الشهر الماضي أكملت خمسين سنة في المهجر، فقد وصلت نيويورك في نهاية يناير 1970
نصف قرن هجرة أمرٌ يستدعي أن اتحدث عن هذه التجربة الطويلة، رحلة مشيناها ونمشيها، دروس تعلمناها، وضرائب نفسية دفعناها، ولكل مهاجر تجربته الخاصة بالطبع ولكن هناك قواسم مشتركة كثيرة، ولعل حديث الخمسين سنة هجرة حديث طويل يستحق أن اكتب فيه كثيراً، بل يستحق أن اتحدث فيه في برامج تلفزيونية وعلي اليوتيوب كما حدث في لقائي في برنامج "في الغويط" مع الصديق أيمن عجمي منذ أيام ويوجد الآن علي اليوتيوب، رغم أن اللقاء إنحرف عن تجربة الهجرة واستغرقنا الحديث عن عبد الناصر بدلا من ذلك.
وفي رحلة الذاكرة أستعيد رحلة سبقت الهجرة، ففي 1969 سافرت من القاهرة إلي بيروت لمقابلة خطيبتي سعاد حيث كانت تعد رسالة الماجستير في الجامعة الأمريكية هناك، وقضينا أياماً من السعادة الخالصة معا ومع قريبتيها سلوي وجيسي، جلسنا علي قهاوي شارع الحمرا الشهير في بيروت، وركبنا التلفريك في جبل لبنان، وزرنا زحلة وأكلت ألذ سندويتش لبنة طازجة، وزرنا بعلبك، وزرت الشاعر الكبير أدونيس في مكتب مجلة مواقف الرائدة التي كان يصدرها وقتها، وزرت الراحل الكبير د. سهيل أدريس في مكتب مجلة الآداب، وكانت أهم مجلة أدبية في العالم العربي، ونشرت المجلتان أشعاري ومقالاتي في تلك الفترة ولم أكن قد تجاوزت الخامسة والعشرين.
ثم سافرت مع خطيبتي سعاد بالسيارة من بيروت، مروراً بدمشق، إلي عمان لمقابلة عائلتها هناك، وكادت الخطبة أن تفشل عندما قلت كلمة بها بعض النقد لعبد الناصر أنه مسؤول عن هزيمة 67 قبل عامين، فانقلب الحاضرون ضدي وأبدوا امتعاضهم الشديد فقد كان عبد الناصر محبوباً في البلاد العربية بنفس درجة شعبيته في مصر بل أكثر، ولولا أنني قلت انني أيضاً أحب عبد الناصر ولكن لابد من تقييم موضوعي للمرحلة حتي نعي دروسها ونتجنب اخطائها، فعرفوا أن عقلي أكبر من سني الصغيرة وقتها :) رغم أن سعاد وأنا كنا قد اعلنا للجميع أن هذا قرارنا وحدناً وأننا لن نتزوج زواجاً تقليدياً ولن نتبع كافة مراسيم الخطبة التقليدية بين العائلتين، فكان هذا مروقاً إجتماعياً ربما غير مسبوق في تلك الأيام.
وما أدراك كم كانت بيروت جميلة وبديعة في ذلك الوقت، فرغم أن القاهرة كانت دائماً عاصمة الثقافة والفن والأدب العربي، فقد كانت بيروت هي عاصمة الإبداع والتفتح الإجتماعي والحضاري، فهي نبع العطاء الرحباني الفيروزي الهائل في الموسيقي والغناء، والتجديد في الشعر بظهور مجلة شعر ثم مجلة مواقف، بجانب مجلة الآداب، وكانت هذه محافل شاهقة للإبداع الشعري والتحرر الفكري الذي كان إمتداداً للروح الثائرة لدي جبران خليل جبران، شاعر لبنان الأشهر، والذي هاجر إلي نيويورك هو الآخر ولكن من حوالي قرن مضي، وكنت قد اخترت نيويورك مدينة لهجرتي لكي أعرف أكثر عن جبران الذي عاش ومات فيها ثم دفن في وطنه الأصلي لبنان، وكانت أول زيارة لي في نيويورك هي للشارع الثامن في الفيلاج والتي كان بها عنوان بيت جبران في حياته، ووقفت أمام البيت وكأنني أقوم بشعائر الحج الفكري والأدبي لبيت من بيوت الأدب الراقي والروح الإنسانية المتحررة.
