الهضبة يحكم الغناء بدون مجهود.. ملاحظات على هامش الأسطورة والنجاح المضمون.. "سهران" يطغى على الساحة ويتفوق بلا اختبار.. الظاهرة الأبرز عربيا تؤكد موقعها وتقترب خطوة أخرى للخطر.. وعمرو أول ما يجب أن يحذره عمرو!

الهضبة يحكم الغناء بدون مجهود.. ملاحظات على هامش الأسطورة والنجاح المضمون.. "سهران" يطغى على الساحة ويتفوق بلا اختبار.. الظاهرة الأبرز عربيا تؤكد موقعها وتقترب خطوة أخرى للخطر.. وعمرو أول ما يجب أن يحذره عمرو!
الهضبة يحكم الغناء بدون مجهود.. ملاحظات على هامش الأسطورة والنجاح المضمون.. "سهران" يطغى على الساحة ويتفوق بلا اختبار.. الظاهرة الأبرز عربيا تؤكد موقعها وتقترب خطوة أخرى للخطر.. وعمرو أول ما يجب أن يحذره عمرو!

14 أغنية تؤكد نجاح عمرو وشعبيته.. لكنها لا تُضيف جديدا لمشروعه الفني

صابر وزغلول الأبرز فى الكلمات.. وعلامة استفهام حول تامر حسين وعزيز الشافعى

التقليدية تسيطر على أجواء "سهران".. واعتياد النجاح يقود "عمرو" للتخلى عن التجريب

طارق مدكور ونادر حمدى يجتهدان فى الإنقاذ.. وعمرو مصطفى "تكرار حتى الملل"

على عمرو دياب النزول من البرج العاجى حتى لا يتكلس مشروعه بـ"التعقيم الزائد"

 

 

يبدو المشهد مألوفا للغاية. زحام من أطفال ومراهقين يلعبون فى شارع سكنى، لا يردعهم ليل أو نهار، ولا يقوض صخبهم تذمر أو شكوى، إلى أن تنفتح نافذة تبدو عادية وعليها غبار احتجاب طويل، فيتفرق الجميع فى كل الاتجاهات التى تطالها خطواتهم. تمر الأيام ويتغير اللاعبون وتتبدل ألعابهم، وتظل النهاية واحدة؛ تنفتح النافذة فيختفى الصغار!

حتى ساعات قليلة مضت، كانت الساحة الفنية مُشتعلة بالمعارك والتفاصيل. لا صوت يعلو فوق أغانى المهرجانات ونجومها، وشجاراتهم واتهاماتهم المُتبادَلة، ولا حديث إلا عن النجوم وحفلاتهم وأسعارهم وإطلالات عيد الحب، ومضت الأمور على تلك الوتيرة حتى قرّر عمرو دياب تطبيق قانونه المعتاد، فظهر فجأة مُبدّدًا كل تلك الأحاديث والجدالات. الغريب أن تلك الحالة لا تخصّ تجربة أو ظهورا بعينه، وإنما باتت عنوانا على مشروع فنى، أو بالأحرى ظاهرة فنية واجتماعية، إذا أفلتت من حسابات الذائقة والتفضيلات الغنائية بعض المتلقين والمُهتمين، فليس مُمكنًا أو صائبًا أن تفلت من حسابات البحث والدراسة الاجتماعية والثقافية.

فى حوار تليفزيونى قديم نوعا ما، ربما يعود إلى أواخر الثمانينيات أو أوائل تسعينيات القرن الماضى، تسأل مقدمة البرنامج النجم محمد منير عن رأيه فى عدد من نجوم الغناء، وبعدما يُحلل طابورا طويلا من الأسماء من منظور فنى وقيمى وتجارى، يصل إلى محطة عمرو دياب، ليقول إنه "أنشط مُغنٍّ عربى، ويعتمد على عنصر الإبهار"، مختتما الرأى بأنه لو أكمل ذلك، وبمضامين أكثر تطورا وإحكاما، يُمكن أن "يحكم الغناء"، بحسب تعبير منير.

