تعالوا نناقش الخطأ القاتل لكل من حكم مصر الحديثة.. فالتاريخ يشير إلى أن أغلب حكام مصر إنشغلوا بترتيب الحكم فيما بعد رحيلهم.. ويؤكد التاريخ أن كل من انشغل بالتوريث فى الحكم.. وقف له الشعب والقدر وترتيباته نفسها بالمرصاد.. نبدأ من "محمد على" الذى رتب الأمور وهندس نظام الحكم لصالح ابنه "إبراهيم باشا" فجعل حكم البلاد لأكبر أبناء أسرته.. شاء القدر أن يموت "إبراهيم باشا" قبل أن يموت الأب, الذى عاد للحكم مريضا.. فاقدا للذاكرة.. مذهولا.. فقد سمح بما فعل لأن يحكم مصر "عباس الأول" باعتباره الأكبر سنا.. وكان غبيا حسب اتفاق المؤرخين.. جاهلا.. يكره التعليم والثقافة.. يحتقر الأمة ويتجنبها.. يتعمد أن يبتعد عن الناس بالحياة فى قصور خارج العاصمة.. كانت أهم إنجازاته أنه هدم ما أنفق "محمد على" عمره فى بنائه, وأهمها المدارس والجيش القوى والعلماء الذين حملوا مشاعل التنوير.. كان يتقدمهم "رفاعة الطهطاوى" الذى نفاه "عباس باشا" إلى السودان ومعه نفر من علماء مصر.. كان أبرزهم "محمد بيومى" أبو الهندسة الحديثة الذى مات كمدا وحزنا فى "الخرطوم"!!
رحل "عباس الأول" مقتولا فى قصره بمدينة "بنها" ليحكم "سعيد باشا" مستفيدا من قاعدة الأكبر فى أسرة "محمد على" فلم ينجز أكثر من توقيع امتياز حفر "قناة السويس" والعفو عن الذين اضطهدهم سلفه.. وعندما جاء "اسماعيل" سعى إلى هندسة نظام الحكم بعد رحيله, فتودد للدولة العثمانية.. قدم للسلطان الرشاوى ليفوز بما يريد.. حصل على رتبة "الخديوى" وجعل نظام الحكم لأكبر أبنائه ليحرم شقيقه الأمير "عبد الحليم" وكان أصغر أبناء "محمد على" من الحكم.. وأبعده عن مصر ليعيش منفيا فى تركيا.. شاءت الأقدار أن يتآمر ابنه "توفيق" عليه, بعد أن رتب الأمور لكى يخلفه بعد وفاته.. لكن الابن لم ينتظر إرادة الله, فانحاز إلى الأطراف التى سعت لخلعه من الحكم – تركيا وبريطانيا – وتمسك الخديوى "توفيق" أن يبقى أبوه بعيدا عن مصر رغم أن الأمور استتبت له باحتلال مصر عام 1882.
بعد الخديوى "توفيق" تولى الحكم "عباس حلمى الثانى" وكان شابا مستنير, يميل إلى الاقتراب من الشعب وتقريب المثقفين إليه.. إلتفت النخبة حوله وكان أبرزهم الزعيم الشاب "مصطفى كامل" وكذلك الشيخ "محمد عبده" ولنا أن نعلم عنه أن أمير الشعراء "أحمد شوقى" كان رئيس ديوانه فى القصر.. وذلك يكفى لكى نفهم سر الحب الذى تمتع به بين العامة والنخبة, وتقديرهما له.. أقلق ذلك سلطة الاحتلال.. كما قلقت "الآستانة" لأنه بدأ عهده رافضا للفساد!! لم تعدم سلطتى الاحتلال – الانجليزى والعثمانى – حيلة ولا وسيلة.. فتحوا أمامه أبواب خزائن المال وأحاطوه برجال يسهلون له الاعتداء على أموال وثروات الأوقاف.. وكان ذلك كفيلا بأن يصطدم بالشيخ "محمد عبده" وأن يبتعد عنه "مصطفى كامل" ثم يناصبه "محمد فريد" العداء.. وتم إفساد النخبة المحيطة به, وكان الشيخ "على يوسف" صاحب ورئيس تحرير "المؤيد" أبرزهم.. تركه "أحمد شوقى" أو ابتعد شيئا فشيئا ليتجنب أن يتورط فى فساد "الخديوى عباس" بعد أن أصابه مرض "الشراهة" للمال, وراهن على سلطة الباب العالى فى "الآستانة" لأن الانجليز كانوا يحيطون