في عام سبعين وصلت إلي نيويورك مهاجراً، وبعدها بسنة وصلت سعاد بعد أن عقدنا زواجنا في القاهرة، وكان حفل القران أيضاً غير تقليدي، كان في كنيسة المرعشلي بالزمالك، وطبعاً قام والدي القمص بولس باسيلي بالصلاة ومعه عدد من المطارنة، وكان المعتاد في ذلك الوقت توزيع علب "ملبس" علي الحاضرين، ولكننا رغبة في عدم إتباع التقاليد فكرنا في فكرة جديدة تبعها آخرون بعدنا، وهي أن نوزع أناجيل صغيرة الحجب عليها صورة العروسين، فقال لنا الكثيرون أنها أجمل هدية لأن الملبس سيؤكل وينتهي أمره، أما الإنجيل فسيحتفظ به الناس في بيوتهم فينتفعون به ويذكرون العرس والعروسين بالخير.
الإنتخابات الأمريكية
عندما وصلت إلي أمريكا عام 1970 كان نيكسون هو الرئيس وكانت حرب فيتنام في أوجها تمزق المجتمع وتشعل غضب الشباب، وبعد أشهر قليلا وجدت نفسي أتابع بدهشة عملية إدانة ومحاكمة الرئيس نيكسون بسبب حادثة الووترجيت، والتي انتهت بتقديمه الإستقالة، وكان قبلها قد زار مصر محاولاً الهروب من الجو السياسي المعادي له في واشنطون، لن مصر استقبلته إستقبالاً بارداً، رغم حفاوة السادات به، فقد انتشرت وقتها في مصر قصيدة لأحمد فؤاد نجم يهاجم فيها نكسون قائلاً..
شرفت يا نيكسون بابا
يا بتاع الووتر جيت
عملولك قيمه وسيما
سلاطين الفول والزيت
فرشولك أوسع سكه
من راس التين على مكه
وهناك تنزل على عكا
ويقولوا عليك حجيت
ما هو مولد ساير داير
شي الله يا صحاب البيت
****
ثم حضرت بعد سنوات عملية محاكمة الرئيس كلنتون لفضيحة جنسية حاول انكارها فكذب ولكن المحاكمة لم تنته بعزله، وهو ما حدث أيضاً منذ اسابيع للرئيس ترامب، وإيضاً لم تنته بعزله، ففي الحالتين وقف أعضاء كل حزب مع الرئيس، وهكذا أكون قد حضرت قيام الكنغرس بإدانة الرئيس - وتسمي إمبيتشمينت - ثلاث مرات خلال الخمسين سنة، ويدفعني هذا إلي تأمل النظام السياسي والإنتخابي الأمريكي، خاصة ونحن نعيش الآن ولنهاية العام العملية الإنتخابية الطاحنة.
الواضح أن عملية إنتخاب الرئيس الأمريكي هي الأعقد والأطول في العالم، فهي تستمر حوالي سنتين، في ماراثون هائل يضطر فيه المرشح لزيارة كل ولايات ومدن أمريكا إذا أراد أن يزداد حظه، وفي الواقع هي طريقة قديمة وخارجة عن العصر وكأن العالم لم يعرف التلفزيون والميديا بعد، ولا توجد دولة غربية أخري لها عملية إنتخابية بهذا الطول والتعقيد والجهد.
