الشعراء هم أرق البشر شعورا، وأصدقهم إحساسا، ولا إخال شاعرا كتب لشعره الخلود والبقاء وهو لا يحمل تلك الأحاسيس الصادقة، التي يحسن رصدها وتجسيدها جمالاً يبعث في النفوس الأمل وحب الحياة؛ فيجد العاشق في إبداعهم مواساة لما يكابده من عذابات الحب وجوى الشوق، ويجد فيه المكلوم بلسمًا يداوي جراحاته، ويشعر القانط في شعرهم بنور الأمل يبدد ظلمات اليأس.
والشعراء – كما يقول أستاذنا العقاد – هم طلاب الكمال والمثل العليا في كل زمان ومكان؛ فقد منحهم الله من صفاء الشعور ما لم يمنحه غيرهم من البشر، يجيدون التعبير عن مكنونات النفوس، ويجد المتلقي في شعرهم واحة لأفراحه وأتراحه بجانب المتعة الروحية والجمالية، ويظل الشعر – وحده – ملاذا وحصنا منيعا يلوذ به الشاعر فارّا من هجير الحياة إليه؛ فليس له غيره، يكتفى به عما سواه؛ يجمعون بين مشاركة الناس أحلامَهم وآمالَهم ، وبين تلك الحالة الفريدة من السمو والرفعة؛ فشعورهم مختلف عن شعور غيرهم من الناس، يرون الكون من خلال أحلامهم وطموحاتهم، يتمنون أن يكون الناسُ قاطبةً مثلهم، يسعدهم منظرُ الجمال في الأرض، ويقسو عليهم قبحُ البشر وطباعُهم الذميمة؛ فيهربون إلى عالمهم غير مكترثين بما حولهم من ضجيج الدنيا والورى، يعيشون على الحُلم له ومنه؛ بيد أنهم – في الوقت ذاته – لا يغفلون واقعهم ومعاناة أبناء وطنهم.
"الشعر العربي قد اتخذ له في كل عصر طريقة تناسب روح ذلك العصر، وهذه الطريقة العصرية لا تشبه طريقة البداوة، ولا هي في شيء من طريقة الدولة العربية، ولكنها طريقة يمليها عصرٌ تغيَّر فيه محل الإنسان من بيئته ومجتمعه، وخلعت فيه الطبيعة أمام عينيه ثوبًا بعد ثوب؛ فظهر له ما كان خافيًا، وازداد توقه إلى استطلاع ما لم يبدُ، وكان فيما بدا له مقابح ومحاسن، كان سابق ظنه بها غير ما عاينه منها، فلو أن شعراء المذهبات بُعثوا اليوم من أرماسهم، لما نظموا حرفًا واحدًا من مذهباتهم، ولكانوا في المذهب العصري أشد من أشد دعاتنا غلوًّا في الدعوة إليه".
بين يدي حضرات السادة القراء ديوان " همس الندى " لشاعرة تعشق الحياة كما ينبغي أن تكون؛ تأسرها الكلمة العذبة، وتؤلمها قسوة البشر وغلظة طباعهم، تنثر عبق الأمل ومشاعر الحب بين ثنايا ديوانها، ولعل ذلك جليٌّ من اختيار عنوان الديوان الذي يشي برقة المشاعر وجمال الكلمات وعذوبتها، فتسمع – أيها القارئ – " حديث الحب" الشفيف، الذي ينم عن صدق في التجربة وجمال في الأسلوب ورشاقة في الألفاظ، وابتكار في الصورة والخيال.
ولعل أعظم ما يميّز نادية ذكي من خلال ديوانها "همس الندى" اعتزازها الشديد بنفسها وتجربته وخصوصيتها، والاعتداد بالذات العاشقة والشاعرة سمة أصلية في هذا الديوان؛ فشاعرتنا – وإن كانت تخلص في حبها – لديها ذلك الاعتداد بالنفس، وهي – بلا ريب – سمة العظماء الذين يقدرون أنفسهم حق قدرها:
أنا لستُ أسيرةَ عاطفةٍ
بل قلبي قد خُلِقَ أبيَّا
فاحذر من عَودِكَ لحياةٍ
قد صارتْ سِفْرًا مطويا
فوداعًا بل ألفَ وداعٍ
لخداعٍ لم يخفَ عليَّ
فليست شاعرتنا تلك الشكّاءة البكاءة كما يظهر ذلك في شعر معظم شواعر عصرنا؛ حتى آض شعرهن عنوانا على الثكل والنواح؛ فالأمر جد مختلف لدى شاعرتنا ولعلك – أيها القارئ الكريم – تلحظ آية ذلك الاعتداد بالذات حين تصرخ : " لست ليلى" فشاعرتنا ترفض أن تكون مجرد صورة من ليلى أو لبنى، أو غيرهن من المعشوقات الشهيرات في أدبنا العربي؛ فلها شخصيتها الفريدة، وتجربتها الخاصة:
لستُ ليلى العامريةْ
لستُ لبنى أو بهية
لَيْسَ بِى شَوْقٌ للقْيا
في الليالى الشاعرية
فهي صاحبة تجربة فريدة شديدة الخصوصية وسمتها بميسم الأنفة والكبرياء؛ وهي تحمل قلبا ينبض بالأحلام الجميلة، تعيش لتلك المشاعر السامية:
إنَّ قلبى فيه نبضٌ
فيه أحلامٌ شجية
إنها " السلطانة " التي تقول في عزة وإباء: " لا يا حبيبي " وتكره الـــ " مرواغة " وتعلم أن " وردته " قد أفشت السر الذي يخفيه:
الوَرْدَةُ الْحَمْرَاءُ أَفْشَتْ سِرَّهُ
رَاحَ الْعَبِيرُ بِشَوقِهِ يَتَحَدَّثُ
كَمْ كَانَ يُخْفِي مِنْ أَنِينٍ هَارِمٍ
وَعُيُونُهُ لَحْظٌ بِلَحْظٍ تَبْحَثُ