ثلاث سنوات مضت على قيام الحكومة المصرية بتنفيذ برنامجها الجريء للإصلاح الاقتصادي بدعم مباشر وجريء أيضًا من صندوق النقد الدولي.. الذي أقرض الحكومة 12 مليار دولار على مراحل مرتبطة بالتطور والإنجاز في برنامج الإصلاح الاقتصادي الموجه.. وبدأت الحكومة أولى خطوات الإصلاح الاقتصادي بقرار جريء من البنك المركزي، يقضي بتعويم الجنيه المصري لتحديد القيمة الفعلية للجنيه المصري مقابل الدولار.
وبناءً عليه اتخذت الحكومة إجراءات صارمة لضبط السوق السوداء ومنع التعاملات المالية خارج البنوك.. وأعقبت ذلك حزمة من الإصلاحات المالية، وتبنت مصر على إثرها سياسات واسعة للحماية الاجتماعية، تستهدف في مجملها الحفاظ على الطبقة الوسطى، وحماية الفقراء ومحدودي الدخل من السقوط في براثن الجوع والمرض والجريمة!
والواقع أن مصر إذاً لم تتبن فقط برنامجا طموحاً للإصلاح الاقتصادي، وإنما تبنت خطة متكاملة للإصلاح، ربما كان النهوض بالاقتصاد أبرز محاورها. لكن هناك محاور إصلاحية أخرى موازية. فثمة برنامج للإصلاح المالي وثاني لإصلاح التعليم وثالث لسياسات الحماية الاجتماعية الموجهة ورابع لإصلاح السياسات المتعلقة بالثقافة العامة وخامس لدمج الشباب في العملية السياسية وسادس لإصلاح نظام التشغيل والقوى العاملة.
ناهيك عن السياسات المتعلقة بالتصنيع والأمن الغذائي والتنشيط السياحي، والإصلاحات المتعلقة بالرعاية الصحية ومكافحة الفساد.. أضف إلى ذلك سياسات بناء وتقوية الجيش المصري وعلاقات مصر الخارجية.. لكن هل حققت مصر نجاحات متقاربة في كل تلك الملفات؟
وبالقطع لا أحد يستطيع أن يتجاهل حجم النجاحات التي حققتها الحكومة المصرية في كل هذه الملفات بدرجة جعلتها تحتل الأولى عالميا في معدل الإنجاز في بعض ليس قليل من هذه الملفات.. لكن السؤال الذى بات يطرح نفسه بقوة -ونحن على أعتاب عام جديد- هل استطاعت مصر أن تتبنى قاعدة صلبة للانطلاق صوب التنمية، بشكل يجعلها تقاوم العواصف التى تهدد الاقتصاد العالمي؟
هل جملة النجاحات التي حققتها مصر على مستوى برامج البنية التحتية والاقتصاد والاستثمار قد ساهمت في تحسين نوعية الحياة للمواطن المصري عامة والبسيط بصفة خاصة؟ هل ساهمت تلك النجاحات في جعل جواز السفر المصري يحتل مكانة متقدمة بين دول العالم؟ إلى أي درجة ساهمت تلك السياسات في استعادة العقول المصرية المهاجرة واستفادت منها؟
وإلى أي مدى استطاعت تلك البرامج الحد من معدلات هجرة الأدمغة؟! وأخيراً هل استطاعت تلك السياسات إحداث تقدم في ترتيب مصر على مؤشر الشفافية والتنمية البشرية والدول الأكثر هشاشة؟!
والإجابة على تلك التساؤلات لا تحتاج إلى تكهنات ولا تحيزات سياسية قد تخرجنا بعيدا عن الموضوعية، بقدر حاجتها إلى مطالعة متعمقة للتقارير الدولية المعنية بقراءة وتحليل هذه الملفات.. أعنى القراء الكلية.. أي قراءة الوضع المصري في ضوء الأوضاع الاقليمية والدولية المشابهة.. وفى ضوء مؤشرات عامة تتسم بالعلمية والدقة، فضلا عن السمعة الطيبة للمؤسسات المعنية بالقراءة والتحليل والتقييم.
وربما لا يسعنا هذا المقال للإجابة على تلك الأسئلة برمتها.. لكننا سوف نجيب على بعض منها، علماً بأن هناك ملفات قد تحتاج الى وقت أطول للتقييم. كملف تطوير التعليم الأساسي مثلا.. فمن الصعوبة بمكان وضع خطة لتطوير التعليم ما قبل الجامعي، وحصد إنجازات في فترة تقل عن 12 سنة. وهى الفترة التى يستغرقها الطالب لإنهاء تلك المرحلة..
وربما نحتاج للتريث في إجراء تقييم نهائي لحين انتهاء الطالب من الدراسة الجامعية. لنتمكن من قياس قدرة التعليم على الاستجابة لسوق العمل.. وكذلك قياس مدى الطلب على العمالة المصرية محلياً وإقليمياً ودولياً..
وعموماً فقد أدت تجربة مصر في الإصلاح الاقتصادي نتائج إيجابية؛ انعكست في تحسن مؤشرات الأداء الاقتصادي بشكل ملحوظ، خلال عام ٢٠١٩، باعتباره بداية مرحلة “الحصاد” لبرنامج الإصلاح الاقتصادي. الذي ما زال يحظى بإشادات دولية منقطعة النظير!
إذ بلغت حصيلة الإيرادات السياحية هذا العام ١٢,٥ مليار دولار مقارنة بـ ٩,٨ مليار دولار خلال العام المالي الماضى “ ٢٠١٧/ ٢٠١٨ “ بمعدل نمو تجاوز ٢٨,٢٪ .. بما يعكس انتعاش الأنشطة السياحة، ويترجم الجهود التي تبذلها الدولة للنهوض بالسياحة بمفهومها الشامل؛ باعتبارها إحدى دعائم الاقتصاد القومي.
