لوحةٌ رسمَتْها أمّي بقلم المنتجب علي سلامي

لوحةٌ رسمَتْها أمّي بقلم المنتجب علي سلامي
لوحةٌ رسمَتْها أمّي بقلم المنتجب علي سلامي
 
كانت تُساهِرُني وتُسلّي وحدتي وتمازحُني وتشجّعُني بكلماتِ حنانِها ومحبّتِها وتضرُّعِها إلى الله ليأخذ من عمرها ويعطيني، و لأنجح ولايضيع تعبي وسهري سُدىً، عندما ينامُ مَن في بيتنا الطيّب جميعُهم، والرياح المجنونة المزمجرة تقاتل الأشجار المتمسّكة بالتراب وتحاول اقتلاعها عاجزةً، حول منزلنا الحجريّ البازلتيّ المتواضع الذي يتمسّك صامداً بكتف الجبل الصّلب ،
حتّى لا أمَلّ ولاأنعس ولا يُصيبني الشرود، ولا يغلبني النوم فأتاخّر عن السفر في الصباح الباكر إلى اللاذقيّة حيث جامعتي.....
وتتظاهر- بلا نجاحٍ - بالنشاط في حركاتها البطيئة المتثاقلة وهي تعاني عقوداً من مرض ترقّق العظام وآلام العمود الفقريّ والمفاصل، وهي تُعِدّ لي الشراب الساخن الذي أفضّله لتكسب جسمي شيئاً من الحيويّة و الحرارة  أطردُ بهما برد شباط الثقيل ،وتشاركني  احتساءَه مُجاملةً...
   وتتظاهر بالدفء وحبّ السهر ،والابتسامة المدروسة الدّاعمةُ لي لاتملّ ثغرها المنير ،أثناء تحضيري لامتحان الجامعة ،وهي تتثاءب من شدّة النعاس ولا تستطيع بيديها المباركتين أن تُخبّئ ذلك عن عينيّ العابثتين...
ويفضح شحوب وجهها المبارك شدّة آلام جسدها المُرهق الذي اجتاحته أمراض الكهولة وتعب السنين وهي تكافح من أجل راحتنا،  وكانت ترتجف من برد ليل الشتاء وتحاول أن تُخفي ذلك وتتكلّف الارتياح....
وقد قالت لي غير مرّة أنّها تشعر بتأنيب الضمير عندما تحاول أن ترتاح وتنام وتتركني قلقاً مُجبَراً على السهر في سبيل الدراسة حتّى الفجر...
إنّها حبيبتي....
إنّها أمّي....
أمّي، التي غدرها المرض  فغادرتنا إلى جنّة الله من سنوات في آخر أيّام الزمن الجميل.
وكانت تكرّر قائلة لي:
(الله يحميكْ ويسّر طريقك ويرضى عليك ويبعد الحسّاد عنك ويحبّب النّاس فيك..)
هذه الكلمات وسواها كانت تردّدها أمّي بعد سيل من نصائحها التي أدمنت قولها لي، متضرّعةً إلى الله من أجلي، وقد تعوّدتُ سماعها مراراً وتكراراً حينما أخرج من البيت صباحاً قاصداً مكان عملي فتشعرني تعابيرها الصّادقة بالرّاحة والطمأنينة والقوّة وتصبّرني على قساوة ماألقاه في دربي وفي ساعات عملي.....
كانت ترافقني أمتاراً بجانب البيت وأنا أسرع بخطواتي  منافساً الدقائق كي لا أتأخّر عن موعد وظيفتي.... 
كانت تتأملني والبسمة لا تُفارق ثغرها بعينيها الحاملتين لفيض من الحبّ والحنان والإعجاب والتّشجيع  وكأنّني مسافر إلى بلد بعيد و سأغيب عن ناظريها سنوات أوكأنّني ذاهب لأحصل على وسام عالميّ...
كانت تدقّق النّظر في تفاصيل لباسي وهي تمازحني، وكأنّني منطلق إلى حفلة زفاف  وتعطي رأيها في تناسق ألوانه ومناسبته لظروف الطّقس ، وتسارع بيديها المباركتين لإزالة خيط عالق على القميص أو غبار على البنطال أو شعرة على كتفي......
كانت تذكّرني يوميّاً دون كلل أوملل بأشيائي الخاصّة التي أحتاجها في طريقي وعملي قائلة بحرص وغيرة: (أمّي، تأكّد ،لاتستعجل، لاتنس هوّيتك .بطاقتك...دفترك....المحارم....قنينة المي...المصاري.....)...
وحينما أعود بعد الظّهر إلى البيت أراها منتظرة خارج البيت تراقب بلهفة مجيئي من بعيد وعندما أقترب منها تكون قد همّت بدخول البيت بعد اطمئنانها على عودتي سالماً و تتظاهر بأنّها تعمل و فوجئت بقدومي لأنّها تعلم أنّني كنت أنزعج من مبالغتها في ذلك وأخجل فأنا لم أعد صغيراً فقد أصبحت رجلاً وأشفق عليها وقد تناست مرضها وهي المريضة الصّابرة ،من عناء إضافيّ على معاناتها داخل المنزل.