كل من يغضب عليه "الخديوى" بالرعاية.. أصبح بعدها بعيدا جدا عن الشعب, ومرفوضا من العامة والنخبة.. ثم بدأت خطة خلعه من الحكم, وكانت الحرب العالمية الأولى سببا فى الإسراع بتنفيذها.. وحدث ذلك فعلا ليحدث فراغ فى السلطة.. تولى "حسين رشدى" رئيس الوزراء المسئولية خلال فترة انتقالية.. ولأن الانجليز فرضوا الانتداب على مصر, وقطعوا يد الدولة العثمانية عن حكم مصر ليحكموا قبضتهم مباشرة عليها.. نصبوا الأمير "حسين" حاكما بمسمى "السلطان حسين" وكانت فترة حكمه استثنائية.. كذلك رحيله كان مفاجئا لإصابته بمرض عضال.. وقبل رحيله بأيام تم استدعاء ابنه "منصور" ليخلف والده بعد رحيله.. حدثت المفاجأة المذهلة.. رفض ابن السلطان أن يكون حاكما وسلطانا, وكتب رسالة رسمية يعتذر فيها عن هذه المسئولية فى ذاك الوقت.. إضافة إلى رغبته فى أن يعيش مواطنا بين المصريين يتمتع بحبهم وتقديرهم, وذلك أفضل عنده – حسب رسالته – من كرسى الحكم!! ويرجع السر فى ذلك إلى قربه من الأميرة "خوشيار" أم الخديوى "إسماعيل" التى كان يحبها الشعب لرعايتها للفقراء واحتضانها لأسر الوطنيين.. وذلك كشفه "أحمد عرابى" فى مذكراته.. وكانت الأميرة "خوشيار" ومعها عدد من الأميرات يدعمن "عرابى" بل أن إحداهن كتبت له رسالة تطلب الزواج منه.. ثم كانت هزيمته التى جعلتهن يحزنن بشدة, وذلك تناوله عدد من المؤرخين بتفاصيل تؤكد أنه كان بين الأمراء والأميرات من ارتبطوا بمصر إلى أقصى حد.
حكم "فؤاد" مصر لفترة بمسمى "السلطان" ثم أصبح "ملكا" بعد صدور تصريح 28 فبراير عام 1922.. وبصدور دستور 1923 تم ترتيب الحكم ليكون للملك "فؤاد" ثم لأكبر أبنائه.. حدث ذلك, وحكم "فاروق" قبل أن يبلغ 17 عاما بعد فترة انتقالية بسيطة, تولاها مجلس وصاية.. ثم تدخل شيوخ الأزهر وأفتوا بحساب عمر "فاروق" بالتقويم الهجرى ليتمكن من الجلوس على العرش.. وتولى السلطة بعد توقيع معاهدة 1936, واستقبله الشعب والساسة والنخبة بترحاب وأمل كبيرين.. راهن الكثيرون عليه.. لكن رعونته جعلته يصطدم بالوفد وزعيمه "مصطفى النحاس" وحاول أن يدس أنفه بين الأحزاب, ويعقد تحالفات مؤقتة مع بعضها استثمارا لصراعها على الحكم.. تقربت منه جماعة "الإخوان" بتحريض من الانجليز وترتيبهم.. لكن رهانه عليهم فشل فاتجه إلى حزب "الهيئة السعدية" برجاله الأقوياء, وكان أبرزهم "أحمد ماهر" و"محمود فهمى النقراشى" وكليهما كان يكرهه الانجليز باعتبارهما كانا متهمين فى قضية اغتيال السير "لى ستاك".. ولأن حزب "الأحرار الدستوريين" لم تكن له شعبية كبيرة كما "الوفد" تدخل الانجليز وفرضوا "الوفد" وزعيمه "مصطفى النحاس" على الملك بقوة الدبابة والمدفع يوم 4 فبراير عام 1942.. ليصاب الملك "فاروق" بجرح غائر فى كرامته, وتصاب شرعيته بشرخ واضح.. ودارت الأحداث عاصفة.. فالانجليز قاموا بتصفية "أحمد ماهر" وهو رئيس وزراء مصر عام 1945 داخل البرلمان بسلاح "الإخوان" ونجحوا فى تصفية "محمود فهمى النقراشى" عام 1948 بالسلاح نفسه – الإخوان – ثأرا للسير "لى ستاك" وحدثت حرب فلسطين وقامت دولة إسرائيل.. وغرق الملك "فاروق" فى الفساد الذى تمكن من القصر والساسة والنخبة.