وأنه خلال الثلاث سنوات السابقة زادت إنتاجية قطاع الطاقة بنسبة ٥٠٪ ليواجه الطلب المحلى، حيث تم إنشاء عديد من المشروعات القومية منها كالعاصمة الإدارية، والمنطقة الصناعية بالسويس وبورسعيد، وخطوط سكك حديد ومترو أنفاق جديدة، وإنشاء محطة بنبان للطاقة الشمسية، والصوب الزراعية، التي أسهمت في خلق كثير من فرص العمل وتحسن ملحوظ في الخدمات المقدمة للمواطنين.
كما نجحت الحكومة المصرية من خلال التنفيذ الإلكتروني للموازنة العامة للدولة، في تحقيق المستهدفات المالية والاقتصادية لأول مرة منذ أكثر من ١٥ عاما. من خلال تحقيق فائض أولي بنسبة ٢٪ من الناتج المحلي، وجاء معدل العجز أفضل من المستهدف محققًا ٨,4٪.
وحول نتائج المخطط الاستراتيجي لتطوير قناة السويس، فقد جاءت نتائج التقييم مبشرة.. إذ بلغت عائدات القناة خلال العام المالي 2018/2019 أعلى عائد سنوي في تاريخ القناة بإجمالي عائدات بلغت 5.9 مليار دولار بزيادة قدرها 300 مليون دولار عن العام المالي السابق، أي بمعدل نمو 5,4%.
ولما كانت مصر تعتمد بشكل أساسي على 3 مصادر للحصول على العملة الصعبة هي: السياحة وقناة السويس وتحويلات المصريين بالخارج. ووفقاً لبيانات البنك المركزي المصري، فقد بلغ إجمالي تحويلات المصريين العاملين بالخارج نحو 6.7 مليار دولار، مقابل 5.9 مليار دولار خلال نفس الفترة من العام المالي 2018/2019بمعدل نمو تجاوز الـ 13.6%.
ولعل هذا النمو في القطاعات الثلاثة كان له انعكاساته أيضاً على كل من معدل النمو الاقتصادي بشكل عام والذى تجاوز الـ 5.6% وهو أعلى معدل تحققه مصر منذ 2010، وانخفضت نسبة البطالة إلى 7.5% بعد أن كانت 13% في 2014م. كما أدى إلى ارتفاع نصيب مصر من الاحتياطي النقدي ليتجاوز الـ 45 مليار دولار مقارنة بـ 15 مليار دولار في 2013م مع تراجع كبير في معدلات التضخم لتصل 6.5% .
وهو ما انعكس بشكل واضح على انخفاض عجز الموازنة ليصل لأول مرة إلى 8.2%، لتحقق الحكومة لأول مرة فائض أولي بنسبة 2%. علما بأن هذه الأرقام في كليتها جعلت مصر تحتل المرتبة الخامسة بين الدول العربية من حيث حجم الاحتياطي النقدي بعد السعودية والإمارات والجزائر وقطر وتسبق كلا من الكويت والمغرب وتونس!
ورغم كل هذه النجاحات التي حققتها مصر في مجال الإصلاح الاقتصادي، فإننا لاحظنا أمرين مهمين الأول أن معدل النمو الصناعي لا يزال ضعيفا جداً لم يتجاوز الـ 5 % في موازنة 2017/2018،علما بأنه قد بلغ الـ 9% في نهاية الستينيات من القرن الماضي!
وأن أقصى طموح لوزارة التخطيط والتنمية الاقتصادية الآن هو الوصول بمعدل النمو الصناعي إلى 11% في العام المالي 2021/2022!
والأمر الثاني يتعلق بحجم الاقتصاد المصري الذى لم يزد منذ عام 2010م .. حيث يبلغ حجم الاقتصاد المصري الآن 250 مليار دولار، وهو نفس الحجم الذي كانت عليه مصر في 2010م أي قبل 9 سنوات من اليوم.. ويعد هذا الحجم ضعيفا جدا إذا قارناه بدولة مثل تركيا التي تجاوز حجم اقتصادها 800 مليار دولار وكوريا الجنوبية التى وصل حجم اقتصادها 1500 مليار دولار! مما يدفعنا إلى ضرورة إعادة النظر في السياسات الخاصة بالصناعة في مصر..
والخلاصة أن الإصلاح مفهوم أكبر من الاقتصاد وأصعب من أن نحمله كلية على عاتق الحكومات، وأوسع من أن نختزله في الجانب المادي.. فلن يتحقق الإصلاح إلا إذا تبنت الحكومات رؤية كلية للإصلاح تتولى هى مسئولية تنفيذها بالشراكة مع الشعب.
رؤية ذات محاور متشابكة ومتكاملة. فلا توجد تنمية بدون حرية.. ولا توجد حرية من غير وعي.. ولا يوجد وعي من غير ثقافة.. ولا توجد ثقافة من غير تعليم.. ولا يوجد تعليم من غير صحة.. ولا توجد صحة من غير غذاء.. ولا يوجد غذاء من غير زراعة..
ولا توجد زراعة من غير مياه.. ولا توجد مياه من غير قوة.. ولا توجد قوة من غير جيش.. ولا يوجد جيش من غير اقتصاد.. ولا يوجد اقتصاد من غير إنتاج.. ولا يوجد إنتاج من غير استقرار.. ولا يوجد استقرار من غير أمن.. ولا يوجد أمن من غير مساندة شعب.. ولا حياة لشعب دون وطن!