شاعت عبارة «حوار مجتمعى» فى السنوات القليلة التالية لأحداث ثورة يناير 2011 (بحسب ما تراها عزيزى القارئ). وعلى الرغم مما جرى فى العديد من «الحوارات المجتمعية» فى تلك الفترة العصيبة من تاريخنا الحديث، وما آل إليه بعض هذه اللقاءات من خناقات واحتقانات، بل و«تنطيط» البعض على الطاولات والكراسى، إلا أن حال شوارعنا فى حاجة ماسة إلى حوار مجتمعى دون «تنطيط» على الكراسى أو تفخيخ لأفكار الغير. وبالمناسبة، فإن متابعة بعض الحوارات المجتمعية فى أعقاب 2011 كانت وتظل جديرة بتحليل خبراء علوم النفس والاجتماع والأنثروبولوجيا لفهم ما جرى للمصريين عبر السنين. وأعود إلى حال شوارعنا والذى لا يمكن اختزاله فى فوضى سلوكية مرورية أو فوضى سلوكية خاصة بالمقاهى، أو فوضى سلوكية فى محيط باعة الأرصفة، أو فوضى سلوكية خاصة بمواقف الميكروباص وشطحات التكاتك وجنوحات التروسيكل، أو فوضى سلوكية تمجد الصراخ والصوت العالى وتقدس القبح المعمارى، أو فوضى سلوكية خاصة بتصرفاتنا مع بعضنا البعض، حيث إلقاء القمامة فى كل مكان وأى مكان، ورفض فكرة الطابور الضامنة للحقوق والعدالة، واعتبار النظام والقواعد تقييدًا للحقوق وتكبيلًا للحريات. قائمة الفوضى السلوكية لا تحتاج مقالًا بل أطروحة دكتوراه. والإشارة إلى حاجتنا الماسة لحوار حول ما آلت إليه سلوكياتنا جميعًا ليس فيها ما يعيبنا أو يشوه سمعتنا. بل يعيبنا أن نستمر فى حياتنا وكأن ما نقترفه من تصرفات يومية ونقدمه لبناتنا وأبنائنا من «مثل أعلى» يقلدونه.
ما يعيبنا هو أن نغض الطرف عن أخلاق ضربها عطب، وسلوكيات تحتاج تطهيرًا جذريًا. وما يشوه سمعتنا ليس أن نكتب ونطالب بهذا الحوار بغرض الإصلاح، لكن أن نكفى على التدنى السلوكى «ماجور»، فلا يتحدث عنه إلا الأغراب. وبعد تفكير عميق وتدقيق طويل، يبدو أن ما نطالب به من متفرقات كثيرة تتراوح بين تجديد وتطهير خطاب دينى، بعد ما ثبت أن «الصحوة» التى داهمتنا نتج عنها (أو تزامن معها) سقوط سلوكى مدوٍ. فمن غير المعقول أن يتدين شعب بهذا الشكل «الواضح» فى خلال نصف قرن، وتتعرض أخلاقه وسلوكياته لتدهور رهيب فى الوقت نفسه.
والكلام نفسه ينطبق على شكاوى فوضى المرور، وهى فوضى لا تمت بصلة لجهود إدارة المرور المشكورة فى تحرير عشرات المخالفات، وتوقيع مئات الغرامات بقدر ما تتصل بجنون القيادة وانعدام الإلمام بقواعدها، ما ينجم عنه نتائج قاتلة وتحول الشوارع إلى غابات وأحراش. وكذلك الحال لشكاوى جيوش الموظفين فى الهيئات الحكومية الذين يعتقدون أن مهمتهم تحويل حياة المواطنين من طالبى الخدمة إلى عذاب وضنى. الحوار مطلوب حتى نصل إلى اتفاق ما يبدأ بالاعتراف بأن لدينا جميعًا معضلة سلوكية، وتمر بتشريحها وربط جزيئاتها الدينية والمرورية والترفيهية والخدمية ببعضها، وتنتهى بعلاجات قابلة للتنفيذ لا بالمناشدة لكن بالتطبيق. ولو لم نفعل، فعلينا تعديل «إنما الأمم الأخلاق ما بقيت» لتصبح «ما» نافية لا ظرفية.