كتنويه أو مقدمة أقول أنني لا أكتب في هذا الموضوع من منظور ديني ، لكن الاتجاه كله نحو المنظور الوطني والاجتماعي ، كمنظور فكري يضع الأمور العقلية في نصابها ، وهل بدون عقل أو فكر تنجح أمة أو دولة ، مستحيل بالمنطق والمفهوم ، لأنهما هما اللذان يحددان طريق الصواب والخطأ ، النجاح والفشل ، الرقي من عدمه ، ولهذا أكرر أنه حتى لو أتى ذكر العقائد في هذا الموضوع سيأتي لإثبات أن الأديان على الجانب الصواب وأما التضليل فهو محاولة لزجها بطريقة مستهجنة في الفكر الخاطئ لأغراض هدامة وهذا هو هدفي ومقصودي ، فالدين بالنسبة لي هو الدائرة الضيقة جدا التي أقف فيها ومنها للسماء فلا أسمح لأحد أن يقترب منها أو أسمح لنفسي أن أخرج خارج محيطها ليس لأي عقيدة ، بل لأي فرد يؤمن بعقيدتتي أو أي عقيدة أخرى حتى لو كانت حجرا ، نائما مستيقظا يسجد له . ومن هذه المقدمة التي أرجو أن تكون وَضَحت ما أريد توضيحه أنتقل إلى بداية المقال الذي يتحدث عنه العنوان .
**********
معلهش ياريس ، حقك علىَّ ، أنا عارف أنك تعبت ، كل مرة في المناسبات الدينية أو غير الدينية توصي بتجديد الخطاب الديني ، أتذكر وأرجو ألا تكون الذاكرة قد خانتني بأنك منذ الشهور الأولى التي توليت فيها الحكم وحتى الآن وأنت توصي ، وهذا يعني أن هذه التوصية راسخة بداخلك كعقيدة تؤمن بها ، عقيدة الخروج من المفهوم الضيق الذي أسسه البعض بغير فهم جيد للغرض من الخطاب الديني أو العظة الدينية فأنتجت مفهوما بعيدا تماما عما توصي به الأديان والعقائد .
هذا يعني أن هذه التوصية راسخة بداخلك كعقيدة تؤمن بها ، بأن مصر تحتاج إلى فكر سليم في جميع المجالات وباشتراك الجميع لإعادة بناء المجتمع السليم المتآخي حتى لا نعطي الفرصة لأي مكر شيطاني كي يستغل الدين في تفكيكه ، وهذا ما يطمع فيه الكثيرون من العملاء الذين باعوا أنفسهم للخيانة في الداخل أو الخارج من أجل رزمة ملوثة من الأوراق النقدية . هذا يعني أن التوصية راسخة بداخلك كعقيدة من أجل أجيال تعرف ما هو الصواب وما هو الخطأ فيما تسمعه ، وقد كُثر الذين انحرفوا بمنبر الخطابة من منبر للإرشاد الديني ومعرفة الصواب والخطأ في مسيرة الحياة المثلى فدهموا كل الأفكار بتوصيات لا تعرف العقيدة ولا أتت في أي فكر نستطيع أن ننسبه إلى الفكر الديني المضبوط ، وجوه نبذت ابتسامة السماحة وتوصي بكل بجاحة على كره الآخر وتكفيره وأكل لحمه سواء كان نيئا أو مشويا ، توصي بكل بجاحة اعتزال الآخر الشريك في المجتمع والانتاج والحفاظ على كيان الوطن وتحريم السلام عليه أو تهنئته في مناسباته الدينية ، والغريب في الأمر أن هؤلاء حتى الآن يلقون بأفكارهم الآتية بكل غريب عن صحيح الدين وكأنها قنابل موقوتة لهدم المجتمع وقد يكون هذا غرضهم الأول للعودة به إلى جاهلية مُرة وتخلف عقيم أو ربما تكون لحساب جهة أو جهات تريد أن تعكر صفو المجتمع . الرسالة التي أرسلها الرئيس مع رئيس الوزراء وقرأها في مؤتمر الأزهر لتجديد الفكر الإسلامي الذي