عروة بن الورد واحد من أولئك الذين بحثوا عن ذواتهم الحقيقية، وسيظل محفوظا في ذاكرة التاريخ نموذجا حقيقيا للرجل الذي كرَّس حياته لتحقيق مبدأ، أو غاية إنسانية نبيلة آمن بها، فاتخذ منها شعارا، وإلهاما يعنون مسيرته، ويميز تجربته،ليتحول إلى داع من دعاة المشاركة ذات النزعة الإنسانية التي تضع الإنسان في أولويات اهتماماتها،وتحاول تطويع كل ما يحيط به لما فيه صالحه وخيره، وبهذا استحق عروة اللقب الذي تُوِّجَ به، وارتبط باسمه"أبو الصعاليك" على الرغم من أنه لم يكن من أولئك الصعاليك الأغربة، أو الخلعاء، أو العبيد، بل كان ذا نسب شريف في عبس. لكنَّ هناك سببين رئيسين في صعلكته:الأول:أن والده كان مصدر شؤم في قومه،إذ كان سبب الحرب التي دارت رحاها بين عبس وذبيان،حرب داحس والغبراء. والثاني أن أخواله لم يكونوا عدلا لأعمامه في الشرف،لذا لم يكن عروة معتدا بنسب أمه،فهي من نهد، وأشار إلى هذا شعرا فقال:
ما بِيَ مِن عارٍ إِخالُ عَلِمتُهُسِوى أَنَّ أَخوالي إِذا نُسِبوا نَهدُ
إِذا ما أَرَدتَ المَجدَ قَصَّرَ مَجدُهُمفَأَعيا عَلَيَّ أَن يُقارِبَني المَجدُ
سعي إلى المجد،وعار يقف حاجزا دون الوصول، وقلق في النفس، ولا بد من تغيير.
كان على عروة أن يبدأ رحلته مع الحياة ليبحث عن ذاته،ويتلاقى مع نفسه، بعد أن استشعر التمييز الاجتماعي القائم على تفضيل طرف على آخر، لكنَّ عمرًا استعصى على ذلك التمايز منذ صغره، ورفضه، مما اضطر أباه، وهو الذي كان يفضل عليه أخاه أن يقول مفسرا سبب تفضيل أخيه عليه:"أترون هذا الأصغر-يعني عروة-؟لئن بقي مع ما أرى من شدة نفسه ليصيرن الأكبرُ عيالا عليه"
أما عروة فقد كره ذلك التفضيل، وولَّد بداخله كرها ونفورا من التمييز في المعاملة، ولم يستطع صبرا على رداءة واقعه الخاص والعام معًا،فقرر الخروج عل قبيلته بأعرافها وقوانينها،خرج منها طواعية، تاركا نسبه الشريف،ليبني مجتمعا جديدا يضم في كنفه كل من طرد من رجمة القبيلة،أو وقع عليه غضبها، أو حرم عدالتها، مجتمع أساسه العدالة، والمساواة والحرية.
حاول عروة أن يؤسس مجتمعه الجديد طبقا لفلسفته القائمة على أساس إنساني يرفض التمييز،ويقر بأن الحياة حق للجميع،
ولعل هذا النموذج قد لا يكون قادرا على البقاء خارج نطاق القبيلة،فقد اختار المذلة،والقهر والتهميش، وفقد إنسانيته على أعتاب قبيلته.
وفي المقابل يقدم عروة نموذجا لصعلوك يريد حياة كريمة، ونفسا عزيزة:
وَلَكِنَّ صُعلوكاً صَفيحَةُ وَجهِهِكَضَوءِ شِهابِ القابِسِ المُتَنَوِّرِ
مُطِلّاً عَلى أَعدائِهِ يَزجُرونَهُبِساحَتِهِم زَجرَ المَنيحِ المُشَهَّرِ
فَذالِكَ إِن يَلقَ المَنِيَّةَ يَلقَهاحَميداً وَإِن يَستَغنِ يَوماً فَأَجدَرِ
إن إنسانية عروة وجوده يتمثلان أفضل تمثيل في طريقة حياته ومعاملته للصعاليك،الذين كثيرا ما كانوا يتدللون عليه،فيتحملهم ويصبر عليهم ، ويعفو عن مسيئهم، ولطالما قُرِنَ كرم عروة بكرم حاتم الطائي، وقديما قال عبد الملك بن مروان:"من زعم أن حاتما أسمح الناس، فقد ظلم عروة بن الورد"
لقد اتضحت لعروة سبيله،واستبانت طريقه،ووضحت غايته، ووجد ذاته المفقودة بسبب قوانين قبيلته.لقد وجدها في العطاء،وتخليص الفقراء من ذل الفقر،وربقة العبودية؛لتعرف الحرية طريقها إليهم،مما استوجب سعيه في مناكب الأرض طالبا للكسب، وتوزيعه راضيا على المعسرين.يقول:
دَعيني أُطَوِّف في البِلادِ لَعَلَّنيأُفيدُ غِنىً فيهِ لِذي الحَقِّ مُحمِلُ
إن صوت الإنسانية بداخله يدفعه إلى حد الشعور بالذنب والعار إن نزلت النوازل بأولئك الناس في وقت لا يكون فيه قادرا على إجابتهم وإعانتهم.
إذن، صعلكة عروة كانت حركة ضد التميز بين الناس على أساس خاو؛فهذا غني محترم، وذاك فقير منبوذ،كان نهج سيد الصعاليك في ثورته الوردية نهجا يعتمد النظام، والاعتدال،والتوازن.لم يتسم بالعنف والقسوة أو الفوضى.وبهذا فقد"انتقل هذا الصعلوك نقلة نوعية واعية بالصعلكة...وعمل على أن يجعلها أقرب إلى الثورة من أجل المجتمع بدلا من أن تكون ثورة عليه"