كان الوقت مبكرا للغاية صباح يوم الرابع من يونيو ٢٠٠٩ عندما كان علىّ الظهور فى برنامج «صباح الخير يا مصر» الشهير آنذاك فى التليفزيون المصرى، والذى أفرد الفترة الصباحية لتغطية زيارة الرئيس الأمريكى باراك أوباما للقاهرة. من ناحيتنا فى مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية كان هناك كثير من الاستشارات من قبل السفارة الأمريكية قبل شهور عما إذا كان خطاب من رئيس الولايات المتحدة إلى العالم الإسلامى سوف يكون مفيدا أم لا. وبعدها بات السؤال هو: ما هى المحطة التى تمثل العالم الإسلامى وهل هى إندونيسيا التى عاش فيها الرئيس الجديد بعضا من صباه، أم أنها تركيا آخر منصات الخلافة الإسلامية والدولة العلمانية عضو حلف الأطلنطى والساعية للانضمام إلى الاتحاد الأوروبى، أو أنها المملكة العربية السعودية حيث يوجد الحرمين الشريفان فى مكة والمدينة، أم أنها مصر الصديقة للولايات المتحدة وحيث يوجد الأزهر الشريف؟ ولم يمض وقت طويل حتى بات السؤال إذا كانت القاهرة هى الاختيار، فأين يكون الخطاب: الأزهر أم الجامعة الأمريكية أو جامعة القاهرة؟ كان تفضيلى دائما هو الأخير وفى الساعة السادسة والنصف صباح ذلك اليوم كنت على الهواء مباشرة مع اتفاق بضرورة مغادرتى البرنامج فى الساعة التاسعة حتى ألحق بالدخول إلى قاعة الاجتماعات الكبرى بالجامعة التى عشت فيها سنوات الدراسة فى كلية الاقتصاد والعلوم السياسية. وهكذا لحقت الحدث الكبير بعد الكثير من التعليق منذ وصول أوباما إلى مطار القاهرة وحتى استقباله من قبل الرئيس مبارك، وبينما كان الرئيس الأمريكى ممتلئا بالحيوية وبطريقته الأثيرة فى هبوط سلم الطائرة أو صعود سلالم القصور الرئاسية، فإن رئيسنا المصرى كان يعانى من مشاعر حزينة نتجت عن الفراق القريب مع حفيده.
.. فى القاعة الكبرى التى امتلأت حتى آخرها كان اللقاء مع أوباما حميما للغاية لخصته زوجتى فيما بعد بأننا نشاهد فارقا كبيرا فى المشاعر المصرية التى احتفت كثيرا فى العام الماضى بالشاب العراقى الذى قذف الرئيس جورج بوش الابن بالحذاء، وهتاف «نحبك يا أوباما» الذى ارتفع مدويا فى قاعة الجامعة.
أحد عشر عاما تقريبا مرت الآن منذ تلك الساعات التاريخية حتى صدرت مذكرات أوباما التى رصدت تلك اللحظات بطريقة مخالفة تماما لما كان عليه حالنا وقتها. ساعتها كانت الكراهية لجورج بوش الابن وغزوه لأفغانستان والعراق وما بدا وقتها حربا على العرب والمسلمين منعكسا على المشاعر تجاه الولايات المتحدة. انتخاب أوباما بدا ساعاتها نوعا من التطهر الأمريكى بانتخاب أمريكى إفريقى كان أبوه مسلما، وعاش بعضا من حياته فى بلد إسلامى، ووصل إلى البيت الأبيض عبر حملة انتخابية طاحنة، رفض فيها الحرب الأمريكية على العراق، وانتقد فيها الكثير من الممارسات الأمريكية فى العالم، وبدا فى كل الأحوال رجلا يختلف عمن تعودنا عليهم من الرؤساء الأمريكيين. فى مذكراته نجد أولا الكثير من الحسرة وخيبة الأمل فى فاعلية ما كان يعتقد من مبادئ أمريكية أصيلة، وثانيا أنه لم يكن يبادل مصر نفس المشاعر والتقدير والتعامل الجدى الذى قدمته له. فهو لم ير فى مبارك إلا ما تعتقد الجماعة الليبرالية الأمريكية من أنه «مستبد» آخر، لم يكن بطلا من أبطال الحرب المصريين، ولا كان رجلا من أهم دعائم السلام فى الشرق الأوسط، ولا رجلا كان فى ذلك الوقت قابلا لتطوير النظام السياسى المصرى بانتخابات رئاسية تنافسية، وشمول المؤسسات السياسية للكثير من القوى السياسية المعارضة بما فيها جماعة الإخوان المسلمين، وقائما على انفتاح اقتصادى أدى إلى معدلات للنمو تجاوزت ٧٪ فى وقت أزمة اقتصادية عالمية طاحنة. وبشكل ما بدت له مظاهر الاحتفاء فى جامعة القاهرة حالة استثنائية من قاعدة عامة من القهر الذى جعل الشوارع خالية عند استقباله!
باختصار لم يكن لديه استعداد لأخذ مصر بالجدية التى تستحقها حتى إنه نظر إلى منطقة الأهرامات التى زارها كحالة منفصلة تقع فى التاريخ السحيق وبعيدة عن حالة المصريين الحاليين إلى الدرجة التى لم تجعله يذكر اسم المصرى الوحيد الذى تفاعل معه وهو عالم المصريات القدير د. زاهى حواس ولم يجد له وصفا بعد ما قام به من وصف وشرح للآثار المصرية الخالدة سوى أنه كان يرتدى قبعة «إنديانا جونز»، وأنه لم يقدم له تفسيرا لوجود رسم يشبهه شخصيا على أحد الحوائط الفرعونية فى منطقة الأهرامات. الجائز هو أن الأصول الكينية لأوباما تجعله من سلالة العرق «النيلى» المنتشر فى الكثير من الجدران الفرعونية. ما يهمنا فى الأمر أن ما رآه أوباما فى ظلال الأهرامات لم يزد كثيرا وهو خريج جامعة هارفارد وكولومبيا أكثر من رؤية «المستشرقين» للعالم الإسلامى من انحراف وتشويه؛ وهذه المرة من زاوية «الليبراليين» و«الديمقراطيين» الأمريكيين الذين يجدون العجب عندما لا يجدون أمما وشعوبا أخرى مهما كانت أصالتها مثل الشعب المصرى تجد لها فى التطور والتقدم سبلا أخرى تناسبها.
أوباما نفسه فى آخر فصله الخاص بزيارة القاهرة والأهرامات يتساءل فى حيرة عما إذا كان موقفه من مبارك فى أيام سلطته الأخيرة هو الموقف السليم أم لا، وهل كان نوعا من «المداهنة» له فى البقاء سوف يكون الأفضل لمصر وللمنطقة، أو أن مستقبل المنطقة كان قد تقرر بفعل عوامل طاغية أخرى لا يمكن وقفها. هذا النوع من الحيرة المتأخرة تلقى بالكثير من ظلالها على معظم أرجاء مذكرات الرئيس فهو لا يستسلم بسهولة لما يراه من واقع سياسى لا فى الولايات المتحدة نفسها حيث انكشفت الكثير من عللها فى عهد ترامب، ولا فى العالم كله حيث ثبت أن التنمية والتقدم يمكنها أن تنبت وتزدهر بعيدا فى الشرق، وفى منطقتنا على وجه الخصوص حيث لم يكن الثمن فقط فادحا، وإنما بات عصيا على النموذج الغربى. أوباما وقع أسيرا لما رآه المثال الأمريكى، والمثالية الليبرالية، التى لا تصير نوعا من القيم، بالشكل الذى جعله عاجزا عن إدراك ما فيه من تناقضات. المدهش أنه فى بعض الأحيان يدرك هذه الحقيقة كما فعل عند ترويج مشروع «الانتعاش الاقتصادى» فى الكونجرس حينما أفصح عن أن المشكلة لم تكن أعضاء مجلس الشيوخ أو النواب، وإنما القاعدة الشعبية التى يستندون إليها والتى كان لديها الكثير من التحفظات على شخصية ونوعية قائد البلاد، ولا توجد لديها شهية لقبول أى من مشروعاته مهما كانت وجاهتها العملية فى وقت أزمة تصيب جميع الخلق. فى حالتنا المصرية لم يكن لديه لا الاستعداد ولا القابلية للمعرفة عن مصر ساعتها، ولا عن رئيسها، وفى الظن أن هذا ليس ديدن أوباما وحده، وإنما هو حالة الليبراليين الأمريكيين من نوعية هذه الأيام.