طويتُ الصفحة الأخيرة من كتاب " كانت لنا أيام في صالون العقاد " لكاتبنا الفذ أنيس منصور، وأنا أحس أني أطوي صفحة عصر مجيد رائع من تاريخ الحضارة المصرية ، فالكتاب بحر متلاطم الأمواج ، ما إن يندفع فيه زورقُك حتى تفقد القدرة على ضبط اتجاهك ، ويُبحر بك بحر أنيس منصور في كل اتجاه .. هكذا كان يرى الكاتب والروائي الكبير " يوسف إدريس " قدر كاتبنا الكبير " أنيس منصور " و روعة كتاباته ..
أعتقد أن أهم ما يجذب قارئ إبداعات " أنيس منصور " الفكرية والأدبية ومقولاته شديدة الطرافة هو هذا القدر من الثقافة المتنوعة ، بل والمهولة فقد تعددت إصداراته بين المسرح والسياسة والأدب والفلك والفضاء وكان أول كتبه حول المخلوقات الفضائية الخرافية ، " أنيس " أيضا كان صديقا شغوفًا ورائعًا للكُتّاب وأهل الفن ، وحين تقرأ كتابه " كانت لنا أيام في صالون العقاد " لا تشعر أنه كان فقط التلميذ أو الصديقً لصاحب الصالون ، فهو المستوعب لكل فكر وتاريخ ومراحل إبداعاته ، فلم يكفيه دور المتابع أو صاحب الحضور التقليدي ، فبادر بالحفظ في الذاكرة المنصورية الإبداعية ..
نحن بصدد كاتب هو الأغزر انتاجًا بين أبناء جيله ، الأفكار دائمًا حاضرة بيسر وسلاسة ، وكان أول من أدرك أهمية السلام كقيمة عليا سامية وقام بدور مهم للغاية فى عملية السلام مع إسرائيل ، فقد وقف بجوار السادات في وقت كان الناس والكتاب لم يفهموا هذه الخطوة ، وأثبت مع الوقت أنه كان صحيحًا في موقفه ..
ويذكر الكاتب والمؤرخ المبدع الراحل " صلاح عيسى " عن كتابه عن " السادات " : لقد حكى لي عن هذا الكتاب حيث كان " السادات " له وقت مخصص للمشي ، وكان يحب أن يرافقه " أنيس " ، وكانا أثناء المشي يدردشان ويتحدثان ، وكتب أنيس هذه الدردشة ، وأراد أن ينشرها ، ورأى أنه لابد أن يستأذن من الرئيس السابق " مبارك " ، لأن هذه الدردشة كانت بها معلومات تخص الدولة وتخص " مبارك " أيضًا ، لكن " مبارك " بعد قراءته الكتاب أشار عليه أن يؤجل نشره ، ولم يُنشر ، وأتمنى أن يكون مخطط هذا الكتاب موجودًا إلى الآن ، ويتم نشره في الفترة المقبلة ..
لقد ذكر " أنيس " أن من انتقدوا السادات لم يذكروا حسنة واحدة فعلها ، فنصر أكتوبر هزيمة ، والانفتاح الاقتصادى هزيمة ، والسلام مع إسرائيل لاسترداد الأرض هزيمة ..
معلوم أن أنيس منصور كان صاحب رصيد إبداعي ثقافي وفلسفي بارز ، وله مواقف مؤثرة عبر كل كلمة مقروءة ومستوعبة ومحبوبة وقريبة لوجدان المصريين ، وكاتب يتمتع برؤية فريدة وخاصة جدًا ، ومتذوق رائع للموسيقى والشعر ، ولم يكن مجرد كاتب نمطي يكتب لأنها مهنته ، وقد شعر الوسط الثقافي والفني أنه برحيله تخلو مساحة واسعة في الفكر الإنساني والمصري والعربي ، نظرا إلى ثقافته الواسعة و إجادته لغات مختلفة ، لقد قدّم منصور للمكتبة العربية ترجمات مختلفة ، نقل نحو 9 مسرحيات و5 روايات إلى اللغة العربية ، وترجم 12 كتابًا لكبار الفلاسفة الأوروبيين ..
في عام 1963 صدرت الطبعة الأولى من كتابه الشهير " 200 يوم حول العالم " ، لتلقى حفاوة كبيرة من القرّاء والأدباء مثل طه حسين وكامل الشناوي ولويس عوض و المشير عبد الحكيم عامر، لتكون هذه الرحلة التي استمرت 228 يومًا حول العالم أشهر ما كتب في الأدب العربي الحديث في أدب الرحلات ..
