انتصف الليل ومازال ابنها خارج البيت على غير عادته، أيقظت والده الذى يغط في نوم عميق ليبحث عنه. الأب يسير في الشوارع على غير هدى في بداية سبعينات القرن وبداية دخول الكهرباء و التليفزيون للمقاهي .فقابله أحد أتراب ابنه(من يلعب معه في التراب في الصغر )فأجابه أنه في المقهى بعد أن سأله الأب عنه. وقف على باب المقهى ونادى على ابنه بعد أن وبخه توبيخا شديدا على مشاهدته تلك المسخرة (فيلم لنادية الجندي ) التي يبثها الجهاز اللعين سمع تلك العبارة من الحاج محمد وهو يوبخ بها ابنه بالأمس....أمتثل الولد لطلب أبيه بالعودة للبيت وأصاه أن يخبر أمه أنه : ها يشق على الغيط وهناك احتمال أن يتأخر بعض الوقت . وبعد انصراف الابن عاد الرجل جلس في الصفوف الأولى ليستطلع هذا العالم الجديد بنفسه ويحكم على عالم المقهى من خلال التجربة الحية وجلس أمام الجهاز اللعين" أقصد التليفزيون" انبهر الرجل بكل ما رأى وأعجب ببطلة الفيلم: نادية الجندي " الشابة الجميلة والبطلة البلدي على حد وصفه بعد أن أخبره بإسمها أحد الشباب ، ثم طلب قهوة بعد الشاي ومد يده على رأسه ساحبا الطاقية من مؤخرة الرأس حتى استقرت على مقدمتها ، ولم يعد يظهر إلا عينيه تدور مركزة خلف حركات البطلة بنهم شديد ثم ذهب الرجل مسحوب بخياله لعوالم أخرى وهذه دلالة إنشكاحه وقمة سعادته وكأنه إمبراطور فارسي من حكام الدولة الساسانية..
ثم أخذ الرجل يقارن بعد ذلك بين "نادية الجندي" وكل بطلات الأفلام وبين زوجته التي تكبره في السن فكل من يراهما سويا يعتقد أنها أمه ، والتي هي سمينة حد التخمة فهي تتحرك بصعوبة شديدة والتي لا تستطيع مهما دققت النظر تحديد عمرها مهما كانت قدرة ذكائك فراستك الذهنية، والتي هي أيضاً حزينة على الدوام دون سبب واضح لذلك ،حتى يبدو عليها أحيانا أنها كانت تستعذب الحزن ومستعدة لتحمله عن نساء مصر جميعا تطوعا منها وكأنه واجب من جانبها ، وكأنها تعبير مجسم عن الخط الأبرز والأوضح في الشخصية المصرية وهو الحزن التي ورثته هذه الشخصية منذ القدم من هضم حقوقه وتهميشه وذله.... حتى أصبحت هذه الشخصية مهيأة وعلى استعداد لتلقى الظلم على مر القرون بعد أن تكيفت معه واكتسبت مرونة على تقبله خلال تاريخها الطويل الذي أوضح مفرداته الخوف والقهر والمرض والجهل وأصبحت مسلمة خلال تاريخها الذي لم يخلو من بعض الهبات المعترضة عليه ولكنها سرعان تعديها السلطة سيرتها من القهر عانت الشخصية المصرية معاناة مريرة خلال فترات حكم : الفرس والاغريق والرومان والبيزنطيين والمماليك ، فكان الخضوع للشخصية لحكامها أكثر الخطوط وضوحاً وأصبح تنفيذ الأوامر قهرا وخوفاً مسلمة وبديهة.... قبل أن تبث الشخصية همومها وأحلامها وشكواها بداخل ما يسمى الفلكلور أو الأدب الشعبي الذي هو وثيقة تعبير حقيقية عن الحياة والتاريخ ،والذي لا يمت بصلة للتاريخ الذي تكتبه السلطة.......ثم تبحث هذه الشخصية على ما يبرر وجودها لتظل مستمرة للغد بداخل نصوص الدين عوضاً لها عن الثورة....حتى أصبحت سمة واضحة للشخصية المصرية ، بأنه تستعذب الألم بل و تبحث عنه وتتساءل لماذا هو غائب أثناء الفرح لأنه استثناء وشذوذ عن قاعدة الحزن والخوف والتوجس من الغد الذي لا يكاد يبين ، فهو الخط الأوضح في النفس وتنظره فغيابه لا يعبر عن واقع الحياة المعاش...دعك من كل تلك الفلسفة الذهنية الباردة ولنترك علم نفس الشعوب لعلماء الاجتماع والنفس ونعود للمقهى الذى خرج منه الرجل غير ما دخله فقد أكتشف أن هناك ناس تضحك دون أن تقول اللهم أجعله خير.. .
أعتاد الرجل المقهى وعرف السحلب والقهوة وبعض الأحيان الكوكاكولا والسفن أب ،والمعسل الذى أصبح يجيد شد أنفاسه أكثر احترافية من المعلم" محمد رضا في أفلام الأبيض والأسود" وأنتقل من الإعجاب والهوس بنادية الجندي ، لصباح ومريم فخر الدين وناديه لطفى ونبيله عبيد ، مرورا بسهير رمزي والشقية نجلاء فتحي ، وأصبح يوصى من يقطع له صورهم من المجلات ليضعها في جيب الصديرى.عندما رأت زوجته صورة ناديه الجندي أخذت تصرخ بعد أن اتهمته صراحة أنها زوجته الجديدة التي عرفها عندما كان يذهب لمولد أبو المعاطي في دمياط ،استغرق ابنها وقتا طويلا لكى يقنعها بأنها ممثلة في التليفزيون وأن الكل يراها ويعجب بها ويستطيع أن يحتفظ بصورتها بل وبعلقها على الحائط ويتغزل فيها
-فقالت له أمه:
-وهل هي توافق على ذلك فقال ابنها:
- بل سعيدة كل السعادة بذلك فقالت له كلمة أخيرة:
المهم طمني هل أبوك متجوزها أم لا؟:
- فأقسم لها الابن بلا. ولكن الطامة الكبرى كانت عندما عثرت زوجته في جيب الصديرى على صورة: ميرفت أمين...