حسني حنا يكتب: الحسين بن منصور الحلاج... شهيد العشق الإلهي

حسني حنا يكتب: الحسين بن منصور الحلاج... شهيد العشق الإلهي
حسني حنا يكتب: الحسين بن منصور الحلاج... شهيد العشق الإلهي

 

"كان الحلاج نبأ عظيماً في أفق التصوف الإسلامي"

*طه عبد الباقي سرور

 

 

شهد التاريخ ظهور شخصيات جدلية، ظلت حقيقتها مثار نقاش طوال حقبة طويلة. ولعل في صدارة هؤلاء هو الحسين بن منصور الحلاج( Al-Hallaj) الشاعر الصوفي الفارسي. وأحد معلمي الصوفية Sufism. وقد عرف جيداً بمقولته الشهيرة (أنا الحق Iam the trath) وفاقت شهرته الآفاق.

ولد الاحلاج في عام (858م) في بلاد فارس (إيران) وتوفي في بغداد في شهر آذار من عام (922م) زمن الخلافة العباسية.

هو أبو المغيث الحسين بن منصور، الذي يعد من أعلام التصوف في العالمين العربي والأسلامي. وقد اكتسب عدداً كبيراً من الأتباع كخطيب، قبل أن يتورط في صراعات السلطة مع الدولة العباسية، والتي أعدم على أثرها، بعد فترة طويلة من السجن، بتهم سياسية ودينية.

وعلى الرغم من أن معظم معاصريه الصوفيين، لايوافقون على أفعاله، إلا أن الحلاج أصبح شخصية رئيسة في الفكر الصوفي.

 

نشأة الحلاج

نشأ الحلاج في مدينة واسط جنوب بغداد في العراق. وكان قد ولد في منطقة البيضاء في الأهواز. ثم انتقل الى البصرة قبل قدومه الى بغداد وهو في الثامنة عشر من عمره.

وقد تنقل بين عدة مدن وبلدان، منها الهند. وفي مدينة واسط تعلم الحلاج النحو والدراسان الدينية على أيدي الحنابلة، كما تتلمذ على يدي (سهل التستري) لمدة عامين. ثم جاء إلى البصرة، المدينة المتخمة بالقلاقل السياسية.وقد كانت البصرة مركزاً للتصوف. ولم يعتنق الحلاج التصوف حتى انتقل إلى البصرة.

 

فكر الحلاج

التصوف عند الحلاج، جهاد في سبيل الحق، وليس مسلكاً فردياً بين المتصوف والخالق فقط، وهذا منهج جديد في التصوف قاده الحلاج الذي طور النظرة العامة الى التصوف. فجعله جهاداً ضد الظلم والطغيان، في النفس وفي المجتمع، وقد رأى البعض أن تعاليمه تتعارض مع تعاليم الاسلام.

ووصل أمر الحلاج إلى القضاء، الذي طالب بمحاكمته. وبعد أن طالت محاكمته حكم عليه بالموت مصلوباً.

وكان الحلاج ممن يرى التصوف جهاداً متواصلاً للنفس، بالإبتعاد عن متع الدنيا، وتعذيبها بالجوع والسهر. وتحمل عذابات أهل الجور. وبث روح الثورة ضد الظلم والطغيان. وقد دخل بعض أمراء الحكم تحت قيادته الروحية. وكتب الحلاج لهم بعض الرسائل في الأخلاق والسياسة. ولما دالت دولة أولئك الأمراء، بتغلب أعدائهم عليهم. ألقي القبض على الحلاج وحوكم وأعدم.

ومن المعروف أن القاضي أبو عمر المالكي هو من حكم بقتل الحلاج. وأمر الخليفه العباسي المقتدر بالله (895- 932م) بتنفيذ الحكم.

 

محاكمة الحلاج

وصل أمر الحلاج الى الخليفة المقتدر، عن طريق وزيره حامد بن العباس، فوافق الخليفه على أهدار دمه، وجعله عبرة لكل الصوفيين، كما لاحق الوزير حامد أتباع الحلاج وأصدقائه. وقتل العديد منهم

وقد ذكرت التفاصيل في كتاب (الكامل في التاريخ) لأبن الأثير و(تاريخ مختصر الدول) لابن العبري و(التنبيه والاشراف) للسعودي وغيرها.

إن تجوال الحلاج في البلدان، وتطوافه في الأسواق، وفي لقائه بالناس كان ينتقد الأوضاع السائدة في عصره. وهذا ما أوغر عليه الصدور. ودبرت له المكائد، وحوكم محاكمة صورية سريعة، بتهمة الزندقة والإلحاد.

وقد حوكم الحلاج في بغداد، وجرت إدانته وإعدامه حيث ضرب بالسياط، وقطعت يداه ورجلاه، وقطعت رأسه، وأحرقت جثته بالنار بعد صلبه، ودفنت أشلاؤه في بغداد.

