت الشّمسُ قواها ، مِزقٌ مُتَفرِّقة من الوسَائد والحَشَايا العَطِنة التي أصَبَحت موطِنَا للفئرانِ ، ومَرعى للهوامِ ، يبكر ضيفي ، مصري جنوبي ضيق الصَّدر حرجا ، يبدأ كلامه بنبرةِ توَدّدٍ ممجوج ، عبارات ركيكة من الغزلِ الصَّريح ، تنسكب من فمهِ تصبغها مراهقة مُتأخِّرة مهتزة ، تصابي مرذول ، يتكلف صاحبه الحب ، حِرمانٍ نُقِع فيه ِ قلب الرَّجل ، بعد هنيهة يتحول مسار كلامه ، فَيُطلِق سَيلا جَارِفا من السِّبابِ، اتزحزح قليلا جهة الموقد ، واشرعُ في تهَيئةِ شاي الصَّباح المُعتاد ، فالجَلسة حَتما ممتدة ، خاصة بعدما استَقرَّ بالرَّجل مُقاَمه ، تبدأ وصلة أخرى أشدَّ ضَراوة ، تنسكبُ من فمهِ أسرارا ما كانَ لمثلي أن يعلمها ، يرتدّ على عقبيهِ، يتلطَّف مُحَدِّثه طالبا مهلة ، فالظروف قاسية ، يُعَاود مُلاينته في تَلهُفٍ ، ، لينهي حديثه بعبارةٍ واحدة محفوظة :" أدق الإقامة وأنزل دغري "، تتكرَّر هذه الجلسة كُلّ صباح ، ينهيها كما بدأها ، حتّى جاء يوم فحدثَ ما كُنتُ أخشَاه ، لم يأت صاحبي ، أجدبَ المكان ، فلم يعد لهُ صوته يُبلّلُ جفاف صَباحي ، سَافرَ الرجل دونما إشعار ، شعرتُ بفرَاغٍ يَضربُ بأطنابهِ ، اجتَاحَ المَللُ حياتي ، اصحو كالمُعتَادِ من نومي فلا أثر لبطلِ هاتيك الحَكَايا التي تُهدهد مسامعي ، مرّت الأيام كئيبة لا اطيقُ صَبرا ، لا التفت خلالها لضيوفي الجُدد ، لم يكن لوقعِ حكاياتهم ذَلكَ التَّأثير القوي الذي كَانَ ، بل كانت أحَادِيثهم باهتة من صُنوفِ أولئك الذين شَبِعوا بعد جوعٍ ، واُترِعوا بعد شقاء من مُحدثي النِّعمة وما أكثرهم ، كان لي بعض خُلطة مع رفيقه ، تَجهّم قليلا وهو يُلملِمُ بقايا نفسه المُتشظّية ، ليدفع بمقذوفِ روحه المُحتَرقة ": أبو أمنية تعيش أنت !" ، احتَبسَ عَني الكلام ، وكأني لم انطق يوما ، اهتَزت الأرضُ من تحتي ، وتشاغبت شياطين المكان في حِلقٍ مظلمة ، تُرفرف بأجنحةِ الشُّؤمِ ، ارتدّت ذكرى الأيام حَارة ، تستَعرضُ نفسها في تبَجحٍّ أمامي ، ابتلعت ريقي المُتَحجِّر ثم انصَرفتُ ، وطنين الخوف يغمرني، وجَلبةً لا أعرِف مُؤتّاهَا تلسعُ قلبي المشبوب كالفولةِ فوقَ المقلاة ، لا تربطني بالفقيدِ رابطةٍ ، صدّقني حين أخبرك بأنّي لا أكادُ اُفِرقُ سِحنته من بينَ السِّحَنِ المغبرّة بأثقالِ الغُربة الملعونة ، أهو الخوفُ من نفسِ المَصير؟ ، أم هو الهولُ من مآل يتربص كُلّ مُغتَربٍ ، حَرَمته الدُّنيا مَتاعها ، ليجدَ نفسه مُشتّتا بينَ أحضَانِ الغُربَاء ، ليصبحُ أثرا بعد عين ، أمسكتُ بدفترِ يومياتي ، أدوِّنُ في صفحةٍ بيضاء ، وبِخطٍّ مُرتَعشَ :" ماتَ صديقي ، مَاتَ رفيق الشُّباك ، رَحَلَ دون أن يُخبِرنا عن لُغزِ الغُربة الملعون ،كَيفَ النّجاة من بطشها ، وإنّا على إثرهِ راحلون …".