أخبار عاجلة

فرانسوا باسيلي يكتب: من البرلمان إلي اللومان (مجموعة من الناس في رجل واحد )

فرانسوا باسيلي يكتب: من البرلمان إلي اللومان (مجموعة من الناس في رجل واحد )
فرانسوا باسيلي يكتب: من البرلمان إلي اللومان (مجموعة من الناس في رجل واحد )

في مثل هذا الشهر، يوليو، من عام 2010 رحل والدي القمص بولس باسيلي عن عالمنا عن أربعة وتسعين عاماً، وقد إشتهر بأنه "أول وآخر كاهن قبطي يدخل مجلس الشعب" وكان نائباً عن حي شبرا بالإنتخاب،  وكلما فكرت في والدي أتأمل مندهشا حجم الانجازات الهائلة التي أنجزها، وأعرف أن الكتابة عن الوالد – من قبل أي إبن عن والده – لن تكون كتابة موضوعية، ولا أستطيع أن أدعي الحيادية، ولكن بكل المقاييس فإن نظرة سريعة لإنجازات الرجل ستكشف كم كان فذا، فمعظم الناس ينجزون ويبدعون في مجالٍ أو مجالين، ولكن أبونا بولس له إنجزات ضخمة في أربعة مجالات علي الأقل، وهي المجالات الدينية والسياسية والأدبية والإجتماعية، ولذلك لم يكن غريباً أن يكتب عنه قداسة البابا شنودة الثالثقائلاً:

الأب الموقر القمص بولس باسيلي واعظ وخطيب معروف لدى الجميع، قضى حياته كلها في الوعظ، يحمل على كتفيه خبرة نصف قرن من الزمان في هذا المجال، أستاذ بالكلية الإكليريكية، تتلمذ على يديه مئات من الخريجين والكهنة، وهو أيضًا كاتب له إنتاج وافر يربو على الأربعين كتابًا، وصحفي أصدر مجلة مار جرجس منذ أكثر من ربع قرن، وهو رجل وطني ساهم في خدمة بلدنا العزيز عن طريق عضويته في مجلس الشعب واللجنة المركزية. وفي الناحية الاجتماعية عن طريق جمعية الكرمة وخدمة المكفوفين. وله بمنبر الكنيسة علاقة طويلة المدى في القاهرة والأقاليم، ويعرفه سامعوه كخطيب مفوه له أسلوب قوي، وصوت جهوري، وسعة إطلاع في مجالات عديدة، وكثيرًا ما يذهلني نشاطه وكأنه مجموعة من الناس في رجل واحد!

 

والدي إذًا شخصية مصرية عامة لها تجربة فريدة ودور فعال في حياة مصر السياسية والدينية والاجتماعية طوال النصف الثاني من القرن العشرين والكتابة عنه تعني بالضرورة الكتابة عن تلك الفترة الهائلة الحافلة بالانتصارات والانكسارات من تاريخ مصر المعاصر، هي إذًا كتابة شخصية وعامة في نفس الوقت إنسانية واجتماعية، سياسية ودينية، آمل أن يجد فيها القراء دروسًا وإضاءات تفيد الحاضر وتنير بعض زواياه، وأحب أن أقوم بكتابتها بواجب الوفاء والمحبة من ابن نحو والدهالذي ما زلت أراه بصفاء نفسه وابتسامة وجهه وعذوبة روحه السمحة المحبة للجميع، وخاصة للفقراء والمعدمين والمكفوفين والمغتربين الذين أفنىَ عمره في خدمتهم بلا كلل


والحقيقة أن قداسة البابا قد قدم تلخيصًا جامعًا لا يسعني هنا سوى أن أقوم بإضفاء بعض التفاصيل على إنجازات ومواقف كل واحد من مجموعة الناس هذه التي وجدها قداسة البابا مجتمعة في أبونا بولس، وبالتحديد سأعرض بالتفصيل لأربعة رجال هم: رجل الدين، ورجل الوطن، ورجل الفكر، ورجل الإنسانية

 

رجل الدين

 

من المدهش أن أبونا بولس باسيلي الذي أحب الكنيسة القبطية الأرثوذكسية ورسم كاهنا بها قد نشأ في عائلة قبطية بروتستانتية، وكان والده –جدي– قسيسًا بروتستانتيًا. وظل جميع إخوته من الرجال والنساء –أعمامي وعماتي– على المذهب البروتستانتي طيلة حياتهم، وقد تحول والدي إلى الأرثوذكسية في شبابه بعد تلمذته على يد أستاذه وأبيه الروحي المصلح القبطي الكبير حبيب جرجس

 
ومن الذكريات الجميلة في طفولتي وشبابي تلك المناقشات الحادة والطويلة الفكرية والعائلية معًا التي كان يدخل فيها والدي مع إخوته وأخواته على موائد الطعام في الزيارات الأسبوعية للعائلة بين المعتقدات الارثوذكسية والبروتستانتية، هم يقولون أن الإيمان والخلاص هو كل شيء، وهو يقول لهم "إيمان بلا أعمال ميت

 

هم يقولون معموديتنا بالرش فعالة. وهو يقول: لابد من أن ندفن في الماء تمامًا لكي يتم العماد، وهكذا نشأت وقد انطبع في ذهني كطفل إمكانية أن يختلف الناس على معتقدات وأفكار كثيرة ويظلون عائلة واحدة، أحباء وأصدقاء. ولم يكن لأحد أن يسمح أن يؤثر الخلاف العقائدي في وشائج المحبة الأسرية القوية. ولعل هذا كان البذرة التي أثمرت موقفي القوي الحالي من قبول الآخر المختلف عنى في كل شيء سواء في الدين أو الجنس أو الوطن أو المذهب خاصة أن هذه يولد الناس عليها بلا خيار منهم

 

الوعظ والخطابة


ظهرت على الشاب فؤاد أفندي باسيلي –اسمه قبل الرسامة الكهنوتية– مواهب مبكرة في القيادة والخطابة، وحينما أنشأ أستاذه حبيب جرجس الكلية الإكليريكية التحق بها وتخرج ضمن أول دفعة من خريجيها، وعينه حبيب جرجس أول أستاذ لكرسي الوعظ بالكلية وذاع صيت الكلية الإكليريكية بسرعة –وكانت أيامها في حي "مهمشة" بالقاهرة– والتحق بها بعد ذلك الجيل الأول من قادة الكنيسة ومنهم "نظير جيد" أي قداسة البابا شنوده الثالث، والواقع أن كل من تخرج من الكلية الإكليريكية منذ نشأة كرسي الوعظ بها وحتى تقاعد والدي لبلوغه سن الستين عام 1976 لابد أنه تتلمذ في مادة الوعظ على يدي أبونا بولس باسيلي الذي عين أستاذًا للوعظ عام 1938

 

وكان والدي يصحبني معه في الكثير من سفرياته حيث ذاع صيته كواعظ مؤثر فكان يدعى من الكنائس والجمعيات في كافة أنحاء مصر، وكانت عظاته مزيجًا مدهشًا من القصص الدينية والعبر الأخلاقية والاستشهادات الأدبية والفلسفية والأشعار العربية والنوادر والطرائف بل وحتى "النكت" المصرية
 

ولم يكن في مصر وقتها من يعظ بهذا الأسلوب ولا بهذا الذخر الديني والثقافي ولا بهذا الصوت القوي الجهوري الذي يجبر سامعه على التفرغ الوجداني والعقلي لما يقال. وأذكر أنه أخذني مرة لحضور مولد مارجرجس بقرية ميت دمسيس وكان من أشهر الموالد القبطية في مصر وقتها وبعد إلقاء موعظة في الجموع الحاشدة هناك ركبنا مركبًا صغيرًا أو "معدية" للذهاب إلى الطرف الآخر من "نهر النيل" ولدهشتي رأينا مراكب أخرى يأتي منها الطبل والزمر وترقص فيها "الغوازي"، وعاد فؤاد باسيلي يومها ليبدأ في مجلة مار جرجس سلسلة مقالات نارية تطالب بإصلاح الموالد الدينية وتنقيتها مما لا يمت للدين بصلة، وكان بمجلة مار جرجس باب دائم بعنوان "حراب مار جرجس" مخصصًا لحملات ضد الخرافات والانحرافات التي تتلبس شكل ألدين،

 

واصطحبني معه مرة أخرى لحضور اجتماع في قاعة للإخوة البروتستانت، وفي وسط الاجتماع إذا ببعض الحاضرين ينتفضونمن على كراسيهم ليرطنوا بكلمات غريبة لا تعني شيئًا ولا تمت لأية لغة، وسمعت والدي بعدها في جلسة مع آخرين يبدي رفضه لهذه التصرفات وعدم اعترافه بها واعتبرها من الخرافات الدخيلة علي المسيحية، وعرفت بعد ذلك أن بعض الجماعات البروتستانتية تؤمن بظاهرة "التكلم بالألسن". وتكونت في ذهني منذ ذلك الوقت حساسية شديدة ضد كافة مظاهر الخرافة التي يقوم البعض

بإقحامها على العبادات الدينية والإيمان الديني

وهي ظاهرة موجودة لدى بعض المؤمنين في كافة المذاهب والأديان، إذ هي ظاهرة إنسانية في المقام الأول لها علاقة بمستوى التعليم –أو مستوى الجهل– السائد في المجتمع

 

وبعد سنوات من الوعظ الديني كواعظ ثابت في كنيسة مار جرجس بالجيوشي بشبرا، قام البابا كيرلس السادس برسامة فؤاد باسيلي كاهنًا على نفس الكنيسة باسم القس بولس باسيلي عام 1966 فبدأ بذلك مرحلة جديدة من الخدمة الدينية والرعاية الكهنوتية، تنقل فيها أبونا بولس من كنيسة مار جرجس إلى كنيسة العذراء بمسرة ثم إلى كنيسة العذراء بالوجوه وأخيرًا إلى كنيسة الأنبا انطونيوس أيضًا بشبرا
 

وأبونا بولس يعشق شبرا بكل ما فيها ومن فيها، وعندما كان يزورني في نيويورك ونأخذه لزيارة أجمل الأماكن في أنحاء أمريكا مثل مدينة واشنطن العاصمة أو شلالات نياجرا، كنت كثيرًا ما أراه سارحًا ببصره فأسأله فيما تفكر يا أبونا؟ فيقول في شبرا! فنضحك ونصيح معترضين: معقول؟ فيقول كلمته الشهيرة: "عمار يا شبرا"!
 

وأذكر أنه في طفولتنا أنا وأشقائي سمير وفريد كنا نجد الكثير من أصدقائنا يتركون شبرا مع عائلاتهم إلى أحياء أكثر "وجاهة" مثل مصر الجديدة أو الزمالك أو المهندسين، وكنّا نطلب من أبونا أن نفعل مثلهم ونترك شبرا، فينظر إلينا في عتاب شديد ويقول: كيف أفعل ذلك؟ إن شبرا هي مكاني وأهلي وأحبائي ولن أتركها أبداً. يقول هذا وهو الذي سافر إلى روسيا وبولندا في الشرق مع وفد يمثل مصر في مؤتمر الشباب العالمي في وارسو عام 1955 حين كان السفر للخارج أمراً نادراً لأي أسرة مصرية، ثم توالت أسفاره إلي القدس والسودان ولبنان  وأمريكا وكندا .. لكنه لا يخلص إلا لشبرا.. وإلا لمصر

 

ومن إنجازاته كرجل دين إصداره لأول مؤلفاته كتاب "حياة موسى" عام 1939 وكان عمره ستة وعشرون عامًا –وهو كتاب قال عنه حبيب جرجس: "هذا ليس كتابًا يا فؤاد، هذه رسالة دكتوراة"!. وأسس دار النشر القبطية عام 1948، وفي عام 1954 أسس الإتحاد الإكليريكي العام الذي تطور فيما بعد إلى "رابطة خريجي الإكليريكية"، وفي عام 1969 عين مشرفًا عامًا لإذاعة صوت الإنجيل اللبنانية بالقاهرة، وفي نفس العام أوفده البابا كيرلس السادس مع وفد من الكهنة إلى روما لاستلام رفات القديس مار مرقس وإعادتها لمصر، كما أن مؤلفاته تتضمن سلسلة كاملة باسم "المواعظ النموذجية" هي مرجع فريد يتضمن عظات كاملة متنوعة لكل يوم صلاة من أيام السنة، ولكل مناسبة دينية. وهو مرجع ما يزال الوعاظ والكهنة ينهلون من نبعه إلى اليوم ومازال مرجعًا بلا مثيل حتى اليوم. وفي عام 1971 منحه بابا روما ميدالية القديس بطرس التذكارية، وفي نفس العام انتخب عضوا بمجلس الشعب المصري كأول (وآخر) كاهن قبطي يدخل البرلمان بالانتخاب الحر.

 

نموذج للكهنوت المثالي

 

ولا شك أن الامتحان الأعظم الذي واجه أبونا بولس كرجل دين كان ذلك الموقف الذي أودى به إلى سجن طره عام 1981 ليقضي به ثمانية أشهر، ففي نهايات السبعينيات كان الشيخ الشعراوي في بعض حلقاته التلفزيونية يتعرض بتهكم للكتاب المقدس والمؤمنين به، متهما الإنجيل بالتحريف والمسيحيين الذين يؤمنون به بالكفر، وكانت الجماعات الإسلامية التي أطلقها نظام الرئيس السادات على المجتمع المصري قد بدأت تبذر بذور الكراهية والتكفير وهدر الدم ضد الأقباط، بغطاء كامل من نظام السادات الذي مكنها من السيطرة على الجامعات والنقابات والوزارات والأحياء الشعبية والوجدان الشعبي المصري لدى المسلمين سيطرة مازلنا نعاني من آثارها المدمرة حتى اليوم. وكان يمكن لأبونا بولس ألا يرد على الشيخ الشعراوي وكان يمكنه ألا يعرض مكانته لأي ضرر، وكان وقتها قد دخل وخرج من مجلس الشعب كعضو منتخب عن دائرة شبرا (من 1971 – 1975) وكان حائزًا على عدة جوائز وأوسمة منها قلادة من سيدة مصر الأولى جيهان السادات لإنجازاته الاجتماعية كما كان يتقلد عددا من المناصب الشرفية والقيادية لمصر والتي لاشك كان يعرف أنه يمكن أن تهتز أو تضيع كلها إذا ما فتح فمه وتكلم

.

ولكن هذه هي الأوقات التي تظهر فيها معادن الرجال الحقيقية، ونجد أن أبونا بولس باسيلي بعد أن رُفض طلبه للرد على الشعراوي في التلفزيون قام بتسجيل رده كاملاً على ثلاث شرائط كاسيت راح الآلاف يتلهفون عليها بعد ذلك وما تزال موجودة لدى الكثيرين، كما قامت بعض مواقع الانترنت بوضعها عليها. واللافت في رد أبونا بولس على الشيخ الشعراوي هو أن ردوده كانت كاملة تفند اتهامات وتهجمات الشعراوي ضد المسيحية وضد الإنجيل كلمة كلمة، وأنها كانت ردودا قوية واضحة شجاعة بصوته الجهوري، ولكنها في نفس الوقت كانت ردودًا مهذبة، لا تنزلق إلى مستنقع رد الإهانة بمثلها ولم تنزلق إلى التهجم أو التهكم على الدين الإسلامي أو مقدساته أو رسوله، وإنما كان الرد عقلانيًا موضوعيًا محافظًا على أدب الحوار وعلى وحدة مصر الوطنية التي لم يهتم بها الشيخ الشعراوي في تهجمه على معتقدات الأقباط وكتابهم المقدس، فجاء الرد قوياً دون أن تفقده القوة أدبه، ومؤدبًا دون أن ينتقص الأدب من قوته وجرأته. 


واقتيد أبونا بولس باسيلي إلى السجن وألقوا به على الأسمنت في زنزانة صغيرة بلا نوافذ ولا أثاث سوى حفرة في الركن، وذلك ضمن قرارات السادات الهوجاء في سبتمبر 1981، وكان أبونا من آخر من أفرج عنهم بعد استلام الرئيس مبارك للسلطة وبعد الإفراج عن معظم المسجونين الآخرين. وقد وصف أبونا بولس تجربته في السجن في عدد من كتبه ولخصتها في مقال مستقل

 

ومن الملفت أن الأسلوب الذي اتبعه في كتابة مذكراته عن فترة السجن العصيبة أسلوب ساخر به الكثير من المرح الذي هو علامة مسجلة للشخصية المصرية الأصيلة التي لا تتخلي عن المرح حتي وهي في احلك اللحظات.

 

  وفي مقدمة ديواني الشعرى "تهليلات ايزيس" كتبت عن زيارتى لوالدي في السجن عام 1981

 

  ما يلى

 

 ويدخل الشاعر من باب سجن إلى باب سجن ليصل في النهاية الى حجرة صغيرة يرقد فيها والده المسن طريح الفراش فيرى الرجل الذي علمه الوطنية راقداً، بينما يجلس بجواره حارس مسلح يطل المسدس من جرابه، وكأن والده الذي طالما دافع عن الوطن ووحدته الوطنية، كأنه أخطر الخطرين وأشقى الأشقياء، فيتمزق قلب الشاعر حزناً على وطن لا يعرف عدوه من صديقه، يبطش بالحبيب والقريب وكأنه أمام عدوغريب، ويتأبط الشاعر ذراع والده المنهك بعد أن سمح لهما الحارس بالتجوال المحدود تحت عينه المراقبة فيشعر وكأنه يتأبط ذراع وطنه المتعب المتهالك الذي وصل أمر تخبطه وقتها إلى حد وضع الكثير من أبنائه المخلصين في السجون

 

فماذا فعل بعد خروجه من السجن؟ أصدر كتابين أحدهما هو "الأقباط وطنية وتاريخ" والآخر هو: "أنت أخي، وأنا أحبك". وفي كل هذه المراحل والإنجازات يضرب لنا أبونا بولس باسيلي المثال لما يجب أن يكون عليه رجل الدين المسيحي الحقيقي في هذا العصر، وفي كل عصر، ولذلك وصفه الأنبا موسي أسقف الشباب قائلاً: "أبونا بولس باسيلي نوعية نادرة متعددة المواهب ولذلك أري فيه نموذجا للكهنوت المثالي، وللعمل الإنساني، والروح الاجتماعية، كما كان نموذجاً للروح الوطنية"

 

وفي مقال آخر سأكتب عن بولس باسيلي رجل الوطن، ورجل الفكر ورجل الإنسانية