انهارت ميرفت ، والدها ناجي عنايت ، مُسجى فوق الفراش في لحظاته الأخيرة ، شعور مسبق باليتم داهم عادل زوجها وهو يرى فيه أبا ثانيا له ، أحبه كأب وككاتب لم يمل أبداً من القراءة له . من اللحظة الأولى ارتبطت محبة ناجي عنايت بقلب عادل ، يعرفه قبل أن يلقاه من إبداعاته ، ارتبط خياله به . الحقيقة التي وجدها فيه أروع من الخيال . العلاقة بينهما لم تكن علاقة عادية ، لم تكن مجرد علاقة بين شخص ووالد زوجته ، كانت بينهما أشياء مشتركة زادت من التحامهما ، أهمها التفاني في حب الزهرة الرقيقة ميرفت . والسر المشترك بينهما ، السر الذي أخفاه ناجي عنايت عن الجميع ، ميرفت ابنة أخيه وليست ابنته ، لم يبح بهذا السر سوى لعادل ، الآن سيتركه ليحمل السر وحده . الدهشة بدت في عيني ميرفت ، عندما سألها وهو في لحظاته الأخيرة ، أن تتركه قليلا مع زوجها عادل . هطلت الدموع من عينيه في صراحة تامة ، أمسكت يده بيد عادل ، عيناه تحملان من الكلمات أكثر مما تنطق به شفتاه . يرجوه أن يضع ميرفت داخل حدقة عينيه ، مذكرا إياه بمسئوليته نحو السر الذي كتمه في داخله طوال العمر ، من أجل أن تنشأ ميرفت معتقدة أنه أبوها ، حتى لا تنغص عليها حياتها فكرة فقدانها لأبيها وأمها في آن واحد ، رجاه أن يخبرها بالحقيقة إذا استدعت الضرورة ، ويرجوها باسمه أن تسامح من كان لها أبا وأما في آن واحد ، وأنه لم يخف عنها الحقيقة إلا بدافع من حبه لها ، وبأنها كانت بالنسبة له عوضا عن ابنه الذي فقده وهو لا يزال في أحشاء أمه . أشار بيده لعادل ليستدعي ميرفت سريعاً ، فاضت روحه وهو يحتضنهما . أصاب الحزن كل من اقترب من ناجي عنايت ، الحزن كان مضاعفا على حفيديه عليا وعلاء اللذان شبا في رعايته ، يسقيهما من ثقافته وخبرته في الحياة ، لم يكن غريبا أن تصبح عليا شاعرة كأمها وهي في عمر الزهور ، موهبتها تنبىء عن مستقبل عريض في عالم الأدب.
لم يتوقف فكر عادل ، السر الذي ألقاه على كتفيه ناجي عنايت وتركه ورحل ، اثقل كاهله ، لم يفكر فيه من قبل بهذه الصورة ، لأن ناجي عنايت كان يقاسمه فيه ويحمل مسئوليته منذ البداية . الآن أصبح وحده الأمين عليه . سؤال يحيره ويقلقه ، ناجي عنايت حمله أمانة إخبارها عند الضرورة ، متى تكون هذه الضرورة لا يعلم ؟ ، لها أم وخالة لا يعلم أين هما ؟ ولها إرث من حقها ، متى تكون ضرورة إخبارها ؟ الأم والخالة لم يستطع ناجي عنايت العثور عليهما ، بالرغم من الجهد الذي بذله للوصول إلى مكانهما . لو كانت الخالة ذهبت إلى المنزل ، حيث ترك ناجي عنايت ورقة بها هاتفه وعنوانه لاتصلت بهما ، إذاً فحتى الآن مجهولتا الإقامة ، الإرث لن يضيع وسيظل باقيا ، في أمريكا لا يضيع شيء . من الأفضل أن يكف عن التفكير في هذا الموضوع في الوقت الحالي ، يتركه للظروف فقد تكشف الضرورة عن نفسها تلقائيا ، الضرورة التي تحتم الكشف عن السر كما أوصاه ناجي عنايت .
