محمد فتحي عبدالعال يكتب: المفكر المستنير

محمد فتحي عبدالعال يكتب: المفكر المستنير
محمد فتحي عبدالعال يكتب: المفكر المستنير

مقدمة:

في مقال علمي لتوم ستافورد بعنوان :هل الإنسان عادل بطبعه على شبكة البي بي سي عام 2015 استعرض تجربة أجراها فرانس دي وال استاذ سلوك الكائنات المنتمية لرتبة الرئيسيات بجامعة إيموري الأمريكية على اثنين من القردة  تضمنت التمييز بينهما.

كانت القرود على استعداد لتسليم حجر بعد حجر إذا حصلت في المقابل على مكافأة شرائح الخيار. لكن قرود الكبوشي (تشبه في غطاء رأسها ناسكي الأديرة) تفضل حبات العنب على شرائح الخيار فعندما أعطى الباحث حبات العنب لأحد القردين مقابل تسليمه الأحجار فثارت ثائرة القرد الآخر  في القفص المجاور لهذا التمييز ورفض قبول الخيار مجددا بعدما كان سعيدا به في الماضي.

هذا الضيم قد رفضته القرود فما بال الإنسان أكرم مخلوقات الله؟!

أما وقد طرحنا هذا السؤال فلنا من التاريخ حكاية  هي خير إجابة لهذا السؤال؟

حكاية رجل بمفرده واجه دولة بأكملها

 

 

حكاية الكواكبي :

عبد الرحمن الكواكبي مفكر إسلامي سوري تصدى بقلمه وكتاباته لجبروت وجور الخلافة العثمانية التي أضعفت العالم الإسلامي ونشرت به الجهل والتخلف والاستبداد.

كان الكواكبي يتطلع للحرية وينشد العدالة ويرى أن الداء العضال الذي ينخر في جسد هذه الأمة هو الاستبداد والذي تمثله دولة عنصرية هي الدولة العثمانية  فأصدر في بدايات حياته صحيفة الشهباء في حلب عام 1877 وبعد اصدار عدة أعداد منها نقد فيها الأوضاع السياسية والاجتماعية والاقتصادية بسوريا في ظل الحكم العثماني الجائر بشكل لاذع  تم إغلاق الجريدة لكن ذلك لم يفت في عضد الكواكبي فواصل هجومه الضاري على صفحات  جريدة اعتدال  التي اسسها عام 1879.

وحتى نتأكد من صفاء نية الرجل ونزاهة مقصده فقد تقلد في بلاده حلب مناصب مرموقة منها عضوا في لجنتي المالية والمعارف العمومية ورئيسا فخريا للجنة الأشغال العامة ثم رئيسا لبلدية حلب وعرف عنه مكافحته للرشوة  وحبه للاصلاح  كما تولى إدارة المطبعة الخاصة بها وهو مسار وظيفي لو استمر به وطاوع نفسه في لحظات السكون بالتماس السلامة والانضمام في صفوف المتملقين لأصبح له شأن آخر في ولايته وتربع على قمم  الحكم والادارة بها ولكنها مشكلة المفكر المستنير الذي يتمرد على الدعة والاستكانة ويختار الطريق الوعر ولو كان محفوفا بالمخاطر وغالبا ما يدفع حياته ثمنا له ويبدع الكواكبي حينما يتحدث عن ذلك بقوله : (إن الهرب من الموت موت وطلب الموت حياة) .

مع تفاقم حدة الصراع بين الكواكبي الذي أطلق على نفسه اسما مستعارا هو السيد الفراتي وبين الدولة العثمانية قرر الرحيل إلى مصر والتي وجد بها مناخا أفضل للانطلاق في كتاباته حيث كانت مصر في ذلك الوقت بعيدة عن السيادة العثمانية ولكنها ترزح تحت نير احتلال آخر هو الاحتلال الانجليزي.

وبنظرة المفكر المستنير المدقق الذي لابد وأن يتأكد من صحة فرضياته وشمولها عبر ممارسة التجربة فانطلق في رحلة عام 1901 استغرقت ستة أشهر زار فيها أفريقيا والحبشة وسلطنة هرر والصومال والهند وجاوة وسواحل الصين الجنوبية   وكان ينتوي زيارة بلاد المغرب لكن القدر لم يمهله.

 

 

مؤلفات الكواكبي ضد العثمانيين :

 أشهر هذه المؤلفات هو كتابه (طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد) والذي يشخص فيه الكواكبي ويشرح بمشرطه الإصلاحي داء الاستبداد.