فجر يوم 23 يوليو عام 1952 كانت مصر على موعد مع نظام حكم جديد.. إستمر ملكيا لعدة أشهر.. ثم كان إعلان الجمهورية وأصبح "محمد نجيب" أول رئيس للجمهورية.. ولأنه كان مهزوزا – إقرأ مذكراته لتتأكد – تم تجميده حتى انتخاب "جمال عبد الناصر" ليصبح أول رئيس لمصر بإرادة شعبية وانتخابات علنية وواضحة شارك فيها الشعب.. وكان "عبد الناصر" حاكما لم تشغله قضية من يحكم مصر بعده, فرحل وبقى اسمه زعيما تاريخيا وعنوانا بارزا فى تاريخ مصر.. وبرحيله يوم 28 سبتمبر 1970, اتفق رجاله وشركاؤه فى الحكم على أن يتولى نائبه "أنور السادات" القيادة بعده.. تخلص "أنور السادات" من أقرانه فى الحكم بعد صراع صامت على السلطة, وتم إعلان ذلك يوم 15 مايو 1971 وأطلق عليها "أنور السادات" وصف "ثورة التصحيح" وقبل رحيله بعام قرر تعديل الدستور ليتمكن من الاستمرار فى الحكم, وكان مطمئنا لنائبه "حسنى مبارك" الذى استمر إلى جواره ست سنوات حتى لحظة اغتياله يوم 6 اكتوبر عام 1981 بسلاح واحدة من الجماعات "المفقوسة" عن جماعة "الإخوان" ويلزم التنويه أن "أنور السادات" الذى أخذ البلاد للطريق العكسى لحكم "عبد الناصر" كان أحد المتهمين فى قضية اغتيال "أمين عثمان" أحد رجال الانجليز فى مصر!!
حكم "حسنى مبارك" لمدة 30 عاما وشغلته قضية توريث الحكم لابنه "جمال" وغادر كرسى الرئاسة مخلوعا بفعل ثورة "25 يناير" ثم تولى الرئاسة "محمد مرسى" كواحد من قادة جماعة "الإخوان" فى ظروف عصيبة.. وعجز عن إدارة شئون البلاد وكاد يغرقها فى حرب أهلية.. ثار عليه الشعب يوم 30 يونيو عام 2013.. ليتولى المستشار "عدلى منصور" رئيس المحكمة الدستورية العليا حكم البلاد لمدة عام خلال فترة انتقالية.. إنتخب بعدها الشعب الرئيس "عبد الفتاح السيسى" رئيسا للبلاد بأغلبية كاسحة.. إنتهت فترة حكمه الأولى – 4 سنوات – وأعيد انتخابه لفترة ثانية, شهدت تعديل الدستور لتصبح فترة حكم الرئيس ست سنوات.. بذلك تم مد فترة رئاسته الثانية, واستثناؤه "دستوريا" ليتمكن من فترة ثالثة.
التاريخ يؤكد أن كل حاكم شغل نفسه بمن يحكم بعده, دفع ثمنا فادحا.. وكل من راهن على الشعب فاز بتقديره.. وكل من سقط فى بئر الفساد, غادر كرسى الحكم مشوها ومنبوذا وملعونا.. لكنهم جميعا تعرضوا لخصم من رصيدهم بسبب "البطانة" التى تحيط بهم!! ولأن "البطانة" يطول عمرها بصناعة الفساد وتزيين الاستبداد.. يجب أن نتوقف أمام تعريف "عبد الرحمن الكواكبى" للمستبد.. كما كان يرى حتى مطلع القرن العشرين.. سنجده يقول عنه: "هو عدو الحق.. عدو الحرية وقاتلها.. يود أن تكون رعيته بقرا تحلب, وكلابا تتذلل وتتملق.. وعلى الرعية أن تدرك ذلك فتعرف مقامها منه.. هل خلقت خادمة له.. أم هى جاءت به ليخدمها فاستخدمها.! والرعية العاقلة مستعدة أن تقف فى وجه الظالم المستبد.. تقول له.. لا نريد الشر.. ثم هى مستعدة لأن تتبع القول بالعمل.. فإن الظالم إذا رأى المظلوم قويا, لا يجروء على ظلمه" وتلك الكلمات دفع ثمنها "عبد الرحمن الكواكبى" عمره مسموما.. لكن قاتله وهو السلطان "عبد الحميد" مات معزولا.. مسجونا.. ذليلا!!
نصر القفاص