إدوارد فيلبس جرجس يكتب: امرأة تحت سيف الأقدار (الحلقة الخامسة)

إدوارد فيلبس جرجس يكتب: امرأة تحت سيف الأقدار (الحلقة الخامسة)
إدوارد فيلبس جرجس يكتب: امرأة تحت سيف الأقدار (الحلقة الخامسة)

       يومان آخران وسليم يجتر الصبر أملا في ظهور ناديه ،  خرجت ولم تعد .. خرجت من الشارع الضيق لتبدأ حياة رحبة في مكان جديد ، لا تُحصى فيه خطواتها ويجهل نشأتها . تشعُر بالمهانة والعيون الوقحة تنزع عنها ثيابها قطعة تلو الأخرى ،  ينتابها إحساس بأنها تعرت وانكشفت كنوزها ، ولولا بعض من صلابة غرستها بيدها ، لتعثرت خطواتها وانكفأت على وجهها وهي تقطع الشارع بين صفين من النظرات الفاجرة . ذات يوم نفذت إلى أذنها كلمات عطوه الجزار ، ألقاها خلفها بصوته الأخنف قائلا .. "اكفي القدرة على فمها تطلع البنت لأمها" ، لم تأبه له ، بصقت عليه في داخلها . في اليوم الأخير لها في الشارع الضيق قبل أن تنتقل إلى القصر الجديد ، فكرت أن تلقي بجميع أحذيتها أمامهم وتصرخ .. اقتسموها فيما بينكم وليحتضن كل واحد منكم نصيبه عندما يذهب إلى الفراش ويقضي وطره معها  ، من المؤكد أنها ستثير النشوة داخلكم أكثر من معاشرتكم لنسائكم . يتقولون بأن ثروتهم ثمناً لشرف أمها .. ما ذنبها هي .. المسئول هو أبوها ، هانت عليه رأسه فألقاها في الوحل .. هي مثلهم لم تر شيئا ، لم تسمع سوى الإشاعات التي يرددها أهل الشارع .. ليذهب الجميع للجحيم . ستتحرر من كل هذا وتعيش لنفسها بعد أن تقفز قفزتها .. اختارت الالتحاق بمعهد السينما .. الدراسة ووجه جميل وقوام يتأوه وموهبة هدية من القدر ، سيحققون لها طموحاتها في الوصول للنجومية من أقرب طريق . خطوتها كممثلة إعلانات ليست سوى للإعلان عن نفسها .. يجب أن تبدأ من السماء وتستمر في الصعود إلى ما شاء الله .

 انتبهت ناديه من أحلامها على صوت زميل الدراسة ، يناديها كالعادة لينال شرف توصيلها إلى أي مكان تريد الذهاب إليه ، تملكته الدهشة وهي تفتح باب السيارة مستجيبة لندائه لأول مرة ، الخوف كان يدفعها في السابق من أن يعرف أنها تسكن هذا الشارع الضيق ، علاوة على ما يمكن أن يحدث من أقاويل عندما يشاهدون هذه السيارة الفارهة وهي تجلس بجانب هذا الشاب الوسيم .  لن تحتاج إلى الركوب بجانبه مرة أخرى ، كلها أيام وتبتاع لها سيارة جديدة وعدتها بها أمها عند انتقالهم للسكنى في القصر الفاخر . من خلال الزجاج المغلق للسيارة المكيفة لمحت سليم ، يختبىء خلف أحد الأشجار داخل معهد السينما ، انتابه إحباط كاد أن يفقده توازنه ، انتظرها لفترة طويلة ، رآها قادمة ، غزا الارتباك كل أجزاء جسده ، استجمع قواه وأراد القفز ليعترض طريقها ، يدها سبقته إلى مقبض باب سيارة زميلها . احتجب ثانية خلف الشجرة وهبط قلبه إلى قدميه ، انطرح ظلام الليل ليقتل شمس الظهيرة ، انتابه شعور بأن يلقي بنفسه أسفل عجلات السيارة ،  لم يطاوعه يأسه ، ليس رغبة في الحياة لكنه الخوف من الموت منتحراً، لم يدر أن ناديه لمحته من طرف عينها وابتسمت .

عاد سليم إلى مقعده أمام الدكان ، يلعق هزيمة في مرارة العلقم ،  أحس بكعب حذائها الرفيع يخترق قلبه ويمزق كل شرايينه ،  تجمعت في نظرته كل ألام الشهداء ، لم يفت هذا فاضل الحلاق بعد أن قَّرب بينهما السر المشترك . فطن أن الأمر يتعلق بعشقه ، صديقه سليم يبدو كمن اخترقت رأسه رصاصة ، لم ترديه قتيلا لكن تركته يعاني سكرات الموت ، عبر فاضل الشارع ووقف أمامه وابتسم قائلا :

_هل تشعر بالحاجة لي أم أعود إلى دكاني ؟

 أشار له سليم بالجلوس .

