إدوارد فيلبس جرجس يكتب : محاكمة عزرائيل ( 4 )

رفعت سلفيا عينيها بنظرة لا توحي بالفهم قائلة :                                       

- لست أفهم ماذا تعني بأنني آخذ وظيفته !!                                              أجاب بنفس الصوت الهادئ:                                                           - قبل أن أوضح لك ماذا أعني ، يجب أن أقول لك بأن سنوات عمرك توقفت عند اللحظة التي كان من المفروض أن يقوم عزرائيل با قتطاف روحك ، أي ستبقين دائمأ في هذه المرحلة ، لن يتقدم بك العمر ، ستحتفظين بهيئتك كما هي ، ستعيشين لأجل غير مسمى ، حتى سيدي لم يحدد هذا الأجل حتى الآن ، لأن وظيفتك تستدعي ذلك .     بالرغم من حرارة طقس يوليو التي تبدأ مع الصباح ، انتابتها رعشة فاقت الرعشة التي لازمتها منذ أن تقابلت مع الغريب ، لاعب الخوف قلبها فازدادت دقاته  كطبول الحرب ، قالت محاولة أن تشيح بوجهها بعيداً عن نظراته :                           

- لقد زدت الأمور تعقيداً ، لم أفهم من حديثك أي شيء ، لست أفهم عن أي وظيفة تتحدث ؟ ومن هو سيدك الذي لم يحدد أجلي بعد ؟ لماذا تحيط كلماتك بالغموض !!، أشعر كما لو كنت في كابوس لن ينتهي .                                            لاحت شبه ابتسامة غامضة فوق وجه الغريب وأجاب :                               

- لست أتعجب من كلماتك ، أعلم أن البشر لا يعرفون للصبر طريقاً ، دائماً في عجلة  يستبقون الأحداث ، يودون لو ينتزعوا الغيب من غياهبه ، يصلون للقمر ويقفزون إلى المريخ ولو بيدهم لصنعوا برجاً يعتلوه لغزو السماء وهم لا يزالوا لا يعرفون عن الأرض التي يعيشون فوقها سوى قشرتها ، أما باطنها الذي هو نهاية كل بشر لا يريدوا أن يفكروا فيه ، أو يضعوه في اعتبارهم ، لأن قشرة الأرض أعمت عيونهم وشهواتهم ، إلى أن يأتي اليوم الذي يجدون أنفسهم في باطنها وهم يجهلونه .                                       نهضت واقفة بعصبية وكادت أن تنطق بعصبيتها ، لكن النظرة الحادة التي أطلت من عيني الغريب أعادتها إلى جلستها المتكورة على نفسها وشعاع من الخوف والقلق يمتد بين عينيها ، مرددة في خفوت :                     

- يا ألهي ، لست أفهم لماذا أنا هنا !! لست أفهم .. لست أفهم قترب     الغريب منها ، وضع يده أسفل ذقنها رافعاً وجهها محدقاً داخل   عينيها قائلاً :                      - ولهذا أتمهل في إبلاغك بالمطلوب منك ، لأن ما استمعتِ إليه حتى الآن ، لا يقاس مطلقاً بما ستستمعين إليه الآن فانصتي جيداً.. عاد الغريب للخلف وتدحرجت الكلمات من بين شفتيه كصدى آت من بعيد : كما أخبرتك من قبل بأنها الأولى في تاريخ البشرية أن تأخذ عزرائيل سنة من الرحمة أثناء تأديته لوظيفته فتقاعس عن أخذ روحك وتركك لطفلك ، خالف أمر سيده ، فكتب لك الحياة وحكم على نفسه في سجن الموت أرحم منه فأصبح قدرك أن تحلين محله ، تأخذين وظيفته ، تقبضين روح من انتهى أجله ، تقبضين أرواح أعز الناس لديك حينما يحين أجلهم ، ستعملين عمل عزرائيل لأجل غير مسمى ، لم يحدده سيدي بعد .                                       انتفضت سيلفيا وهبت واقفة بجسد مهتز كقصبة تضربها      الرياح ، وجهها الممتقع لا يختلف كثيراً عن وجوه الموتى ، حاولت أن تلفظ بعض الكلمات المزدحمة داخل فمها ، لكن اصطكاكة أسنانها عاقت هروبها للخارج . حاولت أن تعدو بكل قوتها لكن قدماها أعلنتا التسمر بالأرض الواقفة فوقها ، اختنقت أنفاسها وكأن حبل المشنقة التف حول عنقها ، لم يكن أمامها سوى الثبات دون حراك لبعض الوقت ، استعادت شيئاً من جأشها المفقود ، بمجهود عظيم تمكنت من هزيمة اصطكاكة الأسنان ، فتسربت الكلمات المبحوحة مهرولة                           :                                          - لا يهمني من تكون ، ولن أفعل شيئاً مما تهرطق به ، اعتقادي فيك لن يخرج عن مجنون تحاول السيطرة على أفكاري ، لغرض أعوج في نفسك .                       