 

النجم والظاهرة.. عمرو يحكم دولة الغناء
 

ما توقعه محمد منير قبل نحو ثلاثة عقود تحقق بالفعل. لا يُمكن الآن تجاوز حقيقة أن عمرو دياب يحكم دولة الغناء، فمنذ اعتلائه عرش النجومية خلال تسعينيات القرن الماضى لم ينزل عنه أو يخلع تاجه الذهبى، وحتى الآن ما يزال الأبرز والأعلى أجرا والأكثر نجاحا ومُتابعة، لكن المشكلة أن تلك الوضعية من صيغة النجاح المضمون جلبت معها على ما يبدو قدرا من الاطمئنان والركون إلى التفوق بدون اختبار، فبات الحُكم بدون مجهود تقريبا، أو بالقدر الأقل منه، بالنظر إلى ما غلّف مشروع "عمرو" منذ انطلاقته من جهد ودأب وتجريب وديناميكية لا تهدأ ولا تستقر على حال.

تجاوز "دياب" سياق النجم إلى حدود الظاهرة، وبات مشروعه أقرب إلى طقس اجتماعى قائم بذاته، يستند إلى قوانينه الضابطة، دون تأثّر بالمُثيرات أو اشتباك مع الغلاف الاجتماعى المُحيط. هذا الملمح يُمكن القبض عليه بوضوح الآن تحديدًا، فقد حقق ألبوم عمرو الأخير "سهران" الحد الأقصى من النجاح والذيوع والتلقى قبل أن يُختبر أو يخضع لتفاعلات الذائقة ودرجات الترقّى الطبيعى مع الاستهلاك الفعلى وإشباع احتياجات الجمهور وتطلّعاته. أعلن "عمرو" إطلاق ألبومه، فردّت محركات البحث ومواقع التواصل برسالة النجاح، وشهد الجميع للمُنتَج والمُنتِج قبل أن يختبروه أو يستوثقوا من جدارته!

حالة عمرو دياب تُمثّل صيغة مُغايرة للعمل الفنى، فعكس ما تعارف عليه الوسط لا يبدو النجم الأبرز عنصرا عضويا ضمن البنية الاجتماعية للساحة، وباستثناء دائرة محدودة من الأصدقاء والزملاء تبدو حياته شخصية للغاية، ومجاله الحيوى أقرب إلى شرنقة مُغلقة بعيدا عن زحام الوسط. لا يشغل الرجل باله كثيرا باجتماعيات الوسط وتعقيدات "الميديا" وقوانين التواصل، التى فُرضت على الفنانين أو فرضوها على أنفسهم، وعبر سنوات طويلة من العمل يظل الأقل ظهورا فى الإعلام والأكثر حضورا وشهرة، الأقل حديثا عن الفن والأكثر إنجازا فيه، الأقل اهتماما بالمبيعات والحفلات والأكثر رواجا وطلبا، الأقل استعراضا بشأن الأرقام والعوائد والأعلى قيمة وسعرا. مُعادلة صعبة لا يصنعها إلا من يمتلكون مشروعا واضحا، ومؤسّسة واعية تُخطّط وتُدير وترصد وتُحلّل، وتُقرّر بشكل صائب ومُتوافق مع حالة الساحة، لكن مخاطر العزلة والانقطاع عن الانخراط فى المجموع الواسع، أنها قد تصيب الرؤية بالثبات والأفكار بالجمود والتكلّس، وربما تُهيئ للفرد أنه محور الحكاية ونقطة ارتكاز الدائرة، فيبدأ الدوران حول نفسه، وقد يتسمّم المشروع بفعل ذلك، وبتأثيرات المبالغة فى الاحتجاب و"التعقيم الزائد"!

 

بين الريف والمدينة والعزلة الاختيارية
 

فى بدايات العام 1982 وصل عمرو دياب إلى القاهرة، قادمًا من بورسعيد التى وُلد وتربّى فيها، لأمّ بورسعيدية وأب من سنهوت فى مركز منيا القمح بالشرقية، والتحق فى العام نفسه بمعهد الموسيقى العربية. فى العام التالى سجّل أولى أغنياته، "الزمان" من كلمات هانى زكى وألحان هانى شنودة، وفى العام نفسه أطلق ألبومه الأول "يا طريق"، ومع تخرجه فى المعهد سنة 1986 كان يستعد لإطلاق ألبومه الثالث "هلا هلا"، والظهور فى عمله السينمائى الأول، "السجينتان" مع إلهام شاهين.