***********
كل النساء اجتمعن في امرأة واحدة ، الفوز بها انتصار على جميع بنات حواء ، الجمال كلمة لا معنى لها أمام ما يصرخ به وجهها من ملاحة ، الإغراء كله يهوي صريعا تحت قدميها . كل هذا لا يهم يا حامد يا نجار ، أبحرت في النساء شرقا وغربا ، لم تفرق بين بنات الليل وزوجات خائنات ونساء ضائعات ، لم تطأطىء رأسك أمام أي واحدة منهن ، لكن جبهتك كادت أن تلامس الأرض أمام نظرة الاحتقار الهائلة التي رمتك بها ناديه . لم يستغرق الأمر سوى ثوان لكنها كانت بمثابة دهر من الهوان ، ألقت باحتقارها في حضنك وخرجت من الباب كملكة متوجة . سحقت نظرتها كل جبروتك وطغيانك وذرته في الهواء ، تركتك تلعق ما تبعثر منه على الأرض ، غمرك إحساس الكلب الذي يتلهف على عظمة تُلقي إليه ، وحتى هذه حرمتك منها . ماذا بك يا حامد يا نجار ؟ هل قتلتك نظرتها ولم يبق بداخلك سوى الذل والخنوع ؟ عُدت إلى حقارة منبتك ، دفنته في الأعماق حتى لا يهتدي إليه أحد ، فجأة وجدته يطفو ليأخذك معه إلى الأعمق من الأعماق . لا يجب أن تستسلم لكبرياء نظرتها ، عد وابتلع كل ما سحقتهُ من جبروتك وطغيانك ، اشرب ماء العالم كله لينتفش في داخلك ، اسحق به أي نظرة تستهين بك . ناديه لا بد أن تركع أمامك وتلهبها بسياطك حتى تدمي إغراء جسدها ، العق دمها فقد يكون فيه شفاء من الخنجر الذي طعنتك به. نظرة واحدة انقلب بعدها حال حامد النجار ، السهرة في قصر جاد الكومي تلونت الدنيا بعدها بلون الذل . منصبه الذي وصل إليه متسلقا ، وغزواته في عالم النساء ، جعلته يظن أن كل شيء تجمع بين يديه . رجال صناديد أزاحهم عن طريقه وأرسل بهم للسجون والبعض الآخر لعزرائيل . فجأة اكتشف الوهم ، أخرجت له الدنيا لسانها . وضع يده على الجرس ولم يرفعها إلا بدخول الجوكر مهرولا بخطوات يلتف حولها الخوف . كال له عقب الحفل في قصر جاد الكومي من السباب ما يزن بالقنطار. كما اتهم الجوكر خالد بأنه هو السبب فيما حدث وبأنه لا يصلح للعمل معهم ، ناديه أخته ألقت بقاذورات العالم فوق رأسه ورأس ضيوفه.
قال الجوكر بصوت مرتعش وعيناه تلعقان الأرض :
_ أوامر الباشا .
_ قد يكون الأمر الأخير يا جوكر وأنت تعرف ماذا ينتظرك لو فشلت في تنفيذه ، واخبر هذا الضابط خالد أيضا بأن العمل في مصلحة السجون يحتاج لخبرته أن لم يُصلح ما حدث من أخته.
_ كلنا في خدمة سعادتك يا باشا .. إنها لا تعدو طائشة بهرتها أضواء الشهرة ، غاب عنها أن سعادتك يمكن أن تطفىء بريقها بنفخة واحدة من فمك.
_ ليس بهذه السهولة أيها المغفل ، ناديه نجمة مشهورة ولها جمهورها العريض ، تلفيق تهمة لها ليس بالشيء السهل ، لا أريد منها سوى أن تركع نظير استهانتها بحامد النجار .
قال الجوكر متذللا :
_ سيكون لها شرف الركوع أمام سعادتك يا باشا .
_ في هذا الموضوع لا تتخذ خطوة إلا بعد استشارتي ، إبدأ بتقصي أخبارها خطوة بخطوة ، وإذا كانت تربطها علاقة بأحد ، ولا تنسى أن تخبر خالد أن هذه فرصته الأخيرة لإثبات ولاءه لي.
_ جميعنا في خدمة سعادتك يا باشا ، ولا تقر لنا عين إلا برضائك ، ولكن ما رأي سعادتك بأمها فجر يا باشا .
_ هذا ما يدهشني .. الأم تمتلئ عينيها بالفجور ، والبنت تمتلئ عينيها بالكبرياء والعزة ، بينهما بحر لا يمكن لإحداهما أن تعبره نحو الأخرى ، في عالم النساء لم ولن يتساوى الغالي مع الرخيص.
