ـ النص القصصي:
قصة قصيرة خارج الزمن الحكومي
بِمقهايَ المُفَضّل، على مَرمى مَعبَرِ طريق، آنسني منظر حضور ظلالٍ تنتظر... مرّت حافلة... غادرتْ... سكنَ المكان... ساد الفراغ إلى حين.
لم يكن يومي ذاك مجرد رقمٍ في مذكِّرة أسبوع؛ آثرْتُ أن أخرج عن النص، أن أتمرّدَ كما مُمَثّل على قرارات مُخرِج... أعلنتُ بداية النهاية؛ أنزلتُ السّتار... لم يكن الحدث لَيُثير حفيظة الجمهور، أو احتجاجه، أو تحفّظه... سيكتفي بالقول:
ـ غادرَ فُلان... سَيُعَوِّضُه علّان... وهكذا دواليك...
يومها، قدّمتُ عبر البوابة الرقمية طلبا للوزارة:
ـ "يشرفني السيد الوزير أن ألتمس منكم إحالتي على التقاعد النسبي بعدما استوفيتُ الشروط...."
نعم، كنتُ قد استوفيتُ الشروط كلّها قبل الأجلِ الذي أقرّتهُ الحكومة وصادق عليه البرلمان...
غزى الشيبُ رأسي كما إعلان رسمي لبداية شيخوخة... ونقش خنجر الزمن تجاعيد على جبهتي كما صفحة بآلاف الجُمَلِ تُؤَرِّخُ لمسيرة عمر... ما عادتْ قدمايَ تحملني لكثرة ما عدْتُ أتبوّل في سروالي خذلاني... لا أتذكّرُ حتى إنْ ذات يومٍ أو شهرٍ أو سنةٍ كنتُ يافعا ووسيما وقويّا وسيد قومي وفارس حبيبتي...
نصحني أحدهم أن أكتب مُذكّراتي... أجبته:
ـ أخوات "كان" كلها أفعال ناقصة... "كنتُ ذات يوم... وأصبحتُ ذات يوم....".
تقاعد شهريار... نامت شهرزاد... لتبدأ حكاية أخرى؛ مسرحية قديمة / جديدة بمشهدٍ واحدٍ أضحى يتكرّر كلّ يوم (طابور مِنْ أشباهِ جُثثٍ تبحث عن حَجزِ سرير في المقبرة المجاورة)
عَكَّرَ نادل المقهى صَفْوَ هذياني؛ سألني:
ـ كم الساعة أستاذي؟
أجبتُهُ:
ـ لا أعرف... لقد تحرّرْتُ اليوم من ربطة عنقي، وتوقفت عقارب ساعتي عن الدوران... لقد قرّرْتُ أن أعيش ما تبقى خارج الزمن الحكومي.
بقلم خالد بوزيان موساوي/ المغرب
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
نص القراءة النقدية بقلم عبد الله الميالي من العراق
نحن أمام نص قصير مكثف، اختزل فيها الكاتب الكثير من التفاصيل مما درجت عليه القصة القصيرة التقليدية، فأصبحت تقترب رويداً من القصة القصيرة جداً في عقدي السبعينيات والثمانينيات من القرن الماضي، ولكنها بقيت محتفظة برونقها الأدبي، فالكاتب لم يرد أن يختزل نصه إلى درجة الانصهار في بوتقة القصة القصيرة جداً، ولم يرد أن يتوسع بالتفاصيل أكثر لكيلا يشعر القارئ بالملل، فحمل العصا من المنتصف، وأوصل رسالته بأبلغ وأجمل الكلمات الأدبية، فضلاً عن الجمالية في الوصف، وصفاء الإيقاع التعبيري.
العنوان: بما أن العنوان وانزياحاته بمثابة البوابة التي يدخل من خلالها القارئ إلى النص، فقد حدّد القاص هنا ثيمة موضوعه من خلال العنوان (خارج الزمن الحكومي) الذي كان كاشفاً إلى حدّ ما عن تلك الثيمة، فقد منح القارئ مفتاح النص منذ البداية، سواء كان هذا المنح إيمائياً أو صريحاً، فكان بطل القصة يعيش هواجس (التقاعد) في أول أيام هذه المرحلة الجديدة.
