امرأة تحت سيف الأقدار ( 29 ) بقلم إدوارد فيلبس جرجس

امرأة تحت سيف الأقدار ( 29 ) بقلم إدوارد فيلبس جرجس
امرأة تحت سيف الأقدار ( 29 ) بقلم إدوارد فيلبس جرجس
 
 
 
 
 
 
 
 
أسبوعان والدكتور ذهدي يحاول أن يراها ، تتهرب منه دائما ، تحاول أن تبتعد عن طريقه بالرغم من حب بدأ يتسرب لقلبها نحوه ، لا تخشى مرضه لأنها واقعة تحت نفس المرض وهى التي أهدته إليه . لكنها تخشى أن تنهار أمامه إذا هاجمه السعال والدوار مرة ثانية وتقرأ الموت في عينيه . لا تعلم كثيرا عن أعراض هذا المرض ، لكن تعلم أنه يفقد مناعة الجسم قوتها ، وأن أي لفحة هواء يمكن أن تقضي على المصاب به ، متيقنة أن سعال الدكتور ذهدي أول بوادره ، قرأت أنه يمكن للمصاب به أن يعيش فترة قد تمتد لسنوات ، لكن يبدو أنه متعجل النهاية مع الدكتور ذهدي . حتى لو تحملت وطأة هذا اللقاء فكيف ستهرب منه لو ألح عليها بالزواج وقد اعترفت له بحبها . دق جرس الهاتف ، تغلبت على ترددها ورفعت السماعة ، جاءها صوته وكأنه صوت آت من القبر .
قال ذهدي بصوت باهت : 
_ لماذا تهربين مني يا طبيبتي وشافية نفسي .. وأول وآخر من أحببت . 
أجابت ناديه متلعثمة
_ أنني لا أتهرب ولكنني كنت مشغولة في العمل.
_ هل أزعجتك رغبتي للزواج منك ؟
-أبدا .. أبدا  وأن كنت لم أتخذ قراري بعد لكنك لم تزعجني بطلبك هذا على الإطلاق ، بل سررت به لأنه دليل لا ينقصه التأكيد على حبك لي .
_ لو تعلمين مقدار حبي لك ، ما كنت تركتيني طوال هذه الفترة أبحث عنك وأنا كالتائه الذي ضل طريقه ، الآن ستحضرين مرغمة ، يدفعك فضول النساء وغيرتهن ، فلقد خطبت غيرك . 
_ خطبت غيري ؟ قالت ناديه وموجة من الدهشة والخوف تلطمانها .
_ نعم خطبت الموت ، وأنا على وشك أن أزف إليه ، أنا راقد في المستشفى أعد نفسي لهذا اليوم . 
 أمطرت الدنيا ظلاما أمام عينيها ، خرجت الكلمات حادة كالرماح من فمها .
_ مستشفى ، أي مستشفى ؟
_ مستشفى الحميات ، يكذبون علىَّ بأمل مشروخ ، يظنون أني أصدقهم ، لا يعلمون أني أرى الموت وهو يزحف نحوي . 
ألقت سماعة الهاتف ، تبعثر عقلها ولم تستطع جمعه ، نهبت الطريق إلى المستشفى ، كان آخر ما تلفظ به وهو يمسك بيدها : 
_ استطعت أن تشفيني مرة ، فهل تستطيعين شفائي من هذه العلة ، ماتت شفتاه فوق ظهر يدها . لم تنتظر ، هربت إلى الطريق وهي تتمتم بحركة هستيرية .
_ هل تطلب من قاتلتك الشفاء؟ .. أنا قاتلتك .. أنا قاتلتك .
 