قال عنه (عبد القادر الجيلاني) وهو إمام صوفي حين سئل عنه:

"عثر الحلاج، ولم يكن في زمانه من يأخذ بيده، ولو أدركته لأخذت بيده".

وقال المؤرخ ابن كثير في كتابه (البادية والنهاية): "لم يزل الناس منذ قتل الحلاج، مختلفين في أمره"!..

 

أشعار الحلاج

للحلاج قصائد كثيرة في العشق الألهي، كما أن للغته مميزات خاصة، تتسق مع لغة الصوفيين، كابن الفارض والجيلاني، من حيث التعبير الرقيق، وتمجيد الآلام، في سبيل العشق الكبير، كما عبر بشعره عن فلسفته الوجودية، أن الله في كل مكان.

وتعتبر قصائد الحلاج التي تطرب سامعها، حالة حال أغلب الشعراء الصوفيين. مما حدا بالكثيرين من أهل الإنشاد الصوفي الى استخدام كلماته. كما لجأ إليها كبار الملحنين أمثال الموسيقار اللبناني (مارسيل خليفة) في قصيدة (يانسيم الريح) والموسيقار المصري (عمر خيرت) في قصيدته (والله ماطلعت شمس وما غربت) وهي قصيدة لحنها كمقدمة لمسلسل (الخواجة عبد القادر) منذ بضع سنوات.

وعلى الرغم من أن الحلاج لايعد نفسه من الشعراء. إلا أن ديوانه من ابدع دواوين الشعر العربي. ويضم الديوان نصوصاً جمعها تلاميذه. وهي أشعار ومناجيات. وثمة نصوص أخرى حررها تلاميذه، تزودنا ببضعة أشعار نثرية مفقودة للحلاج، ومن أشعاره المعروفة:

يا نَسيمَ الريح قولي لِلرَشا

لَم يَزِدني الوِردُ إلا عَطشا

لي حَبيبٌ حُبُّهُ وَسطَ الحَشا

إِن يَشَأ يَمشي عَلى خَدّي مَشى

إِن يَشَأ شِئتُ وَإِن شِئتُ يَشا

ومنها أيضاً:

وَاللَه ما طَلَعَت شَمسٌ وَلا غَرُبَت

إِلّا وَحُبُّكَ مَقرونٌ بِأَنفاسي

وَلا جَلستُ إِلى قَومٍ أُحَدِّثُهُم

إِلّا وَأَنتَ حَديثي بَينَ جُلّاسي

مالي وَلَلناسِ كَم يَلحونَني سَفَهاً

ديني لِنَفسي وَدينُ الناسِ لِلناسِ

والقارئ لايمل من قراءة اشعار الحلاج الرقيقة:

سَكَنتَ قَلبي وَفيهِ مِنكَ أَسرارُ

فَلتَهنِكَ الدارُ أَو فَليَهنِكَ الجارُ

ما فيهِ غَيرُكَ أَو سِرٌّ عَلِمتَ بِهِ

وَاِنظُر بِعَينَيكَ هَل في الدارِ دَيّارُ

ومن أقوال الحلاج:

لِلعِلمِ أَهلٌ وَلِلإيمانِ تَرتيبُ

وَالبَحرُ بِحرانِ مَركوبٌ وَمَرهوبُ

والحلاج يجل الحب في أشعاره ولنسمعه يقول:

الناسُ موتى ...وأهلُ الحبِ أحياءُ

ولا أظن أنه يوجد في ايامنا هذه، تحليل أدق من هذه الأبيات لسر الحلاج وسر قتله على يد الحكومة. وأهل الصلاح والايمان. فإن الحلاج مثال أعلى للحقيقة، التي أفاد عنها في الكثير من أبياته، التي لازالت محبوبة عند أهل التصوف. كما قال في قصيدة مشهورة:

أَقَتلوني يا ثِقاتي

إِنَّ في قَتلي حَياتي

وَمَماتي في حَياتي

وَحَياتي في مَماتي

وقد كان موته سبب حياته الأبدي في أشعار الشعراء، وفي أحاديث وأغاني العوام.

 

وقفات مع الحلاج

"كان الحلاج نبأ عظيم في أفق التصوف الإسلامي. ولايزال الناس يستاءلون عن النبأ العظيم، الذي فيه يختلفون!..

هكذا يقول (طه عبد الباقي سرور) في كتابه المنشور عام (1961) حول شخصية المتصوف الكبير، الذي تفوق شهرته الافاق. ماهذا النبأ.. ماسر هذا العاشق الصادق، الذي رأى الفقهاء قتله لازماً. وواجباً لصالح الأمة الاسلامية.