جاء عمرو دياب مُحمّلا بذخيرة اجتماعية ومعرفية لا يُمكن تجاوزها أو التحلّل من موروثها. يُمكن القول إن المرجعية المُركبة من الثقافة الريفية ومجتمع الصيادين، والسياق المدينى بين بورسعيد والقاهرة. وحتى فى المرحلة الأولى من مشروعه استند إلى مكوّنات لديها حمولاتها المعرفية الثرية، هانى شنودة ومجدى النجار نموذجا، وشيئا فشيئا استعاض "عمرو" عن تلك الفسيفسائية غنية الألوان بما ألقته العزلة على وعيه ورؤيته للعالم، وازدادت الصورة فداحة باستبدال مكونات جديدة خفيفة بالأعمدة والشراكات القديمة، مُنحازا إلى مستوى أكثر بساطة وخفة وأقل إبداعا وأصالة فى الكلمات والألحان.

عبر رحلة فنية تمتد لـ37 سنة منذ ألبومه الأول 1983، أطلق عمرو دياب اثنين وثلاثين ألبوما غنائيا، وأكثر من خمسين أغنية منفردة "سينجل"، خاض تسع تجارب تمثيلية منها: فوازير الخاطبة 1981، وفوازير عروس البحور 1985، وسهرة مش معقول 1986، ومسلسل ينابيع النهر 1986، ومسلسل آسف لا يوجد حل آخر 1987، وأربعة أفلام سينمائية آخرها "ضحك ولعب وجد وحب" فى العام 1993، مع يسرا وعمر الشريف، ولحّن لنفسه أكثر من 100 أغنية، وحصد عشرات الجوائز، منها 7 مرّات "ميوزيك آورد" للأعلى مبيعا فى المنطقة العربية، وصولا إلى موسوعة جينيس 2016 كأكثر مُطرب شرق أوسطى حصل على جوائز، وتصدر قائمة فوربس 2017 لأكثر الشخصيات العربية حضورا وتأثيرا.

وفق تعريف عالم الاجتماع الفرنسى الأشهر إميل دوركايم لمفهوم الظاهرة الاجتماعية، فإنها فعل يُوجد خارج شعور الأفراد، أى ليسوا هم من يصنعونها، وإنما يجدونها جاهزة، كما أنها تمتاز بقوة آمرة تتّسم بطابع الإلزام، وتمتاز بأنها جماعية لا تنتسب لشخص مُحدّد قدر ما تتّصل بما يُعرف بـ"الضمير الجمعى"، وتُعدّ حادثة تاريخية، إذ تعبّر عن لحظة من لحظات التاريخ، وبالنظر لأن عمرو دياب بدأ قبل 37 سنة، وأن 65% من المصريين أقل من 35 سنة "بحسب مؤشرات إحصائية رسمية"، دون إغفال أن النسبة الباقية تتعاطى مع مشروع "عمرو" الفنى بشكل أو آخر، يمكن القول إن "دياب" تحوّل إلى ظاهرة اجتماعية وفنية بكل المقاييس، بالنظر لاتساع جماهيريته وطول فترة حضوره وتأثيره، واكتسابه حيّزا مهما فى الوعى الجمعى، وخروجه بدرجة من الدرجات خارج اعتبارات المنافسة، بمعنى أنه أصبح يمثل ثابتا قيميًّا لدى قطاع واسع من الجمهور، لا يخضع لاعتبارات المقارنة الفنية والجماهيرية مع اللاعبين الآخرين بالساحة. بالفعل تحول عمرو دياب إلى ظاهرة، ظاهرة فنية واجتماعية دائمة، وهى الأطول عمرا وحضورا فى الساحة العربية، خلال العقود الأربعة الأخيرة على الأقل.

 

"سهران".. قانون الظاهرة يدير ماكينة الفن
 

منذ انطلاقه فى بداية ثمانينيات القرن الماضى، مثّل عمرو دياب مشروعا فنيا طليعيًّا، استند فى خطوته الأولى على موسيقى هانى شنودة، صاحب الجهد الطليعى الأكثر تأثيرا منذ حقبة السبعينيات، وصاحب الدور المهم فى مسارى عمرو دياب ومحمد منير، المشروعين الأبرز ضمن جيل الثمانينيات. وحتى الآن يبدو أن قانون عمرو دياب يحكم الساحة الفنية، لكن فى المقابل يُمكن استشعار عوامل خطر مُركبة، ليس أقلّها تورّط الهضبة فى قالب "الظاهرة"، وتلقّيه إشعارات مغلوطة عن حركيّتها ومدى تأثيرها، وإنما أخطر ما فيها تثبيت المُتغير، أو قولبة الإبداعى، وصولا إلى بناء ماكينة وفق رؤية عمرو، لكنها أصبحت تقود المشروع و"عمرو" نفسه!