يتحدث الكواكبي عن أسوء أنواع الاستبداد بقوله :  (من أقبح أنواع الاستبداد استبداد الجهل على العلم، واستبداد النفس على العقل، ويسمى استبداد المرء على نفسه، وذلك أن الله جلت نعمه خلق الإنسان حرا قائده العقل، ففكر وأبى إلا أن يكون عبدا قائده الجهل. خلقه وسخر له أما وأبا بأوده إلى أن يبلغ أشُده، ثم جعل له الأرض أما والعمل أبا، فكفر وما رضي إلا أن تكون أمته أمه وحاكمه أباه. خلق له إدراكا ليهتدي إلى معاشه ويتقي مهلكه، وعينين ليبصر، ورجلين ليسعى، ويدين ليعمل، ولسانا ليكون ترجمانا عن ضميره، فكفر وما أحب إلا أن يكون كالأبله الأعمى).

ويرى أن الاستبداد دائما ما يسخر الدين لخدمة أغراضه وأهدافه كما يتحدث عن القاعدة العثمانية (فرق تسد ) وهنا يتجاوز نقده العثمانيين للانجليز أيضا فيقول : (  ما من مستبد سياسي إلى الآن إلا ويتخذ له صفة قدسية يشارك بها الله أو تعطيه مقامَ ذي علاقة مع الله. ولا أقل من أن يتخذ بطانة من خدمة الدين يعينونه على ظلم الناس باسم الله، وأقل ما يعنون به الاستبداد تفريق الأمم إلى مذاهب وشيع متعادية تقاوم بعضها بعضا فتتهاتر قوة الأمة ويذهب ريحها فيخلو الجو للاستبداد ليبيض ويفرخ، وهذه سياسة الإنكليز في المستعمرات لا يؤيدها شيء مثل انقسام الأهالي على أنفسهم وإفنائهم بأسهم بينهم بسبب اختلافهم في الأديان والمذاهب).

كما يرى أن عدو الاستبداد هو العلم فللعلم سلطانا أقوى من كل سلطان والمستبد لا يحب أن يرى العالم العاقل المتفوق عليه فكرا وإذا اضطرته الظروف فيختار الغبي المتصاغر المتملق متستشهدا بمقولة لابن خلدون (فاز المتملقون).

كما يصور الحرب الدائمة بين العلماء والمستبد على استقطاب العوام من الناس فيقول :

( بين الاستبداد والعلم حربا دائمة وطرادا مستمرا: يسعى العلماء في تنوير العقول ويجتهد المستبد في إطفاء نورها، والطرفان يتجاذبان العوام. ومن هم العوام؟ هم أولئك الذين إذا جهلوا خافوا، وإذا خافوا استسلموا، كما أنهم هم الذين متى علموا قالوا ومتى قالوا فعلوا) .

ويعرف الكواكبي العوام بقوله :  (العوام هم قوّة المستبد وقوته. بهم عليهم يصول ويطول؛ يأسرهم، فيتهللون لشوكته؛ ويغصب أموالهم، فيحمدونه على إبقائه حياتهم؛ ويهينهم فيثنون على رفعته؛ ويغري بعضهم على بعض، فيفتخرون بسياسته؛ وإذا أسرف في أموالهم، يقولون كريم؛ وإذا قتل منهم ولم يمثل، يعتبرونه رحيما؛ ويسوقهم إلى خطر الموت، فيطيعونه حذر التوبيخ؛ وإن نقم عليه منهم بعض الأباة قاتلهم كأنهم بغاة).

ويتحدث عن العلاقة التي تربط المستبد بالفقراء والاغنياء فيقول :

(ومن طبائع الاستبداد أن الأغنياء أعداؤه فكرا وأوتاده عملا، فهم ربائط المستبد يذلهم فيئنون، ويستدرهم فيحنون، ولهذا يرسخ الذل في الأمم التي يكثر أغنياؤها. أما الفقراء فيخافهم المستبد خوف النعجة من الذئاب، ويتحبب إليهم ببعض الأعمال التي ظاهرها الرأفة، يقصد بذلك أن يغصب أيضا قلوبهم التي لا يملكون غيرها. والفقراء كذلك يخافونه خوف دناءة ونذالة، خوف البُغاث من العُقاب، فهم لا يجسرون على الافتكار فضلا عن الإنكار، كأنهم يتوهمون أن داخل رءوسهم جواسيس عليهم. وقد يبلغ فساد الأخلاق في الفقراء أن يسرهم فعلا رضاء المستبد عنهم بأي وجه كان رضاؤه) .

