يُخطئ من يظن أن إعطاء أولوية مطلقة لمحاربة الإرهاب، وترك إمبراطوريات البلطجة والجريمة المنظمة تتوحش وترعي كالنار السائمة في ربوع الوطن، بدءًا من الشارع والمواصلات ومرورًا بالتعدي على الممتلكات والأرواح، وترويع المواطنين، وليس انتهاءً بطوفان من القضايا والمظلوميات التي صدرت لها أحكام قضائية باتة، بعد سنوات من العذاب في المحاكم، ولم يتم تنفيذ أحكام القضاء، إمَّا لتقاعس الجهات المنوط بها تنفيذ هذه الأحكام، أو لترويع صاحب الحق في نفسه وأولاده من خلال البلطجة العلنية، يخطئ من يعتقد أن ذلك قد يضمن استقرارًا مرجواً للدولة، إذ لا استقرار مع فقدان المواطن ثقته في هيبة القانون، وحضور الدولة الضامن في حياته.
البلطجة بكل أسف وحزن أصبحت بدون مبالغة دولة موازية لمؤسسات الدولة، وكيانًا شيطانيًا متغلغلًا في مدننا وشوارعنا، يغتال بشكل منظم أمان المواطن ويضرب في مقتل بداخله فكرة الوطن والانتماء، فأي انتماء لمواطن ينهزم يوميا أمام إرهاب البلطجة وتوحش الجريمة.
وصلت قمة المأساة أن يلهث المواطنون وراء رئيس وزراء مصر وأعلى سلطة تنفيذية في البلاد في زياراته الميدانية، مستحلفين إياه بأولاده أن يرحمهم من الحُكام الحقيقيين لحياته من البلطجية وفارضي الإتاوات. مُواطن آخر ذهب ليبدأ البناء على قطعة أرض يمتلكها فوجدها محتلة بغرباء يدعون منازعته في ملكيتها، وطالبين منه أن يعيد شرائها منهم من جديد إن أراد استردادها، فيهُم المواطن المسكين مستنجدًا بالشرطة التي لم تفعل أكثر من تحرير محضر بالواقعة، وبعد تحويله إلى النيابة وفي طريق خروجه، نُصح المواطن باللجوء إلى بلطجية آخرين لاسترداد حقه المسلوب، ليصبح الوطن غابة البقاء فيها للأكثر بلطجة وتبجحًا على القانون النائم.
من يظن أن الإرهاب هو الخطر الوحيد والتحدي الداهم الذي يواجه الأمة المصرية واهم، الإرهاب بالطبع خطر وداهم، ويستوجب حشد قوى الأمة لمواجهته أمنيًا وفكريًا، كخطر وجودي يهدد مصر في أعز ما تملك، وهو وجودها نفسه، لكن على الجانب الآخر فإن غياب هيبة القانون واحترام أحكام القضاء في فض المنازعات، وسيادة مفاهيم استمراء التعدي والترويع للغير، واستسهال احتلال الشوارع والكباري والميادين، وفرض مناطق نفوذ، كل ذلك يجعل رصيد الدولة وحُجيتها يتآكلان في الوعي الجمعي لملايين المصريين، علاوة على أنه يرسل الرسالة الخطأ لشباب يستهل حياته، ونطلب منه أنه يقسم يمين الولاء لوطن يحتويه ويؤمنه على حياته وأولاده وممتلكاته، فإذا به يجد هذا الوطن مستباحًا من عصابات الجريمة المنظمة، ومافيا البلطجة في كل شارع وميدان، في المدن والأحياء الشعبية التي وصل الأمر بها إلى أن أصبح بعضها محكومًا بالكامل بأمراء البلطجة الذين يقررون من يعيش ومن يخرج طريدا أو يشرد.
الكارثة التي نخشاها ستكون في اليوم الذي يتحالف فيه الإرهاب مع البلطجة، بعدما يتمكن الإرهاب من فك شفرة البلطجي وحينها تلتقي المصالح ويحدث الاختراق النوعي الذي يمهد للانهيار الكبير، ولمَن لا يجيدون قراءة ذهنية العقل الإرهابي، فإن معظم قادة الإرهاب في العراق والشام وسيناء كانوا دوما هم عتاة المجرمين ومهربى المخدرات وبعضهم كانوا من عملاء أجهزة الشرطة السابقين، قبل أن يتدثروا بالأيديولوجية الدينية والفكر الجهادي، الذي منحهم فوق إجرامهم غِطاءً دينيًا براقًا في نظر أتباعهم "كمجاهدين"، بينما الأصل واحد، وهو التجرؤ على هيبة القانون وحُرمات وأعراض وممتلكات الناس، سواء كان ذلك تحت ستار التعدي والبلطجة، أو تحت ستار الدين والتجارة به في سوق الجهاد الزائف.
أعيدوا لجهازنا الشرطي هيبته بالقانون ليكون أداة الردع الحقيقية للمواطن، وامنحوه الفرصة للمراجعة والفرز والاستبعاد، وامنحوه أكثر الإمكانيات التي تساعده على إعادة الحق إلى أصحابه وبسط سلطان القانون، من غير المعقول في زمن التكنولوجيا أن يستطيع المواطن تتبع سيارته المسروقة، ولا تستطيع الشرطة لعجز في الإمكانيات أو للبيروقراطية والتلكؤ.
من غير المعقول أن تمتلك شرطة دولة إفريقية أسطولا من طائرات الشرطة الهجومية ووسائل التسليح والاتصالات وتتفوق عُدة وعتادا، بينما الإجرام في مصر توحش وأصبح يسبق الشرطة بخطوات تجهيزًا وتكنولوجيا. من غير المعقول أن يردد أحدهم أن الحكومة غير قادرة على اقتحام بعض البؤر الإجرامية المعروفة في بحيرة المنزلة ومحافظة القليوبية وصحراء الشرقية والإسماعيلية وظهير بعض محافظات الصعيد، لعجز في الإمكانيات. لسنا بحاجة إلى التذكير بأن دعم آليات الردع، سيوفر دماء الشهداء في أي مواجهة مع الخارجين عن القانون ويحفظ أرواح المواطنين.
أقيموا العدل بين الناس وأمنوهم في أنفسهم وأموالهم وأعراضهم، حتى يستقيم البناء، اضربوا التجاوز والتجرؤ على القانون في كل موضع، وستكتسبون احترام وولاء المواطن، أعيدوا لأحكام القضاء حُجيتها وقوتها ببسط سلطانها في الواقع، قبل أن يفقد المواطن الثقة في جهازه العدلي، ويكسب الإرهاب أرضًا وأتباعًا جُدد من المحبطين واليائسين. لا نريد أن نصل إلى يوم لا نرجوه، يكون شعاره إخرجوا منها غير آمنين، أو عيشوا فيها مهددين مُروعيين، إنها مصر الوطن وليست تكريت أو الرمادي أو الرقة، لا كتب الله ولا قدر.
لقد هبطنا مصر وكان لنا ما سألنا، وهو الأمن والأمان، فكانت وطنًا أعز علينا من أرواحنا، عشنا فيه وسنبقى بإذن الله آمنين.