عمرو الزيات يكتب : اتجاهات الأدب المعاصر

عمرو الزيات يكتب : اتجاهات الأدب المعاصر
عمرو الزيات يكتب :  اتجاهات الأدب المعاصر
 
      ثمَّ بونٌ شاسعٌ بين المبدع والمقلد؛ فليس كل ما نطالعه من أعمالٍ ونصوصٍ أدبيةٍ يمكن اعتبارَها بحالٍ من الأحوال نماذجَ إبداعيةً – وإن التزمتْ بمبادئ الفن وقواعده – إذ " ليس المبتدعُ كمن يبتني له حوضًا تجاه ينابيع المطبوعين، يرصفه بحجارتها وحصبائها، ويملؤه بطينها ومائها، ثم يدعوه بغير أسمائها؛ ولكن المبتدع من يكون له ينبوع يستقي منه كما استقَوا، ولا قِبَل بذلك إلا لمن كان له سائقٌ من سليقة تهديه إلى مواقع الماء، وبصرٍ كبصر الهدهد يزعمون أنه يرى مجاريَ الماء تحت أديم الأرض وهو طائر في الهواء"(1)
      إن من يطالع نماذج الأدب في عصرنا – وهي كثيرة متباينة -  يجد أن الأدب لا يخرج عن اتجاهاتٍ ثلاثةٍ لا رابع لها، أولها: اتجاه مقلِّدٌ لا يعدو كونه صورةً من أدب القدماء؛ بل هو ظلٌّ للقدماء وصورةٌ مشوهةٌ لهم، فلا قديمًا وعىٰ، ولا جديدًا قدَّم؛ وهذا الاتجاه اكتفىٰ بالقشور ولم ينفذ لجوهر الأدب، وشتانَ ما بين الجوهر والقشور!!
      ثانيها: ذلك الاتجاه الذي بهرته ألفاظٌ براقةٌ مثل الحداثة فلهَثَ خلفها، مُردِّدًا محفوظاتٍ ما أنزل الله لها من سلطان، وهم – في رأينا – أبواقٌ تنعَقُ في كل وادٍ،  بضاعتهم في سوق النقد كالدرهم المَسيح، وما الذي يدعونه بقصيدة النثر عن الناس ببعيد. لقد شاع مفهوم الحداثة على ألسنة بعض الدارسين وأشباه المثقفين دون وعيٍ لـمـا يُراد به ؛ فالـحداثة تعني الـخروجَ والثورةَ على كل موروثٍ وتحطيمَه ، وثمةُ فرقٌ معلومٌ بين الإبداع والفوضىٰ،  فالإبداع هو كسر جميع القيود التي تكبِّل الإنسان ، وتحُول دون انطلاقه في سمـٰواتٍ رحيبةٍ مستكشفًا عوالـم جديدة، ومبتكرًا لكل طارف؛ رغم تمسكه بكل تليد، أما الفوضى فتعنى الخروجَ عن القواعد،  وهدمَها وعدمَ الالتزام بها، مضىٰ ذلك الاتجاه مِعولَ هدمٍ في صرحِ العربية، ومع شديد الأسف له أنصاره ومؤيدوه من أدباءَ ونقادٍ كنا ننتظر منهم أن يرسموا معالم الطريق أمام المبدعين؛ بيد أنهم ضلُّوا الطريق وأضلُّوا وظلموا أنفسهم والمبدعين، وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا. 
     ثالثها: اتجاه عصري امتلأت نفسه – حتى الكظة – بأدب القدماء، قابضٌ على لغته، آخذ بتلابيب نفسه مخافة أن ينساقَ خلف تلك الدعوات الهدامة، لكن أصحابَه – في ذات الوقت – يرَون العالَمَ من حولهم بعيونهم لا عيون القدماء، يشاركون أبناء مجتمعهم أفراحهم وأتراحهم دون تكلفٍ أو مبالغة، يتخذون  من ميراثهم العربي  قاعدةً ، يشيدون  عليها مجدهم غير غافلين متغيرات عصرهم ، اطلعوا على ثقافة الغرب ؛ لكنهم-  وتلك سمة أصيلة فيهم - لا يـحبُّون أن يُلبِسوا العقلَ العربيَّ قبَّعةَ الغرب ، يدركون أن جلَّ المناهج الغربية لا يصلح تطبيقها على أدبنا العربي؛ فلكل لغةٍ ما يناسبها تبعًا لخصائصها وسماتها التي تميزها عن سائر اللغات ، فتيةٌ يضربون بجذورهم في تاريخ العرب الأدبي والثقافي الذي ظل-  وسيظل بإذن الله- منهلًا لكل الحضارات التي تأثرت بتلك الحضارة العربية العريقة.
    والأدب العصري أثر من آثار روح العصر في نفوس أبنائه، فمن كان يعيش بفكره ونفسه في غير هذا العصر، فما هو من أبنائه، وليست خواطرُ نفسه من خواطره.
    إن كان من أدباء العصر من " هز أدبهم رواكدَ النفوس، وفتح أغلاقَها، فلقد فتحها على ساحة من الألم تلفح المُطِلَّ عليها بشواظِّها، فلا يملك نفسَه من التراجع حينًا، والتوجعِ أحيانًا، وهو العصر، طبيعته القلق والتردد بين ماضٍ عتيق، ومستقبلٍ مُريب، وقد بعدت المسافةُ فيه بين اعتقاد الناس فيما يجب أن يكون، وما هو كائن، فغشِيَتهم الغاشية، ووجد كلُّ ذي نظر فيما حوله عالمًا غير الذي صورتْه لنفسه حداثة العصر وتقدمه.(2)
     ولا يفهم من كلامنا أنَّا ممن يرفضون القديمَ أو من هؤلاء الثائرين  على أدبنا الموروث؛ فقد علم كل من قرأ لنا أنّا – وهذا الشرف كل الشرف – من الدعاة للمحافظة على أدبنا الموروث قوانينه وقواعده؛ ولكنا – في الوقت ذاته – لا نقبل بحالٍ من الأحوال أن يذوبَ الأديبُ في القديم بالكلية؛ فيصبح مسخًا تعافه النفوسُ ويثيرُ فيها قزازا، وليس بصحيحٍ أن الناسَ مولعون بكل جديد، وإنما الصحيح أنهم يقاومونه ويتهيئون له على الأيام، وأن جديدَ اليوم إذا كان صالحًا فهو خليقٌ أن يصبحَ مألوفَ الغد، وليس كلُّ جديد صالحًا … والاتزان في الحياة ألزَمُ وأجدىٰ وأكفل، باطراد التقدم من طيش التعجل.(3)
        لم نرد بتلك السطور أن نفرق بين اتجاهات الأدب في عصرنا، أوأن نضعَ يدَ المتلقي على الفروق الجوهرية بين الاتجاهات السائدة في تناول نماذج الأدب فقط؛ وإنما نتغيا بذلك أن نضع ذلكم الاتجاهَ المطبوعَ موضوعَ الدراسة في مكانه من الأدب، ولسنا هنا في حاجة أن نذَكِّر القارئَ الكريمَ أنّا عازمون على التزام الحق والصواب، ولعل السطورَ القادمةَ خيرُ برهانٍ على ذلك.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
هوامش:
)) العقاد : مقدمة ديوان المازني.
)2( المصدر السابق.
)3( المازني :  قبض الريح.