ثم يمضى الكواكبي في الحديث عن أثر الاستبداد على الأخلاق والتربية والترقي فيقول: 

(أقل ما يؤثره الاستبداد في أخلاق الناس، أنه يرغم حتى الأخيار منهم على ألفة الرياء والنفاق ولبئس السيئتان).

ثم يضع الكواكبي في مبحثه الاخير خطة للقضاء على الاستبداد عبر التأكد من فهم القضية واتباع التدرج والتأكد من وجود البديل  وكأنما كان يشعر أن الخلافة العثمانية على وشك التداعي وأن أيامها على وشك الانقضاء .

فيقول :  

(١) الأمة التي لا يشعر كلها أو أكثرها بآلام الاستبداد لا تستحق الحرية.

(٢) الاستبداد لا يقاوم بالشدة إنما يقاوم باللين والتدرج.

(٣) يجب قبل مقاومة الاستبداد تهيئة ماذا يستبدل به الاستبداد.

أما في كتابه (أم القرى) يستكمل الكواكبي بحثه بشئ من الوضوح و التخصيص فيطرح البديل للخلافة العثمانية بإقامة خلافة عربية وفصل العلماء عن مؤسسة الحكم وبريشة المفكر الحالم راح الكواكبي يتخيل نفسه في مؤتمر إسلامي منعقد في مكة المكرمة وسط جمع من مندوبي العالم الإسلامي فهذا الفاضل الشامي وذاك البليغ المقدسي والكامل الإسكندري والعلامة المصري والمحدث اليمني وغيرهم ولم ينس مقاعد المرشد الفارسي والعيد الانجليزي والصاحب الهندي والإمام الصيني وغيرهم فيما احتفظ لنفسه بلقبه الشهير السيد الفراتي.

ويؤكد الكواكبي أن الدول الإسلامية قد استعربت لغتها إلا الدولة العثمانية ويعلل ذلك بكراهية العثمانيين للعرب ونظرتهم الفوقية تجاههم فيقول  : "فلم يشذ في هذا الباب (الاستعراب) غير المغول الأتراك أي العثمانيين فإنهم بالعكس يفتخرون بمحافظتهم على غيرية رعاياهم فلم يسعوا باستتراكهم (كان ذلك قبل عصر التتريك) كما أنهم لم يقبلوا أن يستعربوا والمتأخرون منهم قبلوا أن يتفرنسوا (أي يتشبهوا بالفرنسيين) أو يتألمنوا (أي يتشبهوا بالألمان)".

ويستدل على هذه الكراهية بالتسميات التي يطلقونها على الأجناس العربية : "ولا يعقل لذلك سبب غير بغضهم الشديد للعرب كما يستدل عليه من أقوالهم التي تجري على ألسنتهم مجرى الأمثال في حق العرب كإطلاقهم على عرب الحجاز (ديلنجي عرب) أي العرب الشحاذين وإطلاقهم على المصريين (كور فلاح) بمعنى الفلاحين الأجلاف، وتعبيرهم بلفظة (عرب) عن الرقيق وعن كل حيوان أسود، وقولهم (بيس عرب) أي عربي قذر"..

كما يرصد الانتهازية السياسية لدى العثمانيين واعانتهم للممالك الغربية على حساب المسلمين الضعفاء فيقول: "أليس الترك قد تركوا الأندلس مبادلة وتركوا الهند مساهلة وتركوا الممالك الجسيمة الآسيوية للروس وتركوا قارة أفريقيا الإسلامية للطامعين وتركوا المداخلة في الصين كأنهم الأبعدون".

 

 

نهاية الكواكبي:

بالطبع هجوم مستمر كهذا كان مقلقا للدولة العثمانية خاصة مع كثرة التفاف الناس حوله واعجابهم بأفكاره ونشرها حتى قيل أن السلطان العثماني عبد الحميد الثاني قد ضاق بذلك ذرعا وأمر بإنهاء حياة الرجل ظنا بذلك أنه  يدفن فكره معه فدس للكواكبي السم في القهوة كما تزعم الرواية الشهيرة وتوفي عام 1902 تاركا فكرا مستنيرا لا زال متدفقا.

 

وكتب على قبره بيتان لحافظ ابراهيم:

هنا رجل الدنيا مهبط التقى               هنا خير مظلوم هنا خير كاتب

قفوا واقرؤوا أم الكتاب وسلموا          عليه فهذا القبر قبر الكواكبي

 

 

د. محمد فتحي عبد العال