ورغم أن الديمقراطية هي أفضل نظام سياسي في التاريخ، ورغم أن الجمهورية الأمريكية هي أقدم جمهورية مستمرة تحكم اليوم بلا إنقطاع، فإن للعملية الإنتخابية الأمريكية الأضرار التالية..
-1- أنها طويلة جداً تستغرق عامين بينما فترة الرئاسة أربع سنوات، أي بعد سنتين في الحكم يبدأ كل رئيس حملته لتجديد إنتخابه، وهذا الطول الرهيب يستهلك قدراً ضخما من الجهد والمال والوقت من الجميع ومن الأمريكان بشكل عام.
-2- لطول الفترة الإنتخابية والسفر الدائم للمرشح علي مدي سنتين ليقابل المصوتين في مدنهم وقراهم لا يقدر علي هذا الجهد سوي من لديهم قوة جسدية ومعنوية هائلة لا يحتاجها دورهم السياسي الذي يتطلب قدرة عقلية وليس جسدية هرقلية، بالتالي لا يدخل المعترك السياسي من لديهم الكفاءة العقلية والأخلاقية ولكن يدخله الأقوياء المصارعون وكأننا في حلبة مصارعة أو في مشهد من مشاهد صراع العبيد في الإمبراطورية الرومانية.
-3- العملية الإنتخابية تتكلف مبالغ هائلة من الأموال، فيضطر كل مرشح أن يلجأ إما إلي ملايين المتحمسين له للتبرع، أو الإعتماد علي عدد من الممولين الأثرياء يدفعون لتمويل حملاته الإنتخابية المكلفة جداً، أو الطريقتين معاً، وبالتالي يصبح المرشح حين يفوز مضطراً إلي رد الجميل لمن دفع له من الأغنياء، بأن يشغل اقربائهم في مناصب مثل سفير أو وزير أو غفير.
هذا الدور الخطير الذي يلعبه المال في الانتخابات يضر بالديمقراطية أبلغ الضرر ويجعل الطاقم السياسي كله في جيب من دفعوا لهم.
من فساد أدوات العملية الانتخابية في أمريكا هو الدور الكبير للمال، ولكن وجود حزبين متنافسين يخفف من تأثير المال لأنه ينطبق علي الجانبين، وإيضاً وجود الحزبين يقلل جداً من طغيان الفساد لأن الحزب المعارض يقف بالمرصاد ويفضح ويعاقب الفاسد، وهذا ما مكن النظام الديمقراطي الأمريكي علي عيوبه من ألإستمرار وتحقيق الإزدهار.
ولهذا أعتقد أنه في غياب حزبين لهما قوة متساوية تقريباً لن تحدث ديمقراطية سليمة في مصر ولا أي بلد في المنطقة.
القضية خاصة في بلد حرياته الفردية والإجتماعية واسعة كأمريكا معقدة، فرغم تأثير المال فهو يؤثر بدرجة تكاد تكون متساوية بين الحزبين الكبيرين، ولذلك تدخل في الأمر عوامل أخري، مثل مدي تلبية المرشح لتوقعات ورغبات المواطنين كما يرونها، وكما ينجح في تسويق نفسه علي أنه من سيحققها.
كما بدأ يظهر عامل آخر هو تأثير السوشيال ميديا خاصة وهي لا تمنع الإعلانات الكاذبة بعكس التلفزيون الذي يمنعها، وهذا العامل يهدد بأن يكون ضالعاً هذا العام أيضاً وقد يؤدي إلي تخريب العملية الإنتخابية الأمريكية بشكل غير مسبوق في تاريخها.
سيظل البشر يبحثون عن النظام السياسي الأفضل لتحقيق المجتمع الأفضل، ولعل هذا هو السباق الأهم بجوار السباق العلمي الذي يقود العالم إلي عصور وإنجازات لم يكن يحلم بها من البشر سوي الشعراء، الذين أنا واحد منهم.