الشعراء – كما يقول أستاذنا العقاد – هم طلاب الكمال والمثل العليا في كل زمان ومكان؛ فقد منحهم الله من صفاء الشعور ما لم يمنحه غيرهم من البشر، يجيدون التعبير عن مكنونات النفوس، ويجد المتلقي في شعرهم واحة لأفراحه وأتراحه بجانب المتعة الروحية والجمالية، ويظل الشعر – وحده – ملاذا وحصنا منيعا يلوذ به الشاعر فارّا من هجير الحياة إليه؛ فليس له غيره، يكتفى به عما سواه.
نحن أمام عاشق حتى النخاع، يعيش للحب وعليه؛ " فالحب عاطفة شائعة بين الناس، بل شائعة بين من ينطق وما لا ينطق. ولسنا نعني الصلة الجسدية التي نقضي بانقضاء دوافع الفطرة؛ فإن هذه لا تسمى حبا، ولا هي من العلاقات القائمة بين فرد بعينه وفرد آخر بعينه؛ لأنها فوضى مشتركة بين جميع الذكور وجميع الإناث من فصيلة واحدة.
ولكننا نعني الصلة النفسية التي تجمع الفردين معا بعلاقة لا يغني فيها أي فرد آخر من الفصيلة. وقد ثبت للباحثين في طبائع الأحياء أن بعض الطيور والحيوانات تتزاوج مدى الحياة، وينتقل الذكر والأنثى منها آلاف الفراسخ بين أوربا وأفريقيا، ثم يعودان من تلك الرحلة إلى حيث كانا".
شاعرنا عبد الأمير الماجدي من تلك الطائفة التي تقدس الحب، دوما يتغنى بهذا الحب السرمدي:
كنت ولم أزل
أترنم بحروفك التي بعثرتها أناملك على محياي
هنا وهناك وفوق صور الملكوت
ولأن طبيعة العاشق قلقة التي تخشى هذا الحب وعليه؛ فهو يعيش تلك الحالة التي لا تزيده إلا تمسكا بمحبوبته:
ما زلنا نتوجس من الحب
وما زلت تتقاطرين على طرق اللااندماج
ذهبت كل الفصول
وما تبقى من حماقتي ينتظرك صارخا
بصوته المرتعش
ولا يعرف شاعرنا اليأس مثل كثير من البشر عندما يتعرضون لظروف قاسية يلوذون بأسوار العزلة والصمت، يعيشون على اليأس المرير؛ بيد أن العظماء يجعلون من تلك الظروف حافزا ودافعا للوصول لأهدافهم:
وسأبقى أستهزئ بالألم
إنه التحدي حيث يطأ جراحاته هازئا ساخرا من كل ما يواجهه من أتراح وآلام، إنه سلاح السخرية والقدح في أذواق المتشائمين، وهذا مضمون قوله:
(وسأبقى أستهزئ بالألم)
إن الماجدي في معظم شعره يؤكد أن عشقه هو سر بقائه، وهو ذلك القلب النابض بأسمى المعاني فلا يستطيع العيش دون الحب وتلك سمة تمّيز الشعراءَ الرومانسيين جميعا، يؤكد ذلك بسلاح السخرية والتحدي للألم؛ فليس هو ذلك المتشائم القانط، وقد يظن البعض أن ظهور مسحة الحزن في شعره شكوى ويأس، لكنها شكوى المتحدي الساخر من الألم الراقص رغم كل الجراحات وقسوة التجارب وغياب المحبوب.
ولعل الفارق بين الشعراء يكمن في قدرة الشاعر على نقل شعوره للمتلقي من خلال الخيال البديع كما يفعل عبد الأمير الماجدي، فهو يعي ان الشعر إن خلا من الخيال الجميل واللغة الشاعرة فإنه مجرد رص لكلمات لا يجمع بينها خيط شعوري، استطاع شاعرنا أخذنا لبؤرة شعره وشعوره دون عناء فكنا شهودا على ما يعتمل في نفسكم من أحاسيس ومشاعر.
عمد شاعرنا لاستخدام تلك الصور البكر التي تبرهن على تمكنه من أدوات الشعر الجيد كما في قوله:
(وما زلت تتقاطرين على طرق اللااندماج
لذلك تعد" الصورة الجيدة وسيلة للتعبير عن الشعور أو الفكرة في أبسط معانيها، ولا يمكن الفصل بين الشعور والفكرة في تشكيل الصورة الشعرية، ولكن هذه الصورة لا تتشكّل بصورة مباشرة أو حرفيّة، بل إن الشاعر فيها لا يرتبط بنسق الأشياء كما هي في الحياة، بل يلجأ إلى اللاوعي، يستمدّ منها الرموز المتباعدة في الزمان والمكان؛ ليعبّر عن فكرة أو شعور أو رؤية أو تجربة مرَّ بها في قصيدته، فالقصيدة تتشكل من مجموعة من الصور التي قد لا ترتبط ببعضها في الواقع، ولكن الشاعر بخياله الابتكاري يستطيع الربط بينها، لإقناع المتلقي بأسلوب فني إبداعي بلاغي يؤثر في نفسه، ويثير عاطفته وفكره، ويحفزه على الفَهم والتفسير للنصّ الشعري".
لذا؛ فلغة الشعر لغة خاصة تختلف عما سواها، ويجوز فيها ما لا يجوز في غيرها "وسليقة اللغة الشاعرة هي التي تجعل السامع العربي يفهم المعنى المقصود على الأثر إذا سمع واصفًا يصف حسناء بأنها بدر على غصن فوق كثيب؛ لأن ذهن السامع العربي تعود النفاذ في الصورة الحسية إلى دلالتها النفسية، فهو لا يرسم في ذهنه قمرًا وغصن شجرة وكومة من الرمل حين يستمع تلك العبارة، ولكنه يفهم من البدر إشراق الوجه ومن الغصن نضرة الشباب ولين الأعطاف، ومن الكثيب فراهة الجسم، ودلالتها على الصحة وتناسب الأعضاء".
وإن سهولة استخلاص المجاز الشعري من الألفاظ المحسوسة لهي السليقة الشاعرة، التي يحار أمامها أبناء اللغات المحرومة من هذه المزية، فيختلط الأمر على نقادهم، ويحارون كيف يوفقون بين الصور التي تنقلها إليهم الألفاظ المسموعة؟ وتبقى في أذهانهم وأخيلتهم لاصقة بأجسامها المنظورة أو الملموسة بلا فكاك من قيود المعجمات.