محيى الدين إبراهيم يكتب: عالمية المسرح المصري

محيى الدين إبراهيم يكتب: عالمية المسرح المصري
محيى الدين إبراهيم يكتب: عالمية المسرح المصري

دائما ما نسمع عبارة المسرح العالمي، ويعتقد البعض أن مفهوم العالمية هو أن يقفز العمل المسرحي بمجرد عرضه داخل حدود بلده خارج الجغرافيا ليعرفه العالم كله كقيمة فنية تستحق كل تقدير، فهل في مصر مسرح استطاع أن يصل للعالمية؟

يقول الفرنسي يوجين يونيسكو المتوفي عام 1994م: أن رغبة المسرحيين في مسايرة عصرهم لدليل قاطع على أنهم متخلفون عنه، ويقصد يونيسكو بهذه العبارة أن على المسرحيين في أي أمة أن لا يجهدوا أنفسهم في مسايرة عصرهم وإنما ابتكار أشكال مسرحية جديدة سواء على مستوى النص أو التكنيك المسرحي غير التقليدي لتقديم نقد موضوعي لتحولات المجتمع المتسارعة لخدمة المجتمع بتحويل الأفكار الجديدة ليس لأفعال وإنما لأشياء، سلوك، خطوة للأمام نحو النهوض بكل ما يهم المجتمع الإنساني ويقاوم همومه.

 

 

المسرح المصري بين المحلية والعالمية:

لا شك أن المسرح المصري المعاصر قد بدأ عالمياً عام 1869م بأوبرا عايدة على أول دار عرض مسرحي في الشرق وهي دار الأوبرا الخديوية حيث كانت الحكاية مصرية فرعونية كتبها للمسرح الأثري الفرنسي "ميريت باشا" ووضع موسيقاها الموسيقار الإيطالي فيردي، وحين ظهر بعد تلك الأوبرا جيل من رواد المسرحيين وضع الكثير منهم على عاتقه مد أفق جديدة من شأنها رفع مستوى الوعي الوطني في معرفة ما يدور حوله في العالم من ثقافات ومجتمعات فاستعانوا بنصوص أجنبية تخدم هذه الرؤية ونجح الكثير منهم في لفت نظر المجتمعات الخارجية بالانبهار والإعجاب وكان "يوسف بك وهبي" واحداً ممن لفتوا أنظار العالم إليه وإلى الفن المسرحي في مصر وما له من قيمة تكافح كي تنهض بمجتمعها، فنال وسام فارس من ايطاليا من ايطاليا عن مسرحية كرسي الاعتراف مما يؤكد أن المسرح المصري والمسرحيين المصريين لم ينقطع أملهم في خوض مهمة التنوير وحوار الحضارات والذي استمر حتى يومنا هذا وإن كان يتوقف ويخفت أحيانا ثم يقفز ويلمع في أحايين أخرى، وربما من أهم أمثلة بعض المسرحيات العالمية التي قفزت ولمعت خلال الخمسين عاماً الماضية في مصر وأحبها المصريون نذكر على سبيل المثال لا الحصر:

مسرحية سيدتي الجميلة تأليف جورج برنارد شو التي قدمها الفنان القدير فؤاد المهندس والفنانة القديرة شويكار وقام بتمصيرها الأستاذ بهجت قمر وقام بالتأليف الموسيقي الموسيقار الكبير حلمي بكر وأخراج حسن عبد السلام عام 1968م، والثانية جوازة طلياني عن قصة الزواج على الطريقة الإيطالية للأديب الإيطالي "إدواردو دي فيليبو" والتي أنتجها المسرح القومي بطولة الفنان القدير يحيي الفخراني والفنانة القديرة دلال عبد العزيز إخراج الإيطالي "ماريانوريجيلو" وساعده في الإخراج الفنان المصري الدكتور "علاء قوقة".

 

 

مسرحية سيدتي الجميلة المصرية عالمية بامتياز:

حضرت عرض سيدتي الجميلة على مسرح البرودواي الأمريكي منذ عدة أعوام، وبالرغم من اداء النجوم والممثلين الرفيع والجيد وخاصة نجم المسرح والتليفزيون الأمريكي ” تشارلز شوجانسي ” واداءة الفريد ونجمة المسرح الأمريكي ” جلوريكرامبتون ” الا انني لم استطع ان امنع نفسي من المقارنة بين مااشاهده من اداء على مسرح البرودواي وبين ماشاهدته من اداء على مسرح فرقة الفنانين المتحدين بالقاهرة إذ وجدت نفسي اصفق في نهاية العرض ليس للنجم ” تشارلز شوجانسي ” ولكن للفنان القدير فؤاد المهندس وأدين بالأبداع ليس للنجمة ” جلوريكرامبتون ” ولكن للفنانة القديرة شويكار لكونها تستحق عن دورها في شخصية “صدفة بعض إشي” التي قامت بأدائه جائزة الاوسكار عن جدارة لتميز ادائها ووصوله في هذا الدور تحديدا الى مستويات تتفوق في العطاء على المستويات العالمية، وهو امر لم يصدقه النجم ” تشارلز شوجانسي ” بل ولم يصدق معه ايضا اننا قد قدمناه في مصر وبتفوق في الاداء يصل بالفعل الى حد العالمية عام 1968م ولما حاوطته بإصرار اجاب بنبرة يتملكها الشك بأن النص يمكن ان تكون فيه كثير من الرؤى المختلفة خاصة ان تم تقديمه بلهجات ولغات مختلفة.

 

 

الفرق بين النص المُمَصر والنص الأمريكي:

كانت النسخة الأمريكية نسخة متحفظة وتحمل الكثير من الاختصارات كما كانت الرؤية كلاسيكية بعكس النص المصري الذي اضاف مشاهداً جديدة زائدة اعطت طعماً وبعدا اخر للعمل من منظور مصري رفيع المستوى مثل مشهد الحارة المصرية التي كانت تقطن فيها البطلة ”صدفة بعض إشي” وكذلك مشهد التحدي والمطر والريح في منزل بروفسير الاتيكيت التي قامت بأدائه الفنانة شويكار وكلاً من الفنان سيد زيان والفنان فاروق فلوكس وهما مشهدان كانا بلا جدال نقطة تفوق للنص المصري عن النص الأمريكي.

 

 

الرسالة التي قدمها العرض بين مسرحية المصرية والأمريكية:

وهي حدود العلاقة بين الرجل والمرأة والى اي مدى يجب ان تكون، وهي علامة استفهام سقط فيها النص الاميركي اذ انتهى المشهد الاخير بمالم نتوقعه اطلاقا حيث يرى بطل العرض محبوبته ماثلة امامه فيعتريه الكبرياء ويظل جامدا صلدا لايحرك ساكنا حتى تأتي ” المحبوبة ” التي صنعها منذ بداية العرض لتبحث عن حذاؤه تحت ارجل المقاعد الى ان تجده فتحمله بين يديها ثم تقف في منتصف المسافة بينها وبينه لتضع الحذاء على الارض في تأكيد منها على انها قبلت الارتباط به من خلال مفهوم الرجل عن المرأة كونها خادمة زوجها وتحتل المستوى الادنى منه – في رمزية حمل الحذاء – مما سبب نوع من الاستنكار والاستفهام لدى بعض جمهور المتفرجين الأمريكان وخاصة النساء اللواتي اعتبرن النهاية هي امتهان لكرامة المرأة الغربية المعاصرة ورأي بعضهم انه كان يكفي ان يري البطل محبوبته في نهاية العرض ليتعانقا ويسدل الستار وهو ما يبرز قيمة مشهد النهاية في المسرحية المصريةالذي عالج هذه القضية بنفس الاسلوب الذي كان يتمناه المشاهد الاميركي وهو التقاء البطل والبطلة في منتصف المسرح ليتقاربا خطوة بخطوة ثم يتعانقا ويسدل الستار في اشارة واضحة للمساواة بين الرجل والمرأة ليسمو فكري أكثر رقياً مما كان ينتظره المتفرج الأمريكي مما يعد بالفعل انتصاراً حقيقياً بالفعل للإبداع المصري.

 

 

مسرحية جوازة طلياني عالمية بشهادة الإيطاليين.

عن فيلم الجواز على الطريقة الإيطالية التي قامت ببطولته الفنانة الإيطالية صوفيا لورين عام 1964م، ويحكي عن فيلومينا فتاة من قاع مدينةنابولي عام 1943م أثناء الحرب العالمية الثانية وقصف الحلفاء لإيطاليا الفاشية،تضطرها ظروف الحرب والجوع والفقر للعمل بالبغاء وهناك تقابل زير النساء (دومينيكو) وهو رجل أعمال ناجح لمرة واحدة ثم بعد أنتهاء الحرب عام 1945م، يلتقيها (دومينيكو) مصادفة، ويواصل علاقته معها، ويستأجر لها شقة ، ويوكل لها إدارة أعماله ، لتستمر العلاقة ٢٢ عاما بلا زواج،ولكن عندما يشعر (دومينيكو) بأنه أصبح في منتصف العمر وأن عليه الزواج والإنجاب ، تعرف على بنت صغيرة تعمل في احدى متاجره الكبيرة بمدينة نابولي، ويفاتحها في الزواج بها ، وهنا ترى (فيلومينا) أنها الأحق بالزواج منه ، فقررت أن تكيد له كيد النساء، وادعت أنها على وشك الموت ، ومن على فراشها باحت له بسرها ، وقالت له أن لديها ثلاثة من الأبناء، أحدهم هو ابنه، وأنه ثمرة أول ليلة التقت به أثناء الحرب، ولكنها ستخفي عنه أيهم هو حتى يرعى الجميع بعد موتها، وبالفعل يتم الزواج كتحقيق آخر رغبة لها في الحياة لكنها بعد الزواج تقفز من فراش المرض الذي لم يكن سوي خديعة لتنتزع لنفسها ولابنائها الثلاثة حياة وكيانا مشروعا خاصة ان احدهم ابن له لكنها لا تبوح له مطلقا من هو حتي تحافظ كأم علي أن يلقي الثلاثة نفس المعاملة ونفس الحقوق‏، ويستمر النص في معالجة هذا الموقف بالغ التعقيد خاصة بعد ما اتجه (دومينيكو) الي محاميه الذي يؤكد له أن الزواج باطل لأنه بني علي خديعة وتستمر الأحداث‏..‏ ليهرع (دومينيكو) بنفسه إلي فيلومينا بعد أن تركت البيت ليتزوجها من جديد في حضور الأبناء الثلاثة ولتنتصر الأمومة.‏

والمدهش في هذا العرض الذي ترجمه الأستاذ سلامة محمد سليمان ووضع له الحوار بالعامية المصرية الأستاذ مصطفى سعد قد أبهر طاقم الإخراج الإيطالي مما جعل المخرج "ماريانوريجيلو" أن يصر على جعل المناخ العام للعمل كما هو قائم بالنص الإيطالي وبالأسماء الإيطالية والمدن الإيطالية حتى يؤرخ لهذا العمل في تاريخ المسرح المصري كعمل ايطالي ابداعي ذا قيمة بأداء مصري عالمي، وهو بالفعل ما حدث حيث أكدت الفنانة القديرة دلال عبد العزيز إلى أنه قد تم إقامة احتفالية في روما بمئوية الكاتب الإيطالي الشهير "روبيرتو دي فيليبو" وتم دعوة جميع الممثلين الذين قدموا هذه المسرحية من جميع أنحاء العالم، ليساهموا جميعا في تقديم المسرحية معا على مسرح واحد بجميع اللغات، وتم اختيار الثنائي المصري يحيى الفخراني ودلال عبد العزيز كأفضل "ثنائي" على مستوى العالم قدم هذا العرض المسرحي.

وربما تأكيد الفنانة القديرة دلال عبد العزيز يبرهن مدى قيمة المسرحيين المصريين ومدى حرص المسرح المصري والقائمين عليه من الإيمان بقيمة حوار الحضارات وفتح أفق العالمية أمام أعين المشاهد المصري لمعرفة ما يدور حوله من ثقافات ومجتمعات خارج حدود جغرافيته ولغته.