عنبر ١٢ بقلم : محمد فيض خالد

عنبر ١٢ بقلم : محمد فيض خالد
عنبر ١٢ بقلم : محمد فيض خالد

 

حَتّى إِذا ما توقّدت الشّمس والتَهبت خيوطها المُتَدفقة من بطنِ السّماء ، تُزيح عن وجهِ الرَّصيف بقايا نسيم الصُّبح البارد، يَتَهاطل الزُّوارُ من كُلِّ حَدَبٍ، يرمون بعيونهم المُرتَعِشة مبنى مستشفى الصَّدر ، افترشَت " حسنية " مكانا صَوب البوابةِ ؛ تُطالِع حركتها ، تلتمع حدقتاها في وجهٍ نُحاسيّ كئيب ، تمدّ يدها في وهنٍ تُخرِج كِسرةَ خبزٍ لدِنة ، وقطعة جبن قديم من بطنِ منديلٍ محلاوي باهت، تمسح فوقَ ظهرِ صغيرها " سيد" الذي تلهّى يلتهم حلواه، ترميه بابتسامةٍ طافت على شفتيها ، لتعودَ سريعا تمسح مدخل المستشفى الذي بدأ يستقبل زواره.
مُنذ اعتلّت صحة " سعداوي " ونفدَ السُّل لصدرهِ، ليؤتي على البقيةِ الباقية من عافيتهِ ، وهو يُلازمُ سريره في " عنبر١٢" ، قال الأطباءُ:" إنّ حالته مُتأخِّرة ، ولابُدّ لهُ من رعايةٍ"، في السَّابقِ لم تُفلِح معه نصائحهم، ، يضرب كرباجه الطويل وجهَ الهواء مُنفعلا ، قائلا في ثورة:" هو أنا مكسّح علشان اتحجز!"، يشغله أمر أسرته ، لا عائل لهذه الحُنوك إلّا ما يرجع بهِ من قروشِ شقاء يومٍ كامل فوق َ ظهرِ " الحنطور" ، بطلت هذه الأيام موضة " الحناطير" ، بعدما امتلأت الشوارع بالعرباتِ الحديثة ، نصحته زوجته ألفَ مرةٍ؛ أن يبحثَ لنفسهِ عن مصدر رزقٍ جديد ،  كانَ يَهبّ فيها مثل " وابور الجاز " مُلتهبا :" دي مهنة البهوات  يا جاهلة ، وكار ناسي"، ظَلّ في عنادهِ القديم ، حتّى داهمته مَتاعب المرض يستنفد عمره رويدا رويدا، تناثرت شكواه من أعباءِ المعيشة، حتّى حصانه الوفي باتَ رهن الهلاك ، لم يكن " عبدالهادي " بالمُقامرِ الذي يَقتَحم فِجَاج الأرضَ يلتقطَ من أقواتها فما كانَ لهُ أن يفزَع لما يفزَع إليهِ النّاس ، حتى كانَ ذاتَ أصيلٍ وقفَ إلى جوارِ عربته ، يُنازِعَ آلامَا مبرحة، شاعت في صدرهِ كَكراتِ اللَّهب ، هدأت بعد سعالٍ خانق أنفاسه ، دارت الدنيا من حولهِ وهو يبهتُ في يدهِ المُلطَّخةُ بدمٍ غليظ ، وبعد عناءِ يومٍ كامل قضاه أمام شباك التّذاكرِ، قرّر الطبيب احتجازه حتّى يتعافى ، تلقّت " سعدية " الفاجعة مولولة، فهي تعلم من حالهِ ما غابَ عنه ، ومن دنياها ما يغيب عن النّاسِ، لكنّها تَعقد الأملَ في غدٍ يأتي ، يرجع فيهِ رجلها بيته ، تُطَالِعُ كُلّ زيارةٍ وجهَ المريض المزدول، ولونه الشّاحب المبدول ، ولهاث صدره المُتَسارِع، ونخامته بالدّمِ ، ووجوه المرضى الكالحة من حولهِ ، بأنينهم المتواصل ، تُقلِّبهم أيادي الممرضات كالموتى، وجلجلة ضحكاتهن تَهزّ العنبر ؛ فينقبض صدرها ، فَوق الرّصيف تسترجع ذاكرتها تعتصر ماضيها ، مُذّ أتى بها " عبدالهادي " مِنْ قريتهم ابنة العاشرة لم تجد يوما هانئا، لم تجد من معسولِ حكايات البنات عند الموردةِ عن البَندرِ ، ورغيف القمح الساخن إلّا الضنك ومرّ الأقدار ، مصمصت شفتيها في استسلامٍ وهي تلُملِم أسمال أولادها المُلقاة في فوضى لتعودَ للبيتِ، كانَ " جلجل " الحصان المسكين يَلوك خطامه، ما إن فتحت باب حظيرته حتّى اطلقَ صهيله الموجع ، نظرة تأنيبٍ بعدما فعلَ الجوع فيهِ ما فعل ، أنساها مرض " عبدالهادي " أمره ، طالت رقدة المريض ، وفي كُلّ مرةٍ تودِّعه وداعا ليس من ورائهِ عودة تُرتجى ، مع المساءِ تحتضنُ " نفيسة " آخر العنقود ، هي دائمة السؤال عن والدها ، ما إن تُبصِرَ أصابعَ الفجر تنفلت من زَوائبِ الليل السّوداء ، مُعلنةً انبلاج النّهار ، حتّى تُبادِر بالذهابِ للمستشفى ، تقف أمامها وقفة الوثني أمام صنمهِ، تقضي ساعاتها في أحاديثٍ عِمادها التّرفيه ؛ علّ المريض يَنسى كبوته ، أتت يدها على متاعِ البيت ، ومن قبلهِ" جلجل" رحمةً بهِ من موتٍ محتوم ، بدأ " عبدالهادي " ينشط من عقالهِ، لطّخت العافيةُ وجنتيه قليلا  ، سكنَ أزيز صدرهِ، وتوقّف مقذوف فمه، بعدما اعتدلَ ميزان النّهار ، كَتَبَ الطبيبُ المُعالِجُ تصريحا بالخروجِ، انفلت من البوابةِ مُستندا بينَ ذراعين ، ليجدَها في استقبالهِ، غَمرها بينَ ذراعيهِ في اشتياقٍ، انثنت خَجَلا وهي تُردِّد مستحية :" ألف بركة ياخويا، رجعتك يوم عيد"، عادوا جميعا للبيتِ، إلى  دوامة الحياة ، تُغرِيهم بالأماني كغيرهم ؛ حتّى يَستَرِدّ الله وديعته..