من سلسلة نحن وجدتي.... فريقُ المستكشفين الصّغار يقررون الاطلاع على أضخم لعبة بازل في العالم ، وحقيقة المدينة الغافية التي أيقظتها معاول الأبناء وأخرجتها من تحتِ الرّمال.. وقد أدهشتهم اللوحات التي اطلعوا عليها بريشة الفنان السوري ابن مدينة رأس العين جورج شمعون والذي شارك بمعارض عالمية ونال العديد من الجوائز ..... اليوم سلسلة أنا وجدتي التعليمية ستحطّ رحالها في كنز من كنوز المشرق الذي يغفو على ضفاف نهر الخابور في شمال سورية الجدة عشتار آلهة الحبّ والحرب والجمال تصل مع مجموعة من الأسود المجنحة وقد فردت جناحيها وحلقت كنجمة الصباح المتلألئة وتبعها الأطفال وقد اختار كلّ منهم أسد بجناحين ليمتطيه ويحلّق عاليا خلف جدته الرحلة ممتعة وأنتَ فوق بلاد عاش بها أجدادك وتربتها الخصبة معطرة بقصص الحب والحرب والأمل التي دفنت بذاكرة أجسادهم الراقدة بين حباتها .... لقد تلألأت مياه نهر الخابور وصرخ سامر سنصل يا أصدقائي كانت الفرحة تبدو على الوجوه لمار ورغد وهيثم ومحب. زأرتِ الأسودُ واقتربتْ لتحيطَ بالجدة التي فردت جناحاها فوقَ تلك البيوتِ الطّينية التي تشبه خلية النحل. البيوت من القصب والطين وقد صُمّمت بشكلٍ دائري متقاربة. ارتفعت الجدة والأسود لتبدو المدينة المدهشة التي تُحاط بأسوار عالية وأبراجٍ للمراقبة، أما الجهة الشمالية فقد حماها نهرُ الخابور العظيم الذي منحها المياه العذبة والأمان ... وبدأت الجدة بالاقتراب من الأرض والهبوط حتى وصلَ الجميع إلى ساحةِ قصرٍ عظيم. صرخت لمار ما هذه التماثيل العظيمة إنها رائعة ياجدتي.. هذا التمثال يشبهكِ ومن هؤلاء .. . أجابت الجدة هذه التماثيل التي تحرسُ القصر وتحملُ أركانه هي لعائلتي. هذا تمثال إله الطقس وهؤلاء أبناؤنا تيشوب وخييات وشرما.. قالت رغد وقد اقتربت من جدتها ما أجمل العائلة يا جدتي ! نظرَ الأطفالُ بتمعنٍ لهذه التماثيل الضّخمة وقد ظهروا كنقطة صغيرة تتحرك ببطئ بجوار هذه الصخور البازلتية الصّلبة المتقنة ...دخلت الجدة القصر كان في استقبالهم الملك كابار ابن قاديانو وسلالته أطفاله وأحفاده الملوك.. الأطفال متشابهون إلا في ملابسهم وكانت الثيران بقرونها الطويلة تنتشرُ في الحقول المحيطة بالقصر والأسود تسير بجوارهم تزأر وتبدو أنيابها الحادة. طلبت الجدة من الملك كابار أن يرسلَ مرافقاً مع الأطفال يتقن اللّغة العربيّة لتعريفهم بمدينة أجدادهم تل حلف العظيمة. سار الأطفال في المدينة الكبيرة حيث تبعهم أطفال يختلسون النظر إليهم كأن الكائن البشري لم يتغير كانت أصواتٌ تصرخ من بعيد إنّه ثورٌ عالقٌ في أحد المستنقعات وكانَ للثيران مكانة عالية في المدينة فهي رمزٌ للقوة. لقد استطاعوا إخراجه وساهم الأطفال بالتشجيع والتصفيق. تابعوا مسيرهم بين بساتين الفاكهة الخضراء وحقول القمح والشعير والكتان والقنب. لقد دجنوا الحيوان تساءل هيثم هل حقاً نحن في الألف السادس قبل الميلاد. ما أعظمك أيّها الإنسان المبدع ! لقد استطعت إعمارالارض واستثمار خيراتها . تابع الأطفال السير بين البيوت الطينية التي كانت تبدو من السماء كخلايا النحل اقترب محب من الرجل الآرامي وسأله ما هذه المنازل الدائرية ؟ ابتسم وأخبره أنها منازل تسمى ثولوس أي خلايا النحل وهي دورٌ لعبادة الآلهة.. كان الأطفال يتقافزون بفرح وانضمّ أطفال تل حلف الذين عاشوا على هذه الأرض المباركة قبل ستة آلاف عام إلى أطفال تل حلف في القرن الواحد والعشرين حيث قضت رغد سنوات مع عائلتها في هذه المنطقة فأمها من تل حلف القريبة من رأس العين السورية وكانت تخبرها أنها في سالف الأزمان كانت تسمى غوزانا . وقد هاجرت بعد أن قامت السلطات الاجرامية التركية متعاونة مع قوات قسد الإرهابية بتدمير ماتبقى منها ونهبت الكثير من الآثار بحجة البحث عن أنفاق الإرهابيين... هل حقا أنا في شوارع تل حلف للحظة دوّي صوت التفجير الذي أصاب المنطقة دوى برأسها وتذكرت أشلاء جدها وصديقتها.. سقطتْ دمعة من عينيها ولكنّ صوتَ أصدقائها طردَ تلك الذكرياتِ المؤلمة، وقد دخلوا سوقَ الفخار وحاول سامر أن يركبَ على ظهر أحد الجمال. قوافل الجمالِ المحمّلة بالفخار يدهشُ العيونَ بجمالِ منظره . هذه فخارة مرسوم عليها سمكة وتلك رسم عليها ثور بقرنين طويلين وتلك رُسم عليها أزهار وغزلان. حاولت رغد أن تحمل فخارة رسم عليها آدمي برأس أسد ولكنها كانت خائفة وهي تعيدها لمكانها بلطفٍ وهدوء لاحظ سامر خوفَ صديقته وارتباكها، فأسرعَ وسألها عن السبب. طلبت منه أن ينظرَ لسماكةِ هذا الفخار إنّه أرق من قشر بيضة ضحك صانع الفخار الأرامي وأشار لها. أن تحملها وتلقيها باتجاه الأعلى ثم تلتقطها لقد أمسك فخارة مبتسما ورماها للأعلى ثم التقطها بفرح وقلده الأولاد دون خوف من كسرها... فخار تل حلف من أجودِ أنواعِ الفخار في العالم. أدرك هيثم صدقَ كلامه فقد اطلع على بعض فخار تل حلف المعروض في متحف حلب إنّها الفخارة نفسها يارغد ستعيش آلاف السنين هنا اتقان العمل وجودة البازلت والصلصال.. كانَ الصانعُ مندهشاً من كلامهم حلب وآلاف السنين ولكنّ اللّغة الارامية مختلفة فلامعنى للكلمة إن لم تفهم... غادروا سوق الفخار إلى القصر حيث استقبلوا كملوك هو لقاء الأحفادِ مع الأجداد زيارة مدهشة من المستقبل البعيد.. كان الملك كابارا في شوقٍ كبيرٍ للقائهم ليعرف ماذا سيحلّ بمدينته العظيمة بعد آلاف السنين وكان في رأسه الكثير من الأحلام ستكون مدينة عظيمة ترعاها الألهة وأبناؤه سيجوبون أصقاع الأرضِ مع أسودهم المجنحة وثيرانهم القوية.... بعد الجلوس في قاعة العرش التي تبدو كمدينة بالنسبة لقراهم الصغيرة والأبنية التي تشبه علبا من الورق المقوى... هي عظمة الأجداد عظمة الإنسان الذي امتلك التصميم والسواعد القوية وقد آمن بقوة آلهة الجمال لينحت كلّ جميل وقوة الحبّ ليحبّ أرضه ويجعلها عامرة بالخير وقوة الحرب فلم يترك المكان بلا حماية بل حصّن مدينته لينعم بالسلام.. الملك يطلب من الأطفال أن يحدثوه عن هذه...المدينة ماذا حلّ بها؟ اعتلت حمرة الخجل وجوههم ماذا سنخبرك يا جدي قالت رغد وقد اغرورقت عيناها بالدموع يعيش فوق هذه المدينة أناس أشبه بالبدو الفقر يعشعش في زوايا بيوتهم.. صرخ الملك وأين بساتيني وحقولي وذهبي وكنوزي ..؟ أجاب هيثم لقد غمرتها الرمال ودفنت تحت الأرض. هو غضب الآلهة قال أحد الحضور. تقدم أنت أيها الشاب وأخبرني ماذا حلّ بالمدينة. تقدم هيثم في عام ١٨٩٩ بعد الميلاد.. استغرب الجميع من التاريخ كان أحد الدبلوماسيين الألمان الغرب في هذه المنطقة وقد وصل إلى مسامعه ظهور تماثيل عملاقه مخيفة أثناء حفر بعض القبور بين الرمال ، وكان يشرف على مد سكة الحديد بين بغداد وسورية وتركية بتمويل ألماني اسمه ماكس فون اوبنهايم وقد استمر التنقيب أكثر من أربعين عاماً.. نقلت الآثار بعضها إلى برلين وبعضها إلى متحف حلب.. ولكن همجية البشر تدمّر آثارنا وكنوز الأجداد فحدثت الحرب العالمية وقصف متحف بيرغامون في برلين بقنابل يعتقد أنّها فوسفورية مدمرّة فخربت الآثار ودمرتها إلى قطع صغيرة. ولكنها جمعت في صناديق للإتلاف وقد ظهر التطور العلمي وعصر الكمبيوتر والبرمجة فمكّن العلماء والباحثين في ألمانيا من إعادة أكثر من خمس وعشرين الف قطعة للحياة بتركيبها كأضخم لعبة جمع الأجزاء في العالم وتم إعادة عرضها أمام الزوار في عام ٢٠١١ .... قال الملك بغضب :وما مصير مدينتي إذا كانت كنوزي قد سرقت ونهبت.. لماذا لم تحافظوا عليها في مكانها وترمموا قصوري ...؟ كانت الوجوه حزينة على مصير هذه المملكة وفجأة ضربَ الملك على كرسيه فحلقت الأسود وهاجت الثيران واهتزت الأرض بعنف وبدأت المدينة تغوص في الأرض وصرخ إله الطقس وأولاده وقد تخلى عنها وانسحب من تحت أبنيتها أما الجدة عشتار فقد حملت الأطفال الخمس وأعادتهم إلى مخبأهم السريّ والحزن يملأ قلوبهم على مصير تلك المدينة العظيمة التي كان مصيرها الزوال وكلّ ما استطاعوا فعله توجيه التحية لمن يحاول أن يحيي هذه الحضارات ويرسم البسمة على وجوه الأجداد التي تطوف أرواحهم في تلك الممالك الغافية تحت الرمال والجبال والبحار... و وعدتهم جدتهم قبل مغادرتها بمغامرة جديدة لمملكة أخرى والتعرف على عظماء سكنوا هذه الأرض. وكانت التحية والتقدير في هذه الرحلة للفنان جورج شمعون صاحب اللوحات التي ألهمتهم لزيارة تل حلف و الذي اشتغل في النحاس وأبدع ، وبرع في تكريس اسمه بقوة بكل أنواع الرسم ،ومن المحطات المهمة في مسيرة حياته الفنية اقتناء متحف آرت إنستيوت (أمريكا) لوحة زيتية من لوحاته عام ١٩٩٠ م ، والمتحف يضم مقتنيات لمشاهير الفن في العالم مثل بيكاسو وغوغان وفان كوغ وغيرهم، وفوزه بالجائزة الأولى في معرض موفي آرت (إيطاليا) عام ٢٠٠٣ ، ومعظم أعماله مقتناة في الولايات المتحدة الأمريكية وكندا والبارغواي والسويد والدانمرك وألمانيا وفرنسا وإيطاليا واستراليا وكوريا، إضافة للعديد من الدول العربية. فله ولعشاق الفن الاحترام من الأجيال الطالعة من الشرق...(المدينة الميتة التي تمّ إنقاذها بأضخم لعبة بازل في العالم)