فى مشروعه، تخلّص عمرو دياب من الرهان الغنائى الكلاسيكى، الذى يتعامل مع الغناء باعتباره نافذة أو وسيطا لعرض الثقافة اللغوية للمجتمع/ الشعر، منذ اللحظة الأولى كانت لدى "عمرو" رؤية مُغايرة نوعا ما، تتعامل مع الأغنية بوصفها مُختبرا أو معملا متكاملا ومُغلقا، تصنع خلطتها الخاصة وفق كيمياء منضبطة تُوازن بين أضلاعها وعناصرها، الكلمة والنغمة والصوت.

ربما فى ضوء هذا التصور قرّر "دياب" تنحية الكلمة جانبا، أو إنزالها عن العرش الذى اعتلته فى مسار الأغنية منذ حقبة تدوينها مطلع القرن العشرين، ضمن تبعات التأثر بالغناء التركى المسيطر منذ أواخر القرن التاسع عشر حتى بزوغ نجم سيد درويش واتجاهه التعبيرى فى الموسيقى. راهن عمرو دياب على تقديم "الميلودى" فى تفاعلها العضوى مع الصوت البشرى، بطاقاته التعبيرية والشعورية الخلّاقة، سعيا إلى صناعة خليط مُتجانس يُحقّق أثره فى وعى المتلقى بالمقادير المضبوطة، لا بالانتصار للبلاغة اللغوية التقليدية/ الشاعرية، وامتهان استقلالية الموسيقى وفصاحتها عبر تسخيرها قهرًا لتكون مجرّد خلفية وبطانة جمالية للتعابير المنطوقة.

احتاج عمرو دياب إلى خطوات فنية وتجارب عديدة لبلورة مشروعه. فى الفترة الأولى استجاب جزئيا للصورة الفنية الراسخة وقتها، عمل على إنجاز أغنيات مُستندة إلى بلاغة تحترم الحضور المُتقدّم للشعر فى برواز الصنعة الغنائية، مُتقدّما على كتيبة الغناء بخطوة كاملة، وشيئا فشيئا تحرّر "عمرو" من هذه النظرة الموروثة، وقدّم مشروعه الخاص فى تجارب عملية نجحت فى إصابة هدفها، تركيبة غنائية عضوية تتضافر فيها الكلمة المُعبّرة مع الجملة الموسيقية، ويتحاور معهما الصوت البشرى فى إطار حىّ، لا يستهدف التطريب فى ذاته، ولا التعبير فى ذاته، وإنما يترك للأغنية فسحةً لاختيار هيئتها وملابسها وطريقة خروجها على الناس.

القانون الذى تحرّك من خلاله عمرو دياب، يُمكن استكشافه فى ألبوماته المتلاحقة منذ 1983، بمنحى طردى، كُلّما تقدمت السنوات زاد حضور الخلطة الخاصة، ووفق هذا التدرّج الذى بدا من قبل ناضجا ومحسوبا، أو أنضجته السنوات وطول التجارب، يُمكن اعتبار ألبومه الأخير "سهران" حلقة جديدة من تجلّيات هذا الطرح الفنى، رغم أنه ربما لا يكون أبرز تجلّيات ظاهرة عمرو دياب الفنية، التى ربما يرى هو نفسه أنها تجاوزت مستويات المنافسة والتقييم التقليدية، ولا خطر على نتاجاتها أيا كانت رهاناتها ومستوياتها. لكن استمراء هذا الرهان المقبول فى ذاته، تطور إلى إغفال شبه كامل لأحد أضلاع الصنعة، تنامى هو الآخر طرديا حتى سقطت الكلمات من حساب "عمرو" تماما، ومع اهتزاز أعمدة الرهان الأساسية، فى النغمة اللحنية وأطيافها التوزيعية، يُمكن أن يصل المشروع إلى محطّة غير التى يتطلع إليها عمرو نفسه، وهو ما حدث بدرجة من الدرجات فى "سهران".

