"ثقافة سوريا وحضارتها، هي إمتداد لثقافة وحضارة البحر المتوسط إلى جانب اليونان والرومان".
سقوط نينوي وقيام الدولة الكلدانية
إن تدمير الملك (نابو بولاصر) مؤسس الدولة البابلية الحديثة لمدينة (نينوي) العظيمة عاصمة الآشوريين في سنة (612 ق.م) وما تلا ذلك من إبادة قوات الدولة البابلية الحديثة، لبقايا الجيش الاشوري، الذي ارتد إلى مدينة حران في شمال سوريا في عام (609 ق.م) أثار التساؤل فيما إذا كانت بابل الحديثة، أم مصر القديمة، هي التي سترث منطقة شرقي البحر المتوسط!.
لم يطل تقرير ذلك، إذ أن الهزيمة الساحقة، التي ألحقها القائد (نبوخذ نصر) بن نابوبولاصر بالفرعون (نيخو) في كركميش سنة (605 ق.م) جعلت الكلدانيين سادة سوريا الجدد. وهم إبناء عم الآشوريين، وأقرباء الآراميين. وقد صاروا أعظم قوة عسكرية عرفها العالم في حينه.
وعندما شعرت الشعوب، التي كانت تحت وطأة الكلدانيين، أنه حان الوقت لأن تتمتع بحريتها جاء الجواب الحاسم بتدمير نبوخذ نصر (605- 562) لمدينة أورشليم في عام (562 ق.م) ودك أسوارها وهدم هيكل سليمان، وسبي أهلها الى بابل، وقد ظل هؤلاء في الأسر، حتى سمح لهم الملك كورش، بالعودة إلى فلسطين. كما أخضع نبوخذ نصر مدينة صور في عام (572 ق.م) بعد حصار دام (13) عاماً.
وكان على سوريا الطبيعية الكبرى، أن تحكمها بلاد النهرين من جديد... انتهى الحكم الكلداني في عام (538 ق.م) حين هاجم الفرس مدينة بابل بقيادة (كورش) الذي كان قد وحد الميديين مع الفرس. ثم قام بغزو آسيا الصغرى. وقهر (قارون) ملك ليديا. وكان يحكم بابل حينذاك (نابونيدس) الملك المولع بالآثار. والغريب أنه ترك بابل. وعاش في واحة (تيماء) في شمال الحجاز. وترك الدولة لابنه (بلشاصر) الذي عاش حياة الترف في قصر نبوخذ نصر. ولم يهتم بإصلاح حصون عاصمته، وكانت هناك كتابة على جدران القصر تقول: "قسمت مملكتك، وأعطيت للميديين والفرس" .. (راجع سفر دانيال 5: 28)
سوريا في ظل الحكم الفارسي
حلت الكارثة بمدينة (بابل Babylon) سنة (539ق.م) على يد الفرس، بقيادة ملكهم (كورش Cyrus) واضطرت مناطق الامبراطورية الكلدانية (البابلية الثانية) بما فيها سوريا، للإعتراف بالحكم الفارسي الجديد، وصارت جزءاً من الامبراطورية الفارسية الواسعة، التي فتحت الطرق الجيدة، ,اتخذت اللغة الآرامية (السورية) لغة رسمية لها، وهي اللغة التي شاع استعمالها طويلاً. وعادت المدن الكنعانية (الفينيقية) الى الإزدهار. في ظل السلم كمراكز للحضارة والتجارة الدولية.
وجد (كورش) حين دخل بابل، حالية يهودية، يعود أصلها الى سبي (نبوخذ نصر) وقد أصدر مرسوماً، سمح بموجبه لمن يريد العودة إلى فلسطين بالعودة إليها. وليس من الصعب التصور، أن أولئك اليهود. قد ساعدوا كورش على احتلال بابل (راجع المزموؤ 137) لكن بقي بعضهم في المدينة.
هاجم الملك قمبيز (529- 521 ق.م) ابن كورش مصر، بمساعدة سفن كنعانية، كما استأجر الجمال من شبه جزيرة العرب. وكان الأسطول الكنعاني عماد البحرية الفارسية، بقيادة زركيس Xerxes (584- 465 ق.م) في الهجوم على بلاد اليونان. وقد حطم اليونانيون الاسطول كله تقريباً، في معركة (سلاميين Salamis) البحرية عام (480 ق.م).
وبحسب (إسترابون Strabo) كانت دمشق مدينة رئيسة في العهد الفارسي. أما في فينيقيا، فقد سمح لأربع مدن، هي (أرواد وجبيل وصيدا وصور) ممارسة الحكم الذاتي، وفي القرن الرابع قبل الميلاد، اتحدت دويلات المدن الفينيقية مع بعضها، وجعلت مدينة طرابلس الحديثة العهد، مقر المؤسسات الاتحادية. لكن لابد أن الفينيقيين، قد شعروا في أواسط القرن الرابع ق.م. أن شمس الفرس قد آذنت بالغروب.
وكان الصراع بين الفرس واليونان فى ذلك الحين صراعاً بين الإتبداد الشرقي والحرية. كما كان بالنسبة للعالم أجمع، المرحلة الأولى في الصراع بين الشرق والغرب. ذلك الصراع الذي تابعه (الاسكندر المكدوني) و (بومبيوس) القائد الروماني، ومعاوية وصلاح الدين. ومن بعدهم نابليون واللنبي.
بدأت الثورة في سوريا ضد الحكم الفارسي، في زمن الملك الفارسي (أرتحشستا) في القسم الصيداوي من مدينة طرابلس في عام (351 ق.م) وانتشرت حتى عمت الساحل السوري كله. وكانت مصر مصدر التشجيع كالعادة. وسرعان ما انتقل مركز الثورة الى مدينة صيدا نفسها، التي استعدت للمواجهة.