انعقد منذ فترة قصيرة كان العنوان الكبير الذي تحمله عن تجديد الخطاب الديني ، لكني تساءلت عن السبب في عدم ذهاب الرئيس وإرسال رئيس الوزراء بخطابه ، هل هو بسبب انشغال الرئيس أم لأنه أراد أن يقول لفضيلة شيخ الأزهر لقد تعبت من كثرة تنبيهكم لاتخاذ خطوات لتجديد الخطاب الديني ، كما قال له في لقاء سابق " تعبتنا ياشيخ " ، وفي الحقيقة كان المفروض على الأزهر الشريف أن يبادر من ذاته إلى هذه الخطوة دون ملاحظة الرئيس والتكرار عليها ، فالأزهر هو المسئول عن الواجهة الإسلامية حتى لا يترك التطرف يعبث بها من فوق المنابر الشاذة الفكر عن كل المفاهيم الصحيحة والسمحة للعقيدة ، نعم هؤلاء نشأوا وتربوا على كل ما هو بعيد عن المفروض أن يقال ويبث إلى ذهون البسطاء والشباب ، وكانت النتيجة ما تعرض له المجتمع من كل أنواع الطائفية والفتن التي وصلت أحيانا إلى الدماء ، ليست دماء الآخر فقط ، بل دماء كل من يختلف في الرأي معهم ، لم أنسى بعد رئيس طائفة الشيعة الذي قتله التعصب منذ عدة سنوات . سنوات طويلة لم تأت بالخير أبداً وقد تُرك الخطاب الديني لكل دارس ولم يفهم ، أو لم يدرس ولم يفهم ، يعبث بكلماته كما يشاء فكره هو وليس بما يقتضيه هذا الخطاب كدرس مفيد للبسطاء وغير البسطاء الذين تركوا إشراقة الشمس وذهبوا إلى ظلام مدلهم ، يجدون في كل كلمة من هذا الخطاب فرحة ومسرة تدفع نفوسهم المريضة إلى ما يقسم المجتمع وبدلا أن يحدث التواصل مع الجميع في الداخل والخارج يكون عنوانا للتباعد وخلق الفرقة ، مع أن التواصل مع الآخر فريضة دينية وضرورة حضارية ، فالمجتمعات الإنسانية والحضارة بشكل عام ما هي إلا حركة متفاعلة ، لا تعرف السكون أو التقوقع في الجحور البعيدة عن الطبيعة الإلهية المضيئة ، ولقد أثبتت الأيام والزمن أن المجتمعات المنعزلة فيما بينها داخليا ومع الغير خارجيا تتأخر ولا تقدم للحضارة أي شئ سوى لعنة البغضاء والكراهية وعدم التفاعل عن قصد أو بغير قصد نتيجة هذا الانطواء ، وكل هذا يصب على كل مقومات الحضارة من لغة وثقافة وفن وفكر وأديان أيضاً ، ولا يمكن لهذه المقومات النمو إلا بتواصلها الداعي إلى تجديد التيار فيها كمياه الأنهار المتجددة . دعونا نلقي نظرة على التاريخ ، وقمة النضوج ونسأل كيف كان هذا النضوج ؟! ، بالتأكيد سنصل إلى الإجابة بغير عناء ، لقد بلغت الحضارة الإسلامية أوجها وازدهارها في العصر العباسي الأول ، الذي اختلط فيه المسلمون بالحضارات الأخرى ، حيث لم يكن في ذلك الوقت العقول الظلامية التي تعتلي منبر الخطابة لتعلن الحرام والخراب لكل من يدعو لهذا التواصل ، فانتشرت حركة الترجمة ، وانشئت المكتبات برعاية الخلفاء كبيت الحكمة الذي أنشأه الرشيد ، وازدهر في عصر المأمون بوجه خاص ، حيث ترجمت من خلاله كتب اليونان والفرس وغيرهما من الأمم في الطب والهندسة والفلك والنجوم واللآداب والفنون ، وخصص لها الخليفة مترجمون يشتغلون بترجمة الكتب المختلفة من الحضارات المجاورة إلى العربية ، وتحولت من مجرد خزانة للكتب القديمة إلى بيت للعلم ومركزاً للبحث العلمي والترجمة والتأليف والنسخ والتجليد ، وأصبح لبيت الحكمة دوائر علمية متنوعة لكل منها علماؤها وتراجمتها ومشرفون يتولون أمورها المختلفة ، وانعكست هذه الحركة العلمية والاتصال بالأمم الأخرى على الثقافة الإسلامية في كل مجالات الفكر والثقافة ، إذن لم نكن غرباء يوماً عن الحضارة الإنسانية ، ولم نشهد هذه العزلة التي قضت علينا بالتأخر إلا في عصور متأخرة ، يمكن أن نرجعها إلى عامل الاحتلال بداية من كابوس العثمانيين الذي أطبق على صدر العالم الإسلمي لقرون طويلة بداية من القرن السادس عشر ، ولم نستفق منه إلا على ضربات مدافع الفرنسيين أواخر القرن الثامن عشر ، ثم الإنجليز في بداية القرن العشرين ، ولولا حركة التحديث التي انتهجتها مصر وقادت العالم العربي بالتبعية إلى انتهاجها لكنا مكبلين بقيود الرجعية والتخلف التي قعدت بنا عن ركب الحضارة قرونا طويلة . ثم تلت موجة التحرر من الاستعمار موجة من الأصولية الدينية تقودها جماعات اعتادت العمل تحت الأرض ، ولم تعتد عيونها على نور الحضارة ، ولم تعرف التواصل مع الإنسانية ، وعزمت على الرجوع بالمجتمع المصري الذي تفتح وعيه واتصل بالعالم إلى عصورها الحجرية وجحورها الأرضية ، ولعبت على وتر العاطفة الدينية وزعمت أنها بصدد استعادة الخلافة الإسلامية التي كانت تحمي بيضة الدين وتدفع عن الإسلام غوائل المعتدين ، وحاولت العبث بالوعي الجمعي تحت زعم العودة للعصر الذهبي للخلافة ، في حين أنها لم تكن حتى تمتلك رؤية لما زعمته مشروعاً للنهضة ، ولم تقدم للناس غير أسباب الاحتراب التي منَّ الله على المصريين بتجنب ويلاتها والنجاة من شرورها ، ولولا يقظة الشعب وبصيرته لانجرف إلى هذه التي حاقت بشعوب عربية نرجو لها الخلاص منها . لقد استعاد الشعب المصري وعيه واستفاد من تجربة الماضي ، كما استفاد من تجربة الحاضر المتمثلة في محاولة العبث بالوعي عن طريق جماعات تزعم استعادة العصر الذهبي للخلافة ، ولا تراعي متغيرات الزمان والمكان ، وتطور طرائق الحكم وأشكال الدول ، وتطور الوعي الإنساني بشكل عام . إننا لو تمعنا في الأحداث دائما لوجدنا أن كل ما يحدث من قلاقل سواء على مستوى المجتمع الواحد أو المجتمعات هو نتيجة الكلمة ، والخطاب الديني هو كلمة ، إما أن تقود إلى الجانب الصحيح أو إلى الجانب الخاطئ ، وقد يكون أقسى ما نتج من هذه الكلمة هو ما سمىَّ بالإسلاموفوبيا الذي تولد الإحساس به خاصة في الغرب بعد أصبح الخطاب الديني هو عبارة عن الكفر والتكفير والغرب الكافر وكره الآخر ، هذه الكلمات التي أتت بمفعولها في العقول فتحول كل من يستمع إليها ولا يتنبه إلى ما ورائها من مخالفة لصحيح الدين إلى عقلية لا ترى ولا تطبق سوى ما تسمعه من دعاة التخريب ، وكانت الخطوة التالية من التشدد والإرهاب ، وإن تجاهلنا الدماء فعلينا أن ننظر إلى ما آلت إليه المجتمعات التي انحرفت عن ركب الحضارة والتطور الإنساني .