ويحكي أنيس منصور في مقدمة الطبعة الـ24 للكتاب أن وزارة التعليم عرضت عليه أن يكون الكتاب مقررًا على الطلبة مقابل مبلغ مالي كبير ، لكنه رفض العرض .. " إنني أفضل أن يختارني القارئ على أن أكون مفروضًا عليه .. أن أكون متعة وراحة له على أن أكون واجبًا مفروضًا عليه " ..
ويعترف " منصور " بكل بساطة في حديث تلفزيوني بتكرار نفسه في كتاباته لأن أعظم المفكرين لديهم مجموعة من المعاني ويضعهم في ظروف مختلفة ، في محاولة لتوضيح نفسه للآخرين ، وأن متعته أن يعبر عن معان صعبة بلغة سهلة ، وهو ما تعلمه خلال تدريسه لطلبة الجامعة وتقديمه المنهج العلمي لهم بأسلوب بسيط ..
ربما يكون الدرس الأكبر لأي كاتب أو مثقف مصري من حياة أنيس منصور ، هو انفتاحه على الثقافات الأخرى ، الذي لعب دورًا مركزيًا في تشكيل وعيه ، فقد كان لتعلم أنيس منصور للعديد من اللغات ، منها ، الإنجليزية والألمانية والإيطالية واللاتينية والفرنسية والروسية ، وإلمامه ببعض اللغات الأخرى أيضًا ، هو ما فتح له الباب للاطلاع على ثقافات عديدة ، كما كان عنصر قوة له في الحياة الصحفية والثقافية ، حيث ترجم العديد من الكتب الفكرية والمسرحيات القادمة لنا من عدة ثقافات أخرى ، كما ساعده ذلك على التنقل في العديد من بلدان العالم ، وهو ما جعله أحد أبرز من قدموا أدب الرحلات في تاريخ الثقافة العربية ، ومازالت كتبه في أدب الرحلات ، مثل حول العالم في 200 يوم ، و اليمن ذلك المجهول ، وأنت في اليابان وبلاد أخرى ، وغيرها من الكتب الشيقة ، تتصدر قوائم المبيعات في مصر والدول العربية ، رغم مرور عدة عقود على صدور بعضها ..
وظل يؤكد أنه لا يحتمل الشخصية الغبية كانت إمرأة أورجل ، والمرأة لأنها تعيش في مجتمع الرجل تستعير أساليبه للوقاية منهم ، تجد البنت التي تشتغل تتحدث بصوت عالي تتحرك يديها كثيرا وتشرب سجائر ، وهي تفعل ذلك استعارة بقصد الأمان ، ولما تجد المرأة العاملة استرجلت فهي تخطئ ، زي ما واحد يرتدي البالطو في المطر وينام به ..
وكان يرى أنه لا بد من القضاء على الأمية عمومًا يستوي في ذلك الأمي الذي لا يعرف كيف يقرأ ويكتب ، أو الذي يكتب قليلًا أو يقرأ قليلًا والأمية لا تتجزأ ، المهم في بلدنا استصلاح العقول البور ، والجاهل يكلف الأمة أكثر مما يكلفها المتعلم ، يكفي أن نتصور أننا بلا أطباء ويتكفل بنا جماعة من الهواة ، لذلك أول القضايا المهمة أن نمحو الأمية عمومًا ..
وفي حوار بديع أجراه سأل أنيس منصور الصحفي رياض السنباطي .. يذكر " أنيس " أنه لم يفلح فى أن يعرف بسرعة من الأستاذ رياض السنباطى بالضبط ما الذى تساويه أم كلثوم وحدها أو بالمقارنة بالمطربات الأخريات ، لقد رفض المقارنة ورفض السؤال من أوله لآخره ..
وقال له السنباطي : سعاد محمد عملاقة ولكن بكل أسف الحظ لا يواتيها ولاتسألنى عن الحظ .. ممكن واحد يدفع جنيهًا فيكسب خمسة آلاف جنيه وممكن يدفع خمسة آلاف جنيه فلا يكسب حتى الجنيه ! أما فيروز فهذه شىء آخر ، إحساس ومشاعر .. بل شىء فوق الإحساس وفوق المشاعر ، عندما أسمعها فإننى أستمع إلى صوت من السماء ولا أنكر فضل الأخوين رحبانى .. إنهم لون جديد .. لون أحبه جداً .. فيه تطوير للموسيقى ، أما نحن فلم نطور الأغنية .. لا تصدق أن أحدًا قد طورها ، إنها " هي هي " .. وموسيقانا كما هي وكل ما حدث في موسيقانا أن جميع الملحنين الناشئين اعتمدوا على " الرتم " السريع والرقص وكلمة حزينة من هنا.. أو كلمة مرحة من هناك .. وهذا هو التطور الذى حدث ..
ومن المواقف الطريفة التي كان يحكيها كاتبنا أنه قد أعد حلقة تليفزيونية سابقة مع الأديب الراحل عباس العقاد وتقاضى 200 جنيه ، فقبل تصوير حلقة عميد الأدب العربي طلب من أنيس منصور أن يحصل على أعلى أجر ، وسأل عن أجر عباس العقاد مقابل ظهوره في الحلقة السابقة ، فأجاب " منصور " : " أننا سنرسل لسيادتك مائة جنيه زيادة عن المائتين " ..
أثناء تصوير الحلقة ، قال عميد الأدب العربي ، حسبما حكى أنيس منصور : " يا أنيس نذكرك فلا تنسى " ، في إشارة إلى المائة جنيه الإضافية..
وبعد انتهاء الحلقة ، نٌشر خبر في جريدة الأخبار أن " العقاد " حصل على مبلغ 300 جنيه مقابل ظهوره في برنامج " نجمك المفضل " ، ووضع كاتب الخبر علامة تعجب في نهاية الخبر ، مما أثار غضب عباس العقاد الذي هاتف " منصور " : " لما العجب يا مولانا ؟ " ، فاستغرب " أنيس " من المكالمة واستفسر من " العقاد " عن غضبه " كاتب الخبر يا أنيس يستعجب من أنني حصلت على 300 جنيه مقابل الحلقة ، أنا أستحقها فقد قرأت خمسين ألف كتاب " ..
ويحكي الكاتب ابراهيم عبد العزيز " كان أنيس منصور مشهورًا بالمقالب ، إلى درجة أنه كانت لديه الجرأة لكى يتكلم باسم الرئيس السادات دون أن يعلم ، والحكاية كما رواها لي نجيب محفوظ ، حينما تولى " أنيس " رئاسة تحرير مجلة " أكتوبر " فأراد أن تزدان المجلة الجديدة بعمل لـ" نجيب " ، ولم تكن لديه رواية جديدة سوى التى أعطاها لـ" الأهرام " وهى " الحرافيش " ، ولم يكن قد نشرها بعد ، فذهب " أنيس " إلى علي حمدي الجمال ، رئيس تحرير " الأهرام " وقتها ، يطلب منه باسم الرئيس السادات هذه الرواية لنشرها في مجلة " أكتوبر " ، التى كان " السادات " نفسه هو صاحب فكرتها ، ولم يكن أمام رئيس تحرير " الأهرام " سوى تنفيذ أوامر الرئيس ، أما المفاجأة فهي أن الرئيس لم يكن على علم بالمقلب ، الذى دبره باسمه " أنيس " لانتزاع " الحرافيش " من " الأهرام " والانفراد بها في " أكتوبر " ، وقد أكد لي " أنيس " هذه الواقعة حينما سألته عنها ، وأضاف : " وكانت الحرافيش تكريمًا لأكتوبر وتكريمًا أيضًا لنجيب محفوظ " ..
وعلى مدى حياته الحافلة أثرى الحياة الثقافية بعشرات الكتب المهمة والمؤثرة في الثقافة العربية ، زاد عددها عن الـ 200 كتاب ، ما بين الآدب والفنون والفلسفة وأدب الرحلات ، ويعتبر الباحثون والمثقفون منجز أنيس منصور مكتبة كاملة متكاملة من المعارف والعلوم والفنون والآداب والسياسة والصحافة والفلسفة والاجتماع والتاريخ والسياسة والمرأة ، نجحت في تشكيل ثقافة أجيال متعاقبة ..
حصل منصور على كثير من الجوائز الأدبية ، أبرزها جائزة الدولة التشجيعية في مصر عن كتابه " 200 يوم حول العالم " عام 1963 ، وجائزة الدولة التقديرية في 1981 ، وجائزة مبارك في 2001 ، والدكتوراه الفخرية من جامعة المنصورة ، وجائزة الفارس الذهبي من التلفزيون المصري ، وشيّدت له محافظة الدقهلية تمثالا في مدينة المنصورة..
وظل الراحل " أنيس منصور " يردد : " مصر بالنسبة لى كقلمي الذي أكتب به ، .. يلازمني بإستمرار ، فهى معي في كل وقت ، .. وإلى أي بلد أسافر إليه ، .. هي معي حين أقرأ ، وحين أكتب ، .. لا تفارقني أبدًا " ..