سار (أرتحشستا) من بابل على رأس جيش، يقدر عدد بـ (350 ألفاً) من المشاه والفرسان. وأثناء مسيره كان الفينيقيون السوريون، يطردون الحكام الفرس، بعد محاولتهم قمع الثورة، ويعلنون استقلالهم.
ومع تقدم الفرس، قرر سكان صيدا الموت أحراراً، فأحرقوا السفن في الميناء، لمنع بعض المواطنين من الهرب. وأحرقوا ممتلكاتهم، واعتصموا في بيوتهم. ويقال أنه هلك في تلك الحرب نحو (40) ألف إنسان. أما القلائل الذين أسروا فقد تم نقلهم إلى بابل.
زهكذا أصبحت مدينة صيدا، التي كانت سيدة البحر المتوسط رماداً. وهكذا حرم العالم من وثائقها التاريخية. وهذه هي المرة الثانية، التي تمحى فيها صيدا من الوجود. وكانت الأولى على يد الملك الآشوري (أسرحدون) في سنة (677 ق.م) واستسلمت باقي المدن الفينيقية متعظة بمصير صيدا المفجع.
وفي عهد السلالة الساسانية الطامحة، أخذت الدولة الفارسية تنازع الدولة البيزنطية السيادة على الشرق. وفي عهد الملك كسرى الأول أنوشروان (531- 579م) هاجم الفرس سوريا من الشمال، وأشعلوا النار في حلب، ودخلوا أنطاكية، التي لم ينقذها (6) آلاف جندي، قدموا من فينيقيا اللبنانية لمساعدتها. فنهبها الفرس وهدموها بكاملها ,اخذوا سكانها أسرى.
وتابع كسرى مسيره من أنطاكية الى أفاميا، وكانت هي الأخرى مركزاً مسيحياً مزدهراً، فنهبوا المدينة. ثم استمرت حملة كسرى في النهب والسلب، في العديد من المناطق السورية. وقد تجددت المنازعات بين الفرس والروم البيزنطيين، في أوائل القرن السابع.
سوريا في الحقبة اليونانية
عرفت سوريا أزهى عصورها، في الحقبتين اليونانية والرومانية من اريخها، في المدة الواقعة بين عامي (333 ق.م – 635م) أي مايقارب الف عام من تاريخها.
دخل الاسكندر المكدوني، على رأس جيشه الى سوريا، بعد انتصاره على الفرس في معركة (إسيوس Issus) الفاصلة، التي جرت في موقع مدينة اسكندرون في شهر تشرين الثاني/ نوفمبر، من عام (333 ق.م) المدينة التي بنت تخليداً لانتصار الاسكندر ولازالت تحمل اسمه.
وتابع الاسكندر مسيرته الظافرة، فأكمل احتلال سوريا ومصر، ثم عاد الى سوريا في ربيع عام (331 ق.م) واتجه شرقا وانتصر على الفرس انتصاراً جديداً وحاسماً في موقعة (أربيلا) في سهل نينوي شمال العراق، ليتجه بعدها لاحتلال بلاد فارس وصولاً الى الهند.
ثم عاد الى بابل حيث توفي في قصر (نبوخذ نصر) في حزيران/ يونيو من عام (323 ق.م).
ولعل أعظم مأثرة قدمها الاسكندر للتاريخ، هي في إتاحة الفرصة، لامتزاج الأفكار، والمؤسسات اليونانية والشرقية. وجعلنا أمام اول رجل عظيم، حلم بمجتمع لا أثر للحواجز فيه، بين اليونان والشرق، حيث لم ينقطع ذلك الأمل البراق الذي كان يسعى إليه الفيلسوف السوري الفينيقي زينون Zeno (333 – 264ق.م).
ومن أجل تحقيق التقارب بين الشرق والغرب عمل الأسكندر على تأسيس المدن كمراكز لنشر الثقافة الهللينية، والتي عددها على (70) مدينة جديدة. وسرعان ما أصبحت اللغة اليوناينة، لغة العلم والثقافة، وعندما أتى المسيح برسالته بعد ثلاثة قرون، وترجمت الى اللغة اليونانية، أصبحت في متناول العالم المتمدن كله.
وبعد وفاة الأسكندر، تقاسم قواده الامبراطورية المكدونية وكانت سوريا من نصيب القائد (سلوقس) الذي كان أقدرهم، وقد أسترجع بابل، وهو الذى أمر ببناء مدينة أنطاكية على نهر العاصي، التي أصبحت عاصمة سوريا، وتعتبر سنة (312 ق.م) بدء التاريخ السلوقي، وظهور اسم (ملوك سوريا) لأول مرة.
وقد وسع سلوقس حدود مملكته السورية، التي شملت بلاد فارس، حتى حدود الهند. وهذا ما دعا المؤرخ البريطاني Arnold Toynbee أن يطلق على البقعة من الأرض، الممتدة من الساحل الشرقي للبحر المتوسط غرباً، الى حدود الهند شرقاً اسم (العالم السوري Syrian World).
واتبع الامبراطور سلوقس سياسة نشر الهللينية، التي وضعها الاسكندر. فشيد الكثير من المدن، ومنها الى جانب انطاكية، اللذقية وأفاميا وسلوقيا وغيرها. وقد ضعفت المملكة بعد وفاة سلوقس، الى أن جاء أنطيوخوس الثالث الكبير (323- 187ق.م) الذي أعاد مجد الدولة وأعلن من مدينة نينوي في بلاد النهرين، وحدة سوريا بكامل أقسامها، وذلك لأول مرة في التاريخ (يتبع)