لم يهتم الغريب لكلماتها وقال وهدوءه لم يفارقه :                                      

- بالتأكيد أنت مخطئة في تفكيرك ، ما أنا سوى رسول إليك لأُبلغك هذه الرسالة ، وأرشدك إلى ما يجب فعله حتى تتقنين عملك ، ومن أرسلني لا يقبل التفاوض .          - إن كنت صادقاً في قولك ، أبلغ مُرسلِك بأني أطلب الموت ، حسب روايتك أجلي انتهى بالأمس ، فليسامحني في هذا اليوم ، وينهي حياتي الآن .                      

- لقد انتهى كل شيء ، وفات وقت التراجع ، سينفذ عزرائيل السجن في نفسه اليوم ، وأكرر ثانية من أرسلني لا يقبل التفاوض في قراراته .                                - وأنا أرفض التنفيذ .                                                                 

- ليس في صالحك أو بمعنى أدق ليس في قدرتك رفض قرار من أرسلني .           - وأنا أكرر بأنني لن أنفذ حرفاً واحداً من حديثك غير المعقول  .                      

 -  ليس لديك أي أمل للمقاومة ، ستجبرين على التنفيذ .                               - وأنا مصرة على الرفض .                                                          

 - يمكنني أن أتركك دقائق لعقلك تستشيرينه ، هذا كل ما أستطيع أن أقدمه لك من باب الرحمة ، وأعذر من أنذر كما تقولون .                                                

- أعتقد أنك تهدر وقتك ووقتي ، بالتأكيد زوجي استيقظ من نومه ، ويتساءل عن تغيبي عن  المنزل                                    .                                 ابتسم الغريب ابتسامة لا تحمل من الابتسام سوى انفراجة الشفتين ، انقض عليها ورفعها لأعلى وسط مقاومة مستميتة منها ، لكنها كانت أشبه بمقاومة العصفور ليد الصياد ، أتم مهمته وعلقها من ذراعيها في غصن من الأغصان الغليظة للشجرة التي كانت تقف بأسفلها ، رفع وجهاً ينطق بالصرامة وقال مهدداً :                           - فرصتك الأخيرة !                                                                   

- أرفض .. خرجت متوجعة من بين أضراسها .                                        جاء رفضها كحارس باب جهنم ، الذي ينتظر بفارغ صبر الأمر بفتح الباب على مصراعيه ، في أقل من لحيظة إندلعت من أسفلها ألسنة من اللهب لا تعرف الهوادة ولم تسمع عن شيء اسمه الشفقة ، لا تعرف سوى المهمة المكلفة بها لشي قدميها . تفحمت وامتد الاسوداد إلى الساقين الملفوفتين التي لم تهدر فرصة  طوال حياتها لإظهار تناسقهما  فتحولتا إلى لون الأبنوس وكأن يد نحات ماهر نحتتهما . ترددت بين أرجاء الغابة الفسيحة أصداء صرخاتها التي تحمل آلام لم يسمع عنها بشر من قبل ، فكرت في الموت في هذه اللحظة كجنة مليئة بالزهور ، لكن أين هذه الجنة ، لماذا لم تمت حتى الآن !!  ، لماذا لم تغب عن الوعي !! ، تعلم أن الإنسان عندما يجابه آلاماً فوق طاقته يغيب عن الوعي ، لكنها مستيقظة أكثر من أي وقت مضى  بدليل صرخاتها التي تكاد تقتلع الأشجار ، سمعت صوت الغريب يأتيها من أسفل:                      - ستظلي في هذه الآلام وهذا العذاب إلى ما لا نهاية ، هذا من يخالف طاعة سيدي ، هذا ما ينتظر كل البشر الذين يغضبون سيدي ، وهذا هو العذاب الذي كنت ستلاقينه لو انتهت حياتك بالأمس لاستهتارك وخطاياك وخيانتك لزوجك .                          دوت صرخات الألم تسأل الرحمة والعفو . . أجابها الصوت الآتي من الوادي :        - الرحمة والعفو لن تنظرينهما إلا إذا قبلت المهمة والوظيفة التي أُسندت إليك .          دوت الصرخات تحمل بعض الأمل :                                                    - أقبل .. أقبل .. أقبل .                                                               لم تدر كيف حدث هذا في لحظة واحدة ، أشار الغريب بيده نحو ألسنة اللهب فانطفأت لتجد نفسها واقفة أسفل الشجرة التي كانت معلقة عليها ، قدماها وساقاها عادت إليهما نضارة خيل إليها أنها أكثر من نضارتهما قبل أن يتفحما ، لا شعور ولا إحساس بالألم على الإطلاق ، برودة جميلة تلفهما وكأنها تدفنهما بين طبقات الثلج ، تنقلت نظراتها المذهولة بين ساقيها ووجه الغريب ، الذي عادت إليه ابتسامته الهادئة قائلاً :             _ لماذا ألمح الدهشة فوق قسمات وجهك ، ما حدث الآن شيء لا يذكر بالنسبة لمن خلق هذا الكون وما عليه .                                                                   سألت بذهول فوق ذهولها :                                                  

- هل تقصد أن سيدك هو الله ؟!                                                       - خلق لكم عقلاً لكي تميزوا وتفهموا ، لكنكم تكثرون من الأسئلة والشكوك أيها البشر .. والآن أعيد سؤالي ، هل قبلت المهمة أم تفضلين العودة لأعلى الشجرة ، متروك لك الخيار وبكامل حريتك ، لك عقل فاسأليه .                                               

قالت وكأنها توقع عقد اتفاق لا رجعة فيه :                                        

-  قبلت .. قبلت .. ورهن إشارتك .                                             

قال الغريب وهو يتنفس الصعداء محاكياً البشر سعيداً بانتهاء مهمته :                    - الآن يمكنك العودة إلى منزلك ، وأعدي الإفطار كما كنت تنوين لزوجك وطفلك ، ومن البديهي أنك ستنسين كل ما حدث معك وكأن شيئاً لم يكن ، لأن ما حدث لا يجب أن يخرج خارج رأسك لأي مخلوق ، انتظريني لأني سآتي إليك في أية لحظة  لأشرح لك مهمتك فالموت متوقف في كامل الأرض ، وهذا لا يجب أن يكون ، لأنه سيتسبب في اختلال أشياء كثيرة ، وحدوث أشياء كان مقدراً لها ألا تحدث ، خطأ عزرائيل والحكم الذي صدر عليه ، تسببا في اختلال موازين كثيرة .                 

*********

لم يمض سوى أربعة وعشرون ساعة على حادثة الطائرة التي حلقت بركابها دون قائد ثم عادت سالمة إلى الأرض والغموض لا يزال يخيم على الموقف ، العالم كله يتحدث بدهشة عما حدث ولا يجد له تفسيراً  . شكوك علماء الفضاء تتجه نحو وجود حياة على كوكب آخر وأن سكانه قادرون على اختراق الأرض بأجهزتهم التي لم تصل العقول الأرضية إلى التفكير فيها . حطمت دهشة جديدة الرقم القياسي عقب الحادث الثاني الخارق للتفكير البشري ، الطائرة البوينج العملاقة الراسية على أرض المطار والمستعدة للإقلاع في تمام الساعة التاسعة بعد أن تستقبل ركابها ، تحركت فجأة من ذاتها بعد أن غادرها جميع عمال النظافة والصيانة ،  في ثوان إزدادت حركتها واتجهت إلى مدرج الطيران وأقلعت محلقة في الفضاء ، طارت وطار معها الهرج والمرج يعبث بالمطار كله ، برج المراقبة يردد صرخات هستيرية بأن الطائرة طارت من ذاتها ولا يوجد بداخلها قائد ، إنطلقت إشارات الإنذار تهُز المطار وكأنها توقظه من غفوته ، إشارات التحذير اتجهت إلى جميع المطارات داخل أمريكا وخارجها ، طائرة أقلعت دون أوامر ودون قائد ، تحذير انطلق من البيت الأبيض ، طائرة الرئيس بالجو  ، وزارة الدفاع تحذر من إرهابيين ، كثرت كلمة " ربما " ولم يوجد افتراض إلا وافترض ، صدرت الأوامر للطائرات الحربية للإنطلاق خلفها ومحاصرتها وإجبارها على الهبوط ، أوامر بعدم إسقاطها إلا في حالة محاولتها الإصطدام بأحد الأماكن الحيوية ، قائدوا الطائرات الحربية تطن داخل عقولهم الحيرة متسائلة ، يجبرون من على الهبوط ، كابينة القيادة لا يوجد بها طيار أو أي مخلوق ، أجهزة الاتصال بداخلها لا تعمل ، رويداً رويداً بدأت يتسرب إلى النفوس الاعتقاد المؤكد عن وجود كائنات غير مرئية من كوكب آخر داخل الطائرة وهي التي تقودها وتوجهها ، لكن إلى أين !! . الجميع وصلوا إلى مرحلة عدم القدرة بالجزم بأي شيء ، العالم كله في حالة ترقب ، القنوات التلفزيونية اتجهت كلها لمتابعة خط سير الطائرة ، الاسئلة تتردد بين المسئولين بطريقة آلية :   _كم ساعة يكفي الوقود الذي بداخل خزاناتها؟                                        

- خمسة عشر ساعة .                                                                

- يا ألهي خمسة عشر ساعة !                                                          - نعم المفروض أن هذا الوقود يكفيها لرحلة الذهاب والأياب من نيويورك إلى لوس  أنجلوس .                                                                                الجميع متيقظون والرئيس يتابع الموقف بنفسه من القاعدة الحربية التي هبطت بها طائرته بعد أُبلاغها بالخبر ، العجيب أن الطائرة اتخذت نفس مسار الرحلة التي تقوم بها يومياً . حتى هذه اللحظة لم تبدر منها نية الاصطدام أو تفجير أي شيء ، ولم يبدر منها أي محاولة للاتصال يوحي بأن بداخلها أي كائنات . وقود الطائرات الحربية على وشك النفاذ وتطلب التغيير ، تم التبديل فوق حاملة طائرات ترسو في عرض المحيط ، الطائرة على وشك الوصول إلى مطار لوس أنجلوس والاستعدادات كلها في حالة تأهب وطوارئ ، تم إبعاد الطائرات عن ممرات الطيران ، عربات الإطفاء تحيط بالمطار ، الطائرة فوق الماء ، فجأة ودون مقدمات تفضح خطوتها التالية ، نكست رأسها في وضع رأسي وهوت للماء في لحيظات ، اصطدمت بسطح الماء ، تقلب الماء على جانبيها ونشب الصراع بينها وبين جوفه المتأهب لابتلاع كل من يحاول أن يتحداه ، إنفجار هائل مزق أجنابها لتتصاعد قطع منها لأعلى ثم تهبط مع لهبها لأسفل ليتلقفها سطح الماء ، تغطى سطح الماء على مسافة قليلة منها بكميات كبيرة من الأسماك التي اختنقت نتيجة لضغط الانفجار . في هذه اللحظة ودون أن يلحظ أي بشر ، كان باب السجن يستقبل سجينه ، سمكة قرش لا تعرف المزاح فكيها مفتوحان على مصراعيها ، ليدلف من خلالهما عزرائيل إلى زنزانة جوفها ، عقاب عزرائيل الذي حُكم به عليه ، أخطأ مرة واحدة ، ونال عقاباً يتناسب مع تهاونه في إداء وظيفته.                                                       

وإلى اللقاء مع الحلقة القادمة ...