لم يعد رحيل الرموز الاجتماعية من حياتنا مدعاة للأسى أو الشعور بخسارة هؤلاء العظماء، بل صارت شماتة الرحيل هى الهاجس الذى يخشاه المترحمون على رحيل البعض، وقد تنامت ظاهرة الشماتة فى رحيل بعض الرموز وكأن سنوات عمرهم لم تكن كافية لتصفية الحسابات معهم، فراح الشامتون يقدمون الشكر للموت أن أخلى ساحة الحوار برحيل خصومهم.
رحل المفكر سيد القمنى، الفارس الشهير فى جدلية النقل والعقل، ولم تنعم روحه بدعوات الرحمة من خصومه ومعارضيه بل تعالت صيحات التشفى فى موته وكأن الموت عقوبة لمن كان خصيمًا لهم فى حياته.
عادة التشفى هذه دخيلة على أخلاق المجتمع الذى أسس ميثاق تقديس للموت، فلا يجوز على الميت إلا الترحم والتندر بخصاله الحسنة، ولكن أتى البديل الثقافى لتحل الشماتة محل وقار الموت.
فى الحقيقة، لم يكن المفكر الراحل د. سيد القمنى أولى ضحايا التشفى، فقد سبقته الكاتبة نوال السعداوى، ومن قبلهما الإعلامى الراحل وائل الإبراشى وغيرهم من كتّاب ومفكرين تربص بموتهم الشامتون فى مشهد أضاع رهبة الموت وحطم وقاره.
المدقق لهذه الظاهرة، أى ظاهرة التشفى بالموت، سوف يكتشف أن التشفى لم يكن بالشخص المتوفى، وإنما بأفكاره وخرس لسانه وجمود بضاعته التى لم يستطع الشامتون مناقشتها أو الاعتراض عليها فى حياته، وهى بالطبع ذريعة لا تبرئ ساحة أى من هؤلاء حتى وإن كانت الشماتة من الفعل لا من المتوفى.
تكمن القضية فى هشاشة الاعتراض ووهن الحوار وضعف الرصيد المعرفى لدى المعارضين بما لا يكفى للحوار ومواجهة الفكرة بمبررات الرفض.
تخبرنا القراءة المتأنية لكيفية رحيل العظماء أن التاريخ هو من يقرر بوابة الرحيل للعالم الآخر، فمن نظنه عبر فى صمت من بوابة ضيقة، قد تثبت الأيام أنه لم يرحل رحيلًا كاملًا، وأن ميراثه وتركته من الضخامة والعظمة بما يكفى لتخليد وجوده وسط الأحياء يزاحم أفكارهم حتى مع رحيله ببدنه، إذن هناك تسليم تام بأن خلود البشر يتنافى مع معادلات الخلق والخالق، إلا أن الخلود الجائر يظل ممكنًا إذا ما تمت مراقبة الأعمال والأفكار التى يتركها العظماء، فالتاريخ لا يجامل البشر، فمن يخلده الناس قد يفضحه التاريخ بعد عقود من رحيله.
عودة إلى صلب القضية، وهى جدلية النقل والعقل التى دافع عنها المفكر سيد القمنى وغيره ممن سبقوه لعالم الراحة، فلم تكن معركة الرجل ضد النصوص المقدسة، ولم تتطرق للمساس بثوابت الدين من قريب أو من بعيد، ولكن أرباع المجادلين لم يفهموا حجة الكاتب فى ضرورة صياغة فهم حديث للنص المقدس يمنحه صفة الصلاح لكل عصر ولكل مكان، وليس خفيًا أن أحد الجوانب المقيدة للفهم الصحيح هو تقييد النص المقدس باللفظ الذى يقولب الفهم الصحيح للمقدس، مثل عتق الرقبة والأسر والسبى، وهى أمور جاء وصفها بالنص المقدس واضحًا، ومع الوصف جاءت الأحكام الفقهية التى تطرح هذه الأحكام ضمن إطار تشريع المعاملات، وإذا ظللنا نبحث داخل نفس المثال، وهو عتق الرقبة، لطال أمد الجدل بين الفهم والفهم المعارض لأن الحقوقيات العالمية لم تعد تقبل بوجود أسرى يتم التفاوض بشأنهم مدى الحياة، وهنا يجب الالتفات إلى أن النص المقدس هو من الثوابت، أما فهم النصوص، وهو ما يعرف بالفقه، فهو أمر متغير متباين لا يعيبه وجود أكثر من قناعة بالفهم أو الفهم الآخر حتى وإن كان مغايرًا.
هؤلاء المجادلون وغيرهم من أرباع الفاهمين حرموا أنفسهم من سماحة الدين والتمتع برخَص الله وإتيان الفضائل من الباب الأوسع للعطاء الربانى، وبذات الوقت قيدوا منافع الدين لتخص سياقًا بعينه، أو زمنًا ولّى، أو أقوامًا لا ينتفعون بها، مثل رخصة توسعة شاهد رمى الجمرات بالحج وقت أن كان المكان يشبه البئر، وغير خفى أن تزاحم الحجيج كان سببًا فى قتل المئات قبل إجازة توسعة المرمى، وبل وتعدد طوابق الممشى للسعى ورمى الجمرات، صحيح أن الفتوى بالتوسعة جاءت لاحقة لمعاناة تكدس الحجيج، إلا أن ثمرة اليسر أصابت كل ضيوف الرحمن بحلاوة الحج بأمان.. فى الحقيقة، الأمثلة كثيرة، حتى وإن جاء التيسير متمهلًا إلا أنه كان نفعًا للعباد.
معركة النقل والعقل هى معركة قوامها إعمال العقل، فكما أفردنا سلفًا، تظل القداسة للنص الدينى دون أن تكون هناك قداسة موازية للأفهام أو الفقه الذى يحمله البشر فى عقولهم.
عودة إلى موضوعنا الأساسى، وهو عبور العظماء للعالم الآخر وفهم دور التاريخ ومعاركه الفكرية بين المتصارعين، سوف نكتشف أن أحكام النصر والهزيمة على المعارك الفكرية هى أحكام وقتية تخص عصرًا بعينه أو مجتمعًا بذاته، ولكن يجب قبول فرضية العفو أو الصفح عن الأفكار التى وصفت بالعوار فى الأزمنة السابقة.
إن تأطير الفقه والوقوف به على مشارف الماضى ربما يحرم المؤمنين من يُسر الدين وسماحة الأحكام وحلاوة الرخَص الربانية التى يمنحها الله للعباد.
رحم الله آخر الفرسان فى معركة النقل والعقل الراحل د. سيد القمنى، ومن قبله من اجتهد فأصاب ومن اجتهد فلم يصب، لأن الله يؤاخذ على النوايا وأسباب المسعى عوضًا عن النتائج.
فى النهاية، لا مبرر للقلق على عظماء التاريخ إن قضيت آجالهم، فأعمالهم هى التى لا تُبلى لأن الفكر هو الميراث الحقيقى الذى يتركه العظماء قبل رحيلهم.