معلوم أن الإنسان كائن اجتماعي، تتشكل حياته من معايير اخلاقية وثقافية واجتماعية، إلا أن بمرور الأزمان تكّون لدى البشرية ما يطلق عليه الفلكلور أوالتراث الشعبي تلبية لحاجة أي مجتمع لحفظ عاداته وتقاليده وغرسها في نفوس الأجيال القادمة ؛ لكن بتضافرها مع التراث الدينى أصبح لهما القدرة على الهيمنة على سلوك البشر و مقدراتهم بشكل سلبى فى أغلب الأحيان مما يستدعى الفصل بينهما لصالح المجتمع ،و عليه أجد أن كتاب "تراث الاستعلاء بين الفلكلور والمجال الديني"و الفائز بجائزة الشيخ زايد هذا العام للدكتور سعيد المصري مستشار وزير الثقافة لمتابعة تطوير المنظومة الثقافية وأستاذ علم الاجتماع والمتخصص فى الانثروبولوجيا ، يمثل تمردًا كبيرًا على النظرة النمطية التي تفصل التراث الشعبي عن التراث الديني .
وينطلق الكتاب من إشكالية التراث والهوس به وتقديسه كأنه المصدر المطلق للحكمة الإنسانية، وما يقابلها من نظرة أخرى تزدرى مضامين التراث، ويطرح تساؤلات جوهرية مثل : ما المعايير التى ينبغى أن نستند إليها فى التفرقة بين الجوانب الإيجابية والجوانب السلبية فى التراث؟ وأى عناصر من التراث التى ينبغى العمل على تطويرها؟ وما حدود التطوير الذى يجب أن يتمتع به التراث بجميع عناصره؟ ويتوقف عند مسألة فكرية هي مسألة الاستعلاء و جذورها في الموروث الشعبي وفي حركات الإسلام السياسي التى أدت إلى تفاقم روح التعصب والكراهية .
و استخلص الكاتب أن لا مفر من التجديد إلا من خلال أربعة زوايا وكل منها يبدأ بحرف التاء "التاءات الأربعة " : تاء التأويل، تاء التوافق، تاء التفرد، تاء التحرر، وذلك في إعادة ضبط العلاقة بين الدين والمجتمع، فالتأويل يحدد بدقة هل نحن مع العقل أم النقل، أما في مجال التوافق يجد أننا بحاجة إلى علاقة مع النصوص الدينية تقوم على التوافق، وفي تاء التفرد نريد احترام الفردية الدينية الشعورية في علاقة الفرد بالدين ولا يفرض على الناس دائماً ذات المقاييس أى أنه يجب ألا نبالغ في عملية الإفتاء، وهنا نضع أنفسنا أمام تساؤل هل نحن أمام عالم الجوهر أم المظهر؟ أما تاء التحرر تضعنا أمام ثنائية أخرى الاختيار أم الإجبار و هنا يبرز قيمة الحرية .
وحتى في ظل التحضُّر واكتساب ملامح الحداثة قد تستمر ملامح تراث الاستعلاء البدائي عبر الزمن، لفشل نُظُم التعليم والثقافة ومؤسسات التنشئة الاجتماعية في إشاعة ثقافة العدل، ومع ظهور التمايزات الاقتصادية الحادة تنشأ صورة من الاستعلاء الطبقي، تميز بين الناس في الحقوق والواجبات على أساس المكانة والحُظوة الاقتصادية ،وعلى الرغم من اتساع المسافة بين التراث الشعبي والتراث الديني، وعدم اعتراف الديني بكثير من عناصر التراث الشعبي، فإن الاستعلاء يمثل قاسمًا مشتركًا بينهما، مع الأخذ في الاعتبار أن التراث الديني لا يعترف بصور التمييز القائمة على الاختلاف الديني، بل ينظر إلى البشر جميعًا على أنهم سواسية، ولا فارق بينهم إلا في العقيدة.
لذلك وجب علينا الاعتراف بإصابة مجتمعنا بذلك الداء و علينا بدء العلاج ، لنتمكن من تحقيق مبدأ المواطنة و المساواة لنستفيد من معطيات تراثنا و استيعاب متطلبات الحاضر لمواكبة التطور والتقدم العالمي .