 

الأخير ليس الأجمل دائما.. وربما ليس الأنضج
 

وسط نظام حياة صارم نوعا ما، تتوزع أغلب أوقاته بين "الجيم" والاستوديو، مع قليل من الحفلات والسهرات واللقاءات الاجتماعية، وغياب تام منذ ربع القرن عن السينما والتليفزيون، وغياب أكثر شراسة عن اللقاءات الصحفية والبرامجية. هكذا لا يتبقى لدى عمرو دياب إلا مشروعه الفنى، ومراقبته لخطواته المتلاحقة واحدة بعد أخرى، فى معسكر شبه مغلق، لا شىء فيه مقدّم على ألبومه الذى ينضج على نار هادئة طوال سنة كاملة، وهو ما يُعزز التطلعات ويُضخّم الرهانات، ويتسبب فى الصدمة إذا جاءت العطايا مُخيبةً للآمال!

منذ 1983 حرص عمرو دياب على الحضور بشكل سنوى، وفى مواعيد شبه منتظمة، وبالفعل التزم بالخطة، باستثناء 9 سنوات لم يصدر فيها ألبومات، 1985، 1993، 1997، 2002، 2006، 2008، 2012 و2015، و2019، بينما شهدت سنوات أخرى إصدار أكثر من ألبوم، مثل العام 1994 الذى أصدر خلاله ثلاثة ألبومات، وبالنظر إلى أن آخر ألبومات عمرو كان "معدى الناس" صيف 2017، فقد حصل "سهران" على فترة حضانة وعمل فى مُعسكر مغلق مدته ثمانية عشر شهرا تقريبا، 548 يوما من العمل على أربع عشرة أغنية، بمتوسط 40 يوما تقريبا لكل أغنية، لكن رغم ذلك لم يأت الألبوم على صورة أكثر نضجا من "معدى الناس"، الذى مثّل التجسيد الأبرز لرهانات عمرو دياب الفنية، وقدّم مُعادلات موسيقية وافرة التنوع والجمال على مستوى الجملة اللحنية وتيمات التوزيع وحالة "التراك" المتكاملة، وهو رسالة مهمة يتعين على عمرو الالتفات إليها، ومراعاة أن الأخير ليس الأجمل ولا حتى الأنضج دائما!

فى مشروع عمرو دياب الممتد، يمكن حصر وتعداد عشرات الأغنيات التى تشكل ذاكرة حية لملايين المحبين والمستمعين، أغنيات راهنت رهانات رومانسية وموسيقية شجيّة، أصابت أرواح المستمعين وحفرت حضورها فى وعيهم، بينما خفُت الضوء المُلازِم لأغنيات أخرى، تضمنت رهانات فنية وموسيقية أكثر طليعية وتجريبيا وانسجاما مع روح "عمرو" ومشروعه، ومع صوته الإيقاعى اللامع كآلة نحاسية، وهو صوت بطبعه يميل بالدرجة الأكبر للغناء المُوقَّع الراقص، رغم مَسحة شجنٍ تُميّزه وتزيد توهّجه فى مناطق القرار ومع الجمل المُمتدة والكلمات ذات الصبغة المونولوجية، وفى "سهران" يبدو أن النجم الأبرز محليا وعربيا فقد رهانه بكامله، وأضاع رؤيته الطليعية، أو خلطته الخاصة لصناعة الأغنية.

 

بدا الألبوم الجديد مُشتّتًا وغير مستقر على ضفّة واضحة، حتى مع الجهد الواضح من طارق مدكور ونادر حمدى فى توزيع بعض الأغنيات. أنفق "عمرو" جانبا كبيرا على رهانه القائم منذ عقدين تقريبا، لكنه التفت فى جانب آخر إلى رهان قديم على النكهة الشرقية ومقاربة مستويات التطريب والشجن، وبين المستويين لم يُراقب قدميه على بدّال الدراجة فانحرف عن المسارين، لا قدّم قفزة موسيقية أو مغامرة تجريبية فى تطعيم المجالات الموسيقية ببعضها، وإنتاج مُعادلات شرقية لمسارات عالمية كما اعتاد، