مدحت بشاي يكتب: جورج البهجوري .. الانفجار المبدع

مدحت بشاي يكتب: جورج البهجوري .. الانفجار المبدع
مدحت بشاي يكتب: جورج البهجوري .. الانفجار المبدع

 

لم أجد ما أستهل به  حدوتة فناننا العبقري " جورج البهجوري " ، أروع مما كتب الكاتب والمفكر والناقد المبدع " د. ثروت عكاشة " أعظم وزير ثقافة مصري عرفناه ..

كتب " عكاشة " متناولًا فقط اسكتشاته على الورق بالحبر الأسود  " تسقط نقطة الحبر الأسود على الورقة البيضاء . تحدث صوتًا مدويًا وانفجارًا . ثم تشققات وسط تضاريس كأنها سطح الكرة الأرضية .. تخربش الريشة في كل اتجاه حول الحبر الأسود ، تدب الحياة رويدًا حولها كأن صاحب الورقة الناصعة البياض أصبحت هي نورها و تدرجات الحبر الأسود إلى الرمادي هو ظلالها .. صوت الانفجار ممتع لأنه من داخل المبدع الذي يحاول أن يعطي أكثر ما يستطيع مُستفيدًا بخبرته القديمة .. إن عشق الفنان الساخر للقلم الأسود تدفعنا إلى افتراض أنه جُبل منذ نعومة أظفاره على التغني بعبارة " شكسبير " الخالدة في مسرحية " تيتوس آندرونيكوس " إن سواد  الفحم خير من أي صبغ لأنه يأبى أن يعلوه صبغ آخر "..

يقول البهجوري عن بعض تفاصيل مشواره ...  " قضيت حياتي بين الشرق والغرب، لذلك فإن رسوماتي موجودة بفرنسا، بالإضافة إلى أن أعمالي قد عُرضت في جميع بلدان العالم، وكنت حريصا علي ذلك، فعرضت في إيطاليا، وأسبانيا، وغيرهما، ولي لوحات في متحف بوريلي مرسيليا بإيطاليا ولي لوحات في متحف اللوفر بجناح أجدادي الفراعنة العظماء، أيضا لي رسومات بمتحف دميته ، كما إني حصلت علي العديد من الجوائز من أسبانيا، وحصلت من باريس علي جائزة البحر الأبيض، وحصلت من مرسيليا علي جائزة التفوق عام 2010 لذلك أقول إننا لابد أن نقدر للغرب دورهم ، ولا نكون متعصبين، كما يجب أن نشيد بفضل حضارة أوروبا وثقافتها، ومن المهم جداً أن تعود السياحة بقوة، لأن الغربيين يزورون مصر ليس فقط بهدف التنزه، وإنما هم يكتبون كتبا هامة عن مصر ، مع تصحيح المفاهيم الخاطئة عن الغرب، ولابد أن نكون علي اتصال دائم بهم، فما المانع أن نجمع ما بين شرقيتنا وعلوم الغرب وحضارتهم بهدف التقدم والازدهار، فنحن نريد الثقافة والحضارة .. "

فى أحد معارضه قدم الفنان " جورج البهجورى " خلاصة تجربته الفنية فى مجموعة من اللوحات تحت عنوان  ` مقهى بهجورى`. وعن سر اختياره لهذا الموضوع الطريف ، يقول: أنا أسير فى تجارب فنية متعددة ، وإذا لم أقدم جديداً فلا داعى للمعرض، ففى كل مرة أقيم فيها معرضاً لا بد وأن أضيف جديداً .. والمسألة ليست كمية الإنتاج الفنى، وإلا تحول الفنان عن رسالته إلى أن يصبح تاجراً، وإنما المهم هو الكيف والمضمون الذى تحمله الأعمال .. وأنا بطبيعتى أستلهم أعمالى من وحى الشارع والبيئة الشعبية والإنسان البسيط .. والمقهى أو` القهوة `هى نافذة كبيرة على هذا العالم السحرى والذى من خلاله أطل على حياة البسطاء .. فأفكارى مرتبطة ببعضها وتكمل بعضها البعض وكلها تهتم بالإنسان وعالم البشر فى هذا الكون " ..