********
في صالون نورا هانم فياض تجمعت ألوان الفن والأدب ، القربى وثيقة بينهما ، كلاهما يحمل شيئا ما للآخر ، إبداع الفن وإبداع الأدب ، لا يستطيع أحدهما أن يتملص من الآخر . الموهبة عامل مشترك يربط بينهما ، والمواهب تتشمم بعضها ، كان من السهل أن تتآلف نظرات نادية الممثلة الموهوبة مع نظرات ميرفت الشاعرة الموهوبة ، في اللقاء الأدبي السنوي الذي تنظمه نورا هانم فياض ، في صالون فيلتها التي تتوارى خلف مجموعة مورقة من ظليل الأشجار ، في حي هادئ من أحياء الزمالك . اعتادت نورا هانم على هذه الأمسية الأدبية الرائعة منذ فجر شبابها ، عندما تزوجت فياض باشا الرافعي ،كان صالونه ملتقى الأدباء والفنانين ، تذوقت هذه الأمسية واستعذبتها وظلت وفية لها حتى بعد انتقال زوجها للعالم الآخر . أحبته بجنون وكانت ترى في إحياء هذه الأمسية كل عام إحياء لذكراه . جمال آسر وبشرة تبدو كضوء الفجر تهرب من أسفل ثوب أسود بسيط ، تأبى أن تبدل لونه منذ وفاة زوجها وحبيبها ، ترامى أسفل قدميها أساطين الرجال يطلبون وصالها ، اعتذرت للجميع بأن زوجها ما يزال يعيش داخل قلبها ، وستحتفظ به حتى يجمعهما الثرى سويا . شاهدت الاحترام والتقدير في كل النظرات التي تحيط بها رجالا ونساء ، أصبح الملتقى السنوي في صالونها أمنية لكل من صب موهبته الفنية أو الأدبية في قالب من الاحترام . لم يكن صعبا على الفنانة نادية أن ترتقي أقدامها عتبة هذا الصالون، بما عرف عنها من رفض للفن الهابط ، والتمتع بكرامة غير قابلة للخدش . أما ميرفت فلقد اخترقت أبوابه منذ فترة طويلة وهي ممسكة بيد أبيها ناجي عنايت ، بعد ارتباطها بعادل أصبح ثالثهما ، بموت ناجى عنايت انكمش العدد لاثنين هيَّ وعادل زوجها . بدون مقدمات أو انتظار لتعريف تلاقت ابتسامة ناديه مع ابتسامة ميرفت ، لم تمر بضعة دقائق حتى تولدت ألفة لم تتطلب أي جهد لكي تنصهر في بوتقة واحدة . سر تعارفهما عادل ، وجد فيه منفذا يسري عن زوجته ميرفت قليلا ، وينسيها بعض الشيء حزنها على والدها ناجي عنايت ، ودمعة دائمة الفرار من عينيها منذ رحيله .
مرت الليلة في سهولة ويسر وسط مناقشات أدبية وفنية ممتعة ، زاد من سحرها قصيدة لميرفت عنايت كان مطلعها :
الحياة .. ما هي الحياة ؟
مجهولة
لمن لم تسر قدماه خطى الحب
لمن لم تعزف أوتار قلبه
الحياة .. ما هي الحياة ؟
طارت ميرفت من مقطع لمقطع ، بوجنات متوردة ، ونظرة حالمة ألقت بظلالها الرخيمة على الحضور ، كأنها تروي قصة حبها مع عادل . اهتز قلب نادية وهي تستمع لها، وطيف سليم يتجسد أمامها مع كل كلمة غلفتها رقائق العشق ، تنساب من بين شفتي ميرفت وكأنها دعوة مفتوحة لكل القلوب ، لتنهل الحب من أعذب منابعه . انتهت ميرفت من إلقاء أبياتها الشعرية الحالمة ، وجدت نادية نفسها مدفوعة بقوة لا تدري كنهها نحو ميرفت تعانقها ، لتصبح هذه اللحظات وثيقة صداقة قوية بينهما .
في وسط هذا الجمع كانت عينا ثعلب ملتصقة بنادية ، تخطو معها كل خطواتها ، لم يكن هذا الثعلب سوى أحد الجرسونات التي تستعين بهم نورا فياض في هذه المناسبة للحفاوة بضيوفها ، هذا الجرسون لم يكن سوى دسيسة ألقى به الجوكر خلف نادية ، يعد عليها حركاتها وسكناتها تنفيذا لما أمره به سيده وتاج رأسه النجار ، لم يفت الدسيسة أن يسجل رقم السيارة التي استقلتها نادية عقب انتهاء الليلة ، لم يكن قائدها سوى خطيبها سليم الذي أصر أن أن يكون سائقها الخاص هذه الليلة ، رفضا الصعود معها رغم توسلاتها ، منتظرا حتى اليوم الذي يستطيع مرافقتها بصفة رسمية كزوج.
إدوارد فيلبس جرجس
**********************