********
        يومان لم تر شمس الله ، تغفل عيناها وتقفز على شبحه ، جالسة فوق الفراش وعلى جانبيها وسادتان ، لا تريد أن تفرد جسدها ، أصبحت تخشى النوم . شفتاه الباردتان لاصقتان فوق ظهر يدها ، تحاول أن تقنع نفسها بأن لقاء الفراش الأول معه تم وهي غير واعية لنفسها ، بين أن تصدق نفسها وتكذبها حرب لا هوادة فيها . أحبته وكانت تعلم أن الزواج محال بينهما ، فهي لا تضمن الظروف وقد تنجب منه فيولد والموت معه ، تريده كما هو دون زواج . أنيس لها في غربتها مع الحياة ، تنتظر نهايتها وهي لا تعلم تحت أي رقم سُجل أسمها في كشف الراحلين ، لم تعلم أن رقمه سبق رقمها . رحل وهو لا يعلم أنها هي التي سجلت إسمه في كشف الراحلين بيدها ، سحقت الأفكار رأسها ، استجارت بالكؤوس تحتسيها ، دارت رأسها وهي تشكر للخمر صنيعها . زحفت لأسفل وألقت برأسها على الوسادة ما بين اليقظة والغفوة ، استكانت لنعاس كانت في أشد الحاجة إليه.
 دار العقرب الصغير للساعة على الأقل خمسة عشر دورة قبل أن تستيقظ ناديه ، تذكرت رحيل الدكتور ذهدي وكأنه مر عليه أعوام ، تمتمت بصوت خافت رحمه الله . نهضت وهي تشعر بنشاط يدب في جسدها ، اغتسلت وتناولت طعامها ، أمام المرآة ابتسمت لروعة عينيها وهي تظلل غطاءهما بلون قريب منهما ، تذكرت موعدها بالإستوديو لتصوير فيلمها الجديد ، قررت أن تعرج على المستشفى لزيارة ميرفت بعد الانتهاء من التصوير .   
*********
استقبلتها ميرفت بنظرة عتاب لانقطاع زيارتها لأكثر من يومين ، همست لها بأنها كانت على وشك أن تهاتفها بالمنزل لأنها تحتاج إليها لأمر هام ، قبلتها ناديه معتذرة لانشغالها عنها مبدية استعدادها لتلبية كل ما تطلبه .
نظرت ميرفت إليها ووجهها ينطق بالرجاء وقالت :
_ عادل ..
قفزت ناديه وعيناها تدوران في الغرفة تبحثان عن عادل والكلمات تتساقط من فمها :  
_عادل .. خير .. ماذا حدث له .. أين هو ؟
ظهرت بعض الدهشة على وجه ميرفت لجزعها الملفت وقالت سريعا :
-إهدأي يا ناديه عادل بخير .. كل ما في الأمر إني قلقة عليه ، والاصفرار باد على وجهه ، يصر أن يجلس بجانبي كل ليلة ، ولا ينام سوى قليلا ، ما أرجوه منك أن تصري على اصطحابه معك حتى يذهب لمنزلنا ويأخذ قسطا من الراحة 
قالت ناديه وهي تقبلها :
-إذاً دعيني أنال شرف مرافقتك هذه الليلة .
_ولا أنتِ يا ناديه ، فأنا أعلم أنك مرهقة فأنت طوال اليوم بالأستوديو ، ثانيا لأني أريد أن تصطحبي عادل في سيارتك لأنى لا أريده أن يقود السيارة وهو مرهق. 
قالت ناديه مازحة :
_ شرف كبير أن أكون سائقة للدكتور عادل يا فندم ، ولكن أين هو ؟ .
_ ذهب يستطلع نتيجة الأشعة التي أجريت لي اليوم .
 حضر عادل إلى الغرفة ولاحظت ناديه ارتباكه واصفرار وجهه الشديد ، عيناه زائغتان برغم محاولته الابتسام ليخفي قلقه ، قال وهو يتكلف المزاح مرحبا بناديه:
_ هل رأيت قدومك دائما يجلب معه الخير ، نتيجة الأشعة رائعة ، والأطباء أقروا بأن هناك تقدما ملموسا مع العلاج .
 بدا الارتياح على وجه ميرفت ، لكن ناديه فطنت أن عادل لا يقول الحقيقة ، أصرت أن تصطحبه معها كرغبة ميرفت بالرغم من رفضه الشديد ، أمام رجاء ميرفت وإصرار ناديه رضخ وسار خلفها كطفل مطيع .  توقفت سيارتها أمام فيلا عادل ، رجاها أن تصعد معه لأنه يشعر بضيق في صدره ، رحبت ناديه . ألقت ناديه بجسدها المتعب فوق المقعد ، اليوم كان يوما طويلا بالنسبة للعمل بالإستوديو ، لاحظ عادل إرهاقها ، قال بلهجة متأسفة :
-آسف لو كنت ألححت عليك في الصعود معي وأنتِ مرهقة ، دعيني أكفر عن ذنبي بأن أقدم لك شيئا يعيد لك نشاطك .
ضحكت ناديه وقالت :
_ لا أعتقد أن لديك المشروب الذي يعيد لي نشاطي ، لأني أعلم أنك لا تحتسي الويسكي .
قال عادل وهو يأتي بزجاجة من الويسكي الجيد وبعض الثلج :
_ لكني أحتفظ ببعض منه ، وقد لا يخلو الأمر من كأس أو اثنتين في بعض المناسبات . 
انزاح إرهاقها ، طردت ملامحه وعيناه حزنهما بعد أن أتت الكأس الثانية بمفعولها ، جلست قبالته وسألته أن يخبرها بالحقيقة التي واراها عن ميرفت في المستشفى ، الحقيقة التي أظهرتها الأشعة على رأس ميرفت ، وضع يديه فوق رأسه كمن يفيق من حلم . لمعت الدموع في عينيه ، لعنت نفسها على نكأها لجرحه ، سارعت بصب كأسين من الويسكي وقدمت أحدهما له ، دفعها إلى حلقه كمدمن شراب ، لم تستطع عيناه الاحتفاظ بمائهما ، تسرب فوق وجنتيه ، أحست بالنيران تكوي قلبها . انفرجت شفتاه عن الحقيقة بأن علاج الفترة السابقة لم يأت بأي تقدم ، وبأن الجراحة الغير مضمونة العواقب باتت محتمة ، انتقل كل ألم قلبه لقلبها . دون أن تدري وقفت أمامه واحتوت رأسه بين كفيها ، أسندتها إلى وسادتي صدرها تضمه إليها بقوة ، أحاطت ذراعاه بخصرها ، انطفأت كل المصابيح بما فيهما مصابيح عقليهما ، لم يعد شيء مضيء سوى وجهه في عينيها ووجهها في عينيه . كؤوس الويسكي ألقت بكل العالم أسفل أقدامهما ، تشبث كل منهما بالآخر ، ضياع كل منهما تجسد في اللحظات التالية ، قبل أن تغيب عن وعيها تماما ، سمعته وهو يهذي مناديا زوجته بصوت ذبيح .. لا تتركيني يا ميرفت .. أرجوك لا تتركيني وحدي في هذا العالم القاسي ، أنتِ تعلمين كم أحبك .. إن كنت تنوين الرحيل اسمحي أن أرحل معك .. تلاشى كل شيء حولها .
السقف الأبيض المتقلب الألوان من الأبيض للأزرق للأسود للأحمر يعلوها ، ثعابينه البنية المتقاطعة تنظر إليها بشراسة ، أبعدت عينيها بسرعة لكنها وقعت على ضرب من المستحيل ، وجه عادل يغط في نومه بملامحه التي لا تفترق عن ملامح الملائكة ، لسعتها نيران الفراش فقفزت كالمجنونة ، وخزات كالحراب في كل جسدها ، من هؤلاء الذين ينهشون بنظراتهم كل ما كشفه الجسد العاري ، سابقت الريح نحو منزلها ، لاذت بحضن الفراش في غيبوبة كغيبوبة الموت .
استيقظت على رنين الهاتف ، صوت عادل المتعثر كطفل في أولى خطواته ، يعتذر ويقسم أنه لم يقصد أن يكون بينهما ما حدث ، وأن الخمر أفقدته وعيه . انتابتها دهشة وهي تستمع لكلماته التي تقول بأن ليلة حب كانت بينهما ، ظنته يهذي ، وقعت عيناها على قميصه الذي ارتدته خطأ ، عندما فرت من منزله ، عادت إلى ذاكرتها ألوان السقف وثعابينه ووجه عادل الملائكي وهو يغط في نومه ، صرخت صرخة مروعة ، ألقت بالسماعة ، صوت عادل يتسرب منها مستعطفا ومعتذرا على حماقته . لم يكن يعلم أن صرختها لم تكن سوى للخنجر الذي نفذ إلى قلبها ، عادل وهي معا في الفراش ، هذا معناه أنها وضعت في جسده مرضها القاتل ، عادل العزيز على قلبها قتلته بيدها ، قتلت زوج أعز صديقة . لو كان على الخيانة وحدها ما كان يهم ، ستعتبرها نزوة لا يعودان إليها ، ويظل عادل كأخ وميرفت كأخت ، لكن أن تقتل الاثنين معا . لو مات عادل ستموت ميرفت ، روحاهما معلقتان ببعضهما ، موت واحد يعني موت الثاني. عاد إلى ذاكرتها هذيانه الليلة الماضية ، يتشبث بحضنها وهو يظنه حضن زوجته ميرفت ، ودت للحظات أن تهدم الحائط برأسها وتتلذذ بمرأى دمائه ، ودت لو تمكنت من تعليق حبل في السقف وتشنقه بعنقها ، ودت لو دقت عنق الشارع بجسدها المتهاوي من الطابق السابع عشر ، لكن لم تهدم ولم تشنق ولم تدق عنق الشارع . تشبثها بالحياة أصبح أقوى من أي وقت آخر ، انتظارها للموت زاد من قبضتها على الدنيا ومتعتها ، نعم الألم يلوي قلبها ليا على فداحة المصيبة التي أهدتها لعادل ، وكأنها تهديه زهرة في عيد ميلاده ، لكنها لم تكن في وعيها على الإطلاق ، هذا لن يقدم أو يؤخر شيئا ، الموت سيزحف نحو عادل زحفا ، سواء كانت هذه الزحفة واسعة الخطى أو ضيقة ، سيأتي ولا ريب في ذلك . ما يشغل تفكيرها هو هل تنسى ما حدث ولا تخبر عادل كما فعلت مع وائل والمخرج راضي والدكتور زهدي الذي فارق الحياة وهو لا يعلم أنها قاتلته ، أم تخبره وليكن ما يكن ،  كيف تواتيها الجرأة وتقتله ثانية ، إخباره بالحقيقة لن يكون سوى باقة زهور مخبأ بها عبوة من الديناميت ، ما أن يلمسها حتى تنفجر فيه وتقطعه إربا . قد تكون الحقيقة فيها الخير حتى لا تنتقل العدوى لأسرته بأي طريقة من الطرق ، لكنها ستقتله بمجرد علمه بها ، تشتت ذهنها ونظرت في المرآة ولأول مرة تشعر بأنها تنظر إلى غول يفترس كل من يقترب منه .
 
وإلى اللقاء مع الحلقة لقادمة ؛