وقد اشار الشاعر المصري (صلاح عبد الصبور) في مسرحيته (مأساة الحلاج) الى هذا السر. إذ كان على لسان الصوفيين المتألمين بمقتل (حسين بن منصور الحلاج):

أبكانا أن فارقناه

وفرحنا أن علقناه في كلماته

نلقى مااستبقينا منها في محاريث الفلاحين

ومخبئها في بضاعات التجار

وتحملها للريح السواحة.. فوق الموج

وندونها في الأوراق المحفوظة بين طوايا الثوب

وسنجعل منها أشعاراً وقصائد

قل لي.. ماذا كانت تصبح كلماته

لو لم يستشهد؟!.

ولم تزل المناقشات والمباحثات حول حال الحلاج. أهو كافر أم مؤمن. تشغل فكر المسلمين والمستشرقين على حد سواء.وهناك من المستشرقين من أدعى أن الحلاج كان نصرانياً (مسيحياً) وكان المفكر الفرنسي (لوي ماسينيون Louis Massignon) أول من درس حياة الحلاج وآثاره على مدى أربعين عاماً أو أكثر. وهو الذي أثبت أن مشكلة هذا المتصوف الشهيد، كانت الإتصال بين الروح القديمة وبين الأرواح الأنسانية الحديثة. وقد أفاد الحلاج فى كثير من قصائده. عن رغبته لهذا الإتصال.

كفى حزناً أني أناديك دائماً

كأني بعيد، أو كأنك غائب

وقد كان الحلاج يعتقد ماقال: "ليس في الدنيا للمسلمين شغل أهم من قتلي".

ولاريب أن موت الحلاج الغريب قد جذب اهتمام المؤرخين، وأثر تأثيراً عميقاً في قلوب الخلق، وبالخصوص قلوب المتصوفين. ويؤكد (طه عبد الباقي سرور) في آخر كتابه (الحلاج.. شهيد التصوف الاسلامي) مشيراً إلى ضريح الحلاج في بغداد. ومن الغريب أن الضريح لايضم جسداً. ولايحوي رفاة. لقد أقيم رمزاً أو ذكرى لروح لمع في أفق الحياة. كما يلمع الشهاب في أفق السماء.

ثم أحترق كما يحترق الشهاب، يطل على الوجود، بنور لاتحتمله العيون!

 

تلامذة الحلاج ومريدوه

نشر تلامذة الحلاج ذكراه في بلاد فارس. وفاض اسمه في الشعر الفارسي والتركي، ومايلي ذلك في بلاد االاسلام. وقد صار الحلاج عند بعض الشعراء ملحمة الخلود الكبرى، ورائد الحب الإلهي.

الشاعر الفارسي (السنائي) المتوفي عام (1141م) قال في كتابه (حديقة الحقائق): "إن الحلاج وصل في الظاهر إلى الصليب، وفي الباطن إلى الحبيب". وكان الحلاج قد أشار الى أن الشهادة على الصليب هي معراج العاشق الصادق.

وهناك من أفاض بالمعلومات عن حياة الحلاج في الشرق والغرب، هو الشاعر الصوفي والمؤرخ (فريد الدين عطار) المتوفي عام (1220م).

وإذ نفتح ديوان جلال الدين الرومي (شمس تبريز) نجد تلميحات كثيرة الى الحلاج. وهناك متصوف تركي/ أذربيجاني هو (عماد الدين نسيمي) الذي قتل في حلب عام (1417م) قد اشار إلى نسبته الروحية بالحلاج أما الشيخ (محيي الدين بن عربي) المتوفي عام (1240) فقد شيد نظامه الصوفي على أساس نظريه وجوديه عند الحلاج. كما يعتبر ماسينيون أن (شمس الدين التبريزي) ومولانا (جلال الدين الرومي) من الأبناء الروحيين للحلاج.

 

الحلاج في الأدب العربي المعاصر

عم الحديث عن الحلاج بشكل واسع في الأدب العربي المعاصر منذ ستينات القرن الماضي ممثلاً في أعمال الشاعر (عبد الوهاب البياتي) و(نجيب سرور) كما كتب عنه (كريم الراوي) مسرحيته (مدينة السلام) عرض فيها قصة حياته وإعدامه.

ولعل أول من بحث عن الحلاج من الوجهة الفلسفية، كان الدكتور (عبد الرحمن بدوي) ومن آثار أدباء العرب المحدثين. نكتفي بذكر (مرثية الحلاج للشاعر السوري أدونيس) و (ماساة الحلاج) لصلاح عبد الصبور وهي مسرحية عميقة التأثير، أشار فيها الى وفاة الحلاج، الذي مات قرباناً لغضب الفقهاء الجاهلين والسلطة الغاشمة.

وفي الختام نقول:

سيبقي الحلاج الصوفي الأكثر تأثيراً في تاريخ العرب والمسلمين. والأعميق أفكاراً. ونموذجاً لافتاً في تاريخ الإنسانية. يقف أمامه الكثير من الباحثين عن معنى الحب الالهي. وسيبقى الحلاج مصدر إلهام للأحرار في العالم. وهو الذي يعد أهم أقطاب التصوف الإسلامي، الذين دفعوا حياتهم ثمناً لصدقهم.