إن الخطاب الديني المتعنت والذي يوصي الرئيس بتجديده ما هو إلا وليد الفكر السلفي الذي ترعرع كنباتات شيطانية خلال فترات الحكم السابقة وهيمن حتى على التعليم ، في جميع مراحلة ، وياله من بئس التعلم عندما ينشأ التلميذ منذ أول درجاته على هذا الفكر ، إن الأمثلة كثيرة وواضحة ، وليكن الطبيب " ياسر البرهامي " ، عنوانا لها ، طبيب يعالج الأطفال يحمل هذا الفكر بل وأكثر من أي واحد آخر وكل خطاباته لا تبُث سوى كراهية الآخر وتكفيره وفتاوى لو حسبت عليه المفروض أن يمنع تماما من أن يقفز على منبر الخطابة ، ولهذ لو أردنا أن نبدأ تجديد الخطاب الديني من منبعه يجب أن تكون البداية صحيحة ومنذ الألف حتى نصل للياء وكل الأفكار قد عرفت التنوير الفكري ، والألف هي أبعاد السلفيين عن أى شىء متعلق بالتعليم، من الحضانة وحتى الجامعة، هذا إذا أردتم إصلاحا حقيقيا للمجتمع وبناء أجيال قادرة على مواجهة العصر بأدواته، أبعدوا السلفيين فى الجماعات المتناثرة بالمحافظات عن المشاركة فى وضع المناهج أو حتى التدريس فى المدارس والجامعات، سواء فيما يتعلق بالتعليم المدنى أو التعليم الأزهرى، وإياكم أن يتنطع أحد ويقول إن هناك تمييزا فيما تطلبه ، لا يا سيدى، نحن الأجيال التى شهدت المدرسين فى التعليم الإعدادى والثانوى يترك الدرس المقرر، ويدعو إلى الانضمام لجماعات تغيير - ما يسميه - المنكر باليد، ونحن أيضا الأجيال التى شهدت أساتذة الجامعات المتخصصين فى العلوم التطبيقية يقول بصوت الجهل دعكم مما تسمعون فهى قشور لن تفيدكم فى دنياكم ولا آخرتكم، ثم يبدأ الخطابة في الطلبة مثل أى إسحاق حوينى أو حسين يعقوب . الجماعات السلفية ينبغى خضوعها للمراقبة والحساب المشدد فى كل ما تفعل ، فهى لا تتورع عن ذرع بذور التطرف فى عقول الصغار والكبار، واختطاف الأجيال نحو الخرافات وحكايات الماضى السحيق، لا لشىء إلا لأنهم مأمورون بأن " يفعلوا ما يفعلون " حتى لو لم يدرك معظمهم أن الأوامر تأتى لرؤوسهم وقياداتهم من الخارج مع حقائب الأموال، بهدف تأليف القلوب والعقول، وصناعة جيوش محتملة وميادين تحت الطلب، ومرتزقة رهن الإشارة، وما أثير مؤخرا عن الكوارث التى يعلمها السلفيون للأطفال فى الحضانات التابعة لهم قليل من كثير، فهم يتسللون مثل الثعابين فى ثياب المجتمع حتى إذا أحسوا بالدفئ تمددوا ولدغوا وأخرجوا ما يحملون من سموم التطرف فى عمليات مسلحة ضد مؤسسات الدولة ، متلونون ومتكيفون مع الأوضاع السائدة ، فإذا أغلقت أمامهم المساجد ومنعتهم من تضليل الناس بالخطابة يوم الجمعة أو دروس ما بين المغرب والعشاء، سيتسسلون إلى المجتمع من المساجد الصغيرة تحت العمارات فى الأحياء المكتظة والشعبية وفى العشوائيات ، أو فى الزوايا المجهولة بالقرى والنجوع ، فإذا سدت عليهم هذه الثغرة ومُنعت الزوايا وضمت المساجد الصغيرة إلى الأوقاف ، لجأوا إلى الجمعيات الشرعية الحاضنة الرئيسية للأفكار المتشددة منذ أوائل القرن الماضى، وهى تظن أنها كيان دينى ودعوى يناطح الأزهر الشريف ، بينما هى مفرخة للمتطرفين طوال الوقت . إن السلفيين وشتى الجماعات الإسلاموية دون استثناء لا تعرف إلا الأفكار التافهة الساذجة عن تأسيس الدولة الإسلامية بصورة بدائية ، وكأننا عدنا إلى القرن الأول الهجرى وفى سبيل هذا الذى يعتنقونه ، ينبطحون أمام أى داع يقودهم إلى الخروج على مجتمعهم وارتكاب الجرائم ضد المصالح العامة والخاصة على السواء، وحتى يكونوا جاهزين لذلك ، يتلقون مناهج العنف والتكفير وكراهية الآخر ويتعايشون عليها، ولا يرون سواها حاكمة لممارساتهم الحياتية ، فلابد من الضرب على أياديهم بشدة ، حتى نحمى المجتمع من شرورهم وحماقاته . إن تجديد الخطاب الديني الذي بح صوت الرئيس من كثرة النداء به ، يحتاج إلى نية صادقة من المسئولين والقائمين عليه ، وأن يبتعدوا بفكرهم عن العناد وأن الدولة تتدخل في شئونهم ، فالشأن ليس شأنهم لكن شأن أجيال وأجيال المطلوب منها المحافظة على المكتسبات التي لا زالت في بدايتها سواء من الناحية الإقتصادية أو الاجتماعية ، بل في أن يعود الفكر المستنير الذي كانت مصر رائدته ، فمهما فعلنا ولا ترتقي أفكار الأجيال القادمة سنكون كساكب الماء في الغربال .