قال فاضل وهو يربت فوق ركبته مهوناً :

_ أتيت يدفعني الخوف عليك وليس الفضول ، أشاهد ملامحك تذرف الدموع .

قال سليم بصوت منكسر :

_ دموع ملامحي أهون بكثير من دماء داخلي .

_ الحياة غير موقوفة على ناديه .. هل رأيتها؟

هز سليم رأسه بالإيجاب .

سأل فاضل :

_ هل مَزقت حبك وألقت به أسفل قدميها ؟ 

أجاب سليم بصوت الدفاع :

_ مزقتهُ دون أن تدري .

_ كيف !!

أجاب سليم بكلمات مهزومة :

_ في اللحظة التي واتتني الجرأة للقفز أمامها ، دلفت داخل سيارة زميل لها في المعهد .

سأل فاضل مندهشاً :

_ هل هذا كل ما حدث ؟ 

أجاب سليم ممتعضاً :

_ وماذا تريد أكثر من هذا ؟!

_ ألم تكن طالباً بالجامعة يا رجل ؟ ألم تشاهد زميلة تركب سيارة زميل دون أن تربطهما علاقة سوى الزمالة.

_ وما أدراني أنها مجرد زمالة!!

قال فاضل مشجعاً :

_ هذا ما ستعرفه بنفسك ..لا بد من تكرار المحاولة والتحدث معها فور رؤيتها دون تردد .

قال سليم وشيء من الأمل عاد إلى داخله :

_ هل ترى أن أعيد الكَرة ؟ .

أجاب فاضل مقهقهاً :

_ بالتأكيد .. أنت لم تواجه تجربة حقيقية  حتى الآن .. أخرج من سجنك واقتحمها .

 

 

**********

       إنتم شعب تتميزون بحرارة العاطفة .. قالت ساكي زوجة الدكتور سامي ، الأخ الوحيد لعادل وابن الدكتور عزيز علوي الطبيب المشهور ، وهي في طريقها من المطار إلى منزل أسرته . أدهشتها مجموعة القبلات والأحضان بين سامي ووالده ووالدته السيدة سميحة وبالأخص أخيه عادل ، غاب ست سنوات أنهي فيها رسالة الدكتوراه في طب الأطفال .. ازدادت دهشتها حينما تبادل الدكتور عزيز والسيدة سميحة  تقبيلها وعناقها عناقاً حاراً وكأنهما تلاقيا من قبل ، أما الحفيد كامى الذي لم يتجاوز العامين فقد تخاطفته أذرع الجد والجدة والعم عادل ، حظى بعدد من القبلات لم يحظى بمثلها من قبل.. أدهشها تقبل الطفل مسروراً بها وابتسامه لم تفارق شفتيه ، يبعثرها على الجميع ، وكأن حمى العاطفة انتقلت إليه بمجرد أن تلامس مع أسرة أبيه .. علق عادل على كلماتها بقوله ضاحكا :

_ العاطفة عند الشعب المصري كالتيار الكهربائي ، سريع الانتقال في الأجسام جيدة التوصيل ، وأنت بانضمامك إلى أسرتنا أنت وكامي أصبحتما كهذه الأجسام.

قالت ساكي وهي تبادله ضحكة رقيقه :

_ لكنك لم تخبرني عن شدة الفولت في هذا التيار .

قال عادل ضاحكاً :

_ ألم أقل لك .. لقد انتقلت إليك فوراً القفشات التي عُرف بها الشعب المصري .

وعلق سامي :

_ ساكي وكامي يمكنك اعتبارهما مصريين خالصين في طباعهما يا عادل .

قال عادل مقهقها:

_ هذا من حيث الطباع ، لكن لا أعتقد أن تكون دشنت معدتهما أطباق الفول المدمس .

قالت ساكي بلهجة مضحكة زادت من قهقهة عادل :

 _ والفلافل أيضا .

وأضاف سامي مشاركاً في الضحك :

_ أضف إليهما الكشري الحار.. ثم أردف .. نعم يا عادل ساكي أحبت الوجبات المصرية ، هي التي كانت تطلب مني الذهاب إلى المطاعم المتخصصة في إعدادها .. أكثر ما أحبته هو وجبة الكباب مع سلاطة الطحينة .

قال عادل وضحكاته لا تنقطع :

_ إذا دعني أفتح لها اعتماد في أكبر المطاعم الني تعد الكباب حتى تتمكن من زيارته يوميا.

التقى سامي مع ساكي بعد عام واحد من ذهابه إلى أمريكا لدراسة الدكتوراه ، تقابل معها في أحد المؤتمرات الطبية التي تنعقد لمكافحة مرض مجهول ، لا تزال المعلومات الطبية عنه في بدايتها ، وبالرغم من أن تخصص ساكي كان في مجال جراحة التجميل ، إلا أنها كانت تهتم بمتابعة تطورات العلاج بالنسبة لهذا المرض اللعين ، ربما كان هذا الاهتمام مرجعه لأبيها الطبيب الذي قطع شوطا كبيرا في دراسة هذا المرض ، سافرت  معه أكثر من مرة إلي بعض البلاد الأفريقية التي ينتشر بها هذا المرض بشدة . ساكي أمريكية من أصل ياباني تعيش في أمريكا وروحها دائما باليابان ، لا يمضى عام دون أن تزور مسقط رأسها ، تبحث دائما حتى عن الأطراف البعيدة من عائلتها ، نشأت صلة قوية بينها وبينهم ، يرون فيها الابنة الوفية لماضيها وبلادها وعائلتها .. لم تقف يوما عاجزة عن مد يد المساعدة لمن يحتاجها هناك . تسللت بخفة ورقة إلى قلب سامي أثناء المؤتمر ، سقطت عيناه على الشعر الفاحم المنسدل فوق كتفيها ، داعب في نفسه عشقه لليل ، أحس بتقاطيع وجهها المنمنمة تتسلل دون تكلف إلى قلبه كنسمات الليل المنفلتة من حضن الطبيعة والناس نيام . قوامها رقيق ملتف بحديقة بسيطة من الزهور ، جمعت فيها كل الألوان بذوق رفيع ، بما عرف عن اليابانيين من حب للزهور ، يرحبون بها في أُي صورة ، حتى لو كانت مجرد رسوم فوق ما يرتدونه من ثياب . رآها أكثر من مرة ، في كل مرة يذهب وفي داخله الإصرار على الاقتراب منها ومحادثتها ، ينتهي المؤتمر وينسحب دون أن يتخذ هذه الخطوة ، يلوم نفسه طوال طريق العودة وينهيه بتصميم جديد على اتخاذ هذه الخطوة . يتكرر نفس المشهد في المرة التي تليها ، تردده ربما كان سببه حياء نما معه منذ الصغر . تصاعد الدم حارا إلى وجهه عندما تقدمت منه في نهاية أحد هذه المؤتمرات ، وفوق شفتيها ابتسامة رائعة ، لم يصدق نفسه وهي  تقول :

_ ألن تتحول هذه النظرات إلى حديث.

_ نعم .. آسف .. لست أدرى .. هل تسببت في مضايقة لك؟ .. كلمات متلعثمة نطق بها سامي ، لا يدري منها شيئا وقد أذهلته المفاجأة .

_ ماذا بك !!  ليس الأمر بهذا السوء .. لكي أبرهن لك على ذلك ، سأدعوك لتناول مشروب الشيكولاته الساخن الذي يعده المقهى هنا بطريقة لذيذة .

وقعت عليه الكلمات البسيطة  ، كوقع السحر ، ابتسم وانطلقت ضحكاته بصوت لفت الأنظار .

سألت ساكي وهي ترمقه بدهشة :

_ ما الذي يضحكك .

أجاب سامي وهو يتأمل وجهها بشغف وإحساس بأن عقدة لسانه قد انفكت عن آخرها :

_ كدت أموت خوفا أن أكون قد تسببت في قلق لهذا الجمال الساحر .

قالت ساكي وضحكة رقيقة تصاحب كلماتها :

 _ لست أعلم لماذا صمت هذا اللسان الجميل طوال الفترة السابقة !! ألمح نظراتك لا تفارقني منذ دخولك القاعة ، في كل مرة أتوقع أن تبدأ الحديث ، أُفاجأ بك تنصرف بنفس الطريقة ، تصل إلى  باب الخروج ثم تنظر للخلف لتلقي نظرة أخيرة ثم تهرب ، خشيت أن يكون بعينيك حول وأن نظراتك لم تكن موجهة لي . 

أجاب سامي وهو يحاول أن يخفض صوت ضحكته :

_ عيناي سليمتان وقد يكون الحول بلساني الذي صمت .

 انفجرت الضحكات ، أمسك بيدها يقودها إلى المقهى القريب ، سمعت منه ما اختزنه في قلبه طوال الفترة السابقة ، اندمجت بساطتهما معا لتنتهي بالزواج السعيد وكانت ثمرته كامي . تعاهدا أن تكون طباعه وتقاليده مناصفة بين بلادها وبلاده ، لم يجد منها سوى كل ترحيب عندما عرض عليها أن يستقرا بمصر ، وأن يقضيا عطلتهما ببلادها .. توافق جميل بين نغمات الطبع قرب التفاهم بينهما ليسير في ليونة ويسر .

 

وإلى اللقاء مع الحلقة القادمة ؛


 

إدوارد فيلبس جرجس

edwardgirges@yahoo.com

**********************