 ترى في المعرض لوحة للقهوة حيث الناس كتلة و الصراخ والحوارات بصوت مرتفع متعب يملأ جنبات القهوة . رسمها بهجورى بحس تجريدى عال فلا ترى الناس بل تشعر بهم أصواتهن العالية .. دخان الشيشة .. حالة الغياب .. والأكل والشرب .. لعب الطاولة .. الموسيقى الصاخبة . ثم لا شئ واللوحة غير الزحام . - -- وبعض اللوحات يتحول البشر كتل تشبه الأسمنت يفتقدون اللون والاحساس تصبح اللوحة جزءا من الصراخ اليومى .. وأنت تنقل عينيك بين لوحات المعرض سوف تظهر بعض لوحات عازفى الموسيقى .. وكأنها رقصات مرحة وأغانى لطيفة مثل التى تظهر فى الأفلام الهندية بعد مقتل البطل الروح قليلا وتبث الطمأنينة فيك إلا أنك سوف تعود لترى فاجعة أخرى على الحائط تظهر لوحة بائع العيش ولوحة الزحام وكأنهما لوحة واحدة .. يتراص العيش فوق رأس الرجل كما يتراص الناس والزحام .. وهو بهلوانا فوق عجلته ويبدو الناس بهلوانات داخل الأتوبيس

وحول سفره إلى باريس يفول " البهجوري " أنه  كان بمثابة الولادة من جديد بالنسبة إلى، فقد شبعت من العطاء للصحافة، حتى كدت أنسى الفنان صاحب اللوحات، وأردت أن أعود إلى اللوحة مرة أخرى. وقد سافرت فى البداية لإقامة معرض هناك تحت عنوان ` أولاد الحارة ` وعرض فى لندن أولاً ثم انتقل إلى باريس، وهناك قررت البقاء لبعض الوقت، وصرت كلما أبيع لوحة أمدد إقامتى حتى طال بى الأمر سنوات. وفى باريس عدت إلى القراءة والمشاهدة من جديد، وتضاءلت مساحة الصحافة من أولوية اهتماماتى، وكنت حين يضيق بى الحال ألجأ إلى أحد الأصدقاء الذى كان يعيش هناك فى ذلك الوقت وهو الصديق أنور عبد الملك، وكان أحد اليساريين اللذين فروا من الملاحقات الأمنية فى عهد عبد الناصر. ومن طريقه تعرفت إلى رئيس تحرير مجلة كانت تصدر هناك باللغة الفرنسية واسمها ` أفريقيا الشابة `، إذ عملت بها لفترة ، وكانت لى صفحتان مخصصتان لرسومى، وعلى رغم ضآلة المبلغ الذى كنت أتحصل عليه منها، إلا أننى كنت حينها فى حاجة إلى هذا العمل كى أستمر. 

يقول الفنان " بهجورى " أنه بدأ حياته بالسخرية ` لأن الناس كانوا يصادرون حريتى فى التعبير والكلام، وكنت أسخر من الأحياء والكيمياء، (أى من الأهل والأصدقاء ومادة الكيمياء فى المدرسة) وعندما دخلت كلية الفنون الجميلة بخمسينيات القرن الماضى، التقيت بالفنان الشهير حسين بكار، حينها بدأت أعرف الرسم كفن وتشكيل. فبدأت أرسم رفضى للدراسة ومدرسيها ومناهجها التلقينية الغبية، فتطورت الحكاية حتى صارت الشخبطة توزع فى ` روزاليوسف`. وبعدها بدأت مرحلة تشابك الخطوط، بما يسمى الآن فى ` الأهرام` زاوية الخط الواحد، أى لا أرفع يدى عن الورقة حتى تنتهى الرسمة، فأعود إلى الخط الأول الذى انطلقت منه لتأكيد رؤيتى الأولى ..

اللوحة عند البهجوري كما الفرقة الموسيقية أو الأوركسترا فهى تدعوه إلى الحب إلى الجمال إلى الوطن، فهى كالشخص الذى يكون أسرة، تجده دائماً مشدود إليها. لذلك يتعين على الفنان أن يقف إلى جانب شعبه ووطنه سواء بالكلمات أو الألوان التى نسميها الفن التشكيلى. أما بخصوص الحوافز فالنماذج كثيرة بالحياة التى تجذبه إلى فن الرسم مثل الموسيقى، وبالأخص المايسترو، الذى يقود عشرات الموسيقيين ، يقودهم ويوجههم ليخرج بنغم متجانس يسحر الألباب ويحير العقول. إنها لغة جميلة، وأنه يتعلم هذه اللغة التشكيلية. للقيام بدوره لإسعاد الإنسانية واكتشاف الخير والشر والجهل والنور ورسالة حب الناس والسلام.

 

مدحت بشاي

medhatbeshay9@gmail.com