ثيمة النص: تتمحور القصة القصيرة (غالباً) على فكرة واحدة من بدايتها إلى نهايتها، وأحيانا تتفرع إلى فروع أخرى عند بعض الكُتاب، وفي هذا النص كان القاص وفيّا لتلك الفكرة الواحدة التي بدأت من العنوان وانتهت بخاتمة النص. حيث اختزل القاص النص بمشهد وموقف واحد كشف خلاله ذلك الصراع النفسي للبطل وهو يُحال إلى (التقاعد).
فبطل القصة يستشعر المجهول وهو يبدأ مرحلة حياتية جديدة، بعد أن أنهى مرحلة حياتية سابقة جرفت أكثر سنوات عمره، مرحلة جديدة ينظر لها البطل بعين ضبابية تقترب من السوداوية.
و(التقاعد) مرحلة حياتية جديدة، هناك من ينظر لها بسعادة، فلا انضباط صارم للدوام الوظيفي بعد الآن، ولا أزياء معينة يقتضيها العمل الوظيفي، ولا مناكفات زملاء العمل، ولا عقوبات قد تأتي مفاجئة، ولا وقت يُهدر. حياة جديد يكسر فيها المتقاعد نمطية الحياة السابقة. وفي المقابل هناك من ينظر لها بسوداوية كبيرة، كبطل هذه القصة الذي يستشعر نهايته، ويستشرف الموت. التقاعد عند بطل القصة هنا هو إيذاناً بالاستعداد لمرحلة الموت.
المكان: لكل قصة فضاءها المكاني الذي تطوف حوله، حيث يصبح المكان هو المسرح الذي تتوزع على خشبته أحداث القصة. وفي هذا النص كان (المقهى) هو مسرح أحداث القصة، ومن خلاله يطل البطل على الفضاء المكاني، حيث الشارع وضجيجه من سيارات وسابلة. بدأ النص بالمقهى وختمها به، رحلة عمر كاملة لبطل القصة انتهت به يتسكع في مقهى.
الزمان: في كل عمل سردي يأتي الزمان ملازماً للمكان ملازمة الظل لصاحبه. حيث يعد الزمان توأماً للمكان لا ينفصلان ولا يفترقان. الوقت الذي استغرقه صراع قصة (خارج الزمن الحكومي) هو ثواني فقط، ولكن هذه الثواني كانت ساعات وأيام وأسابيع وشهور وسنين وعمر كامل يوشك أن ينتهي، هو الزمان الذي توقف عن الدوران في فلك (الحكومة)! والانعتاق من قيود العمل الوظيفي: (توقفت عقارب ساعتي عن الدوران... لقد قرّرْتُ أن أعيش ما تبقى خارج الزمن الحكومي.)
إن القاص هنا يحلينا إلى (ناتالي ساروت) وانفعالاتها، وبالطريقة نفسها من التكثيف، فنعثر في هذا النص القصير المكثف على وصف دقيق لسايكولوجية البطل وانفعاله، ورصد دقيق للنبض الوجداني والإنساني لبطل القصة، وملاحقة القاص لأحداث القصة عبر تلك المعاناة التي يمر بها البطل، وحشرجات الخوف من المجهول القادم، والتفكير للحصول على موطأ قدم في المقبرة، وانسيابه في موقف يتراوح بين الواقع والهذيان وهو يجلس وحيداً في مقهاه.
كُتب النص بأسلوب الراوي العليم. اختزل القاص في النص المكثف رحلة عمر كاملة، كأن النص (رواية قصيرة جداً جداً) . لقد عمد القاص إلى نحت شخصية البطل من العالم الواقعي ومن صميم المجتمع لكي يقترب القاص أكثر من هموم المواطن والمجتمع، فتصدق على القاص مقولة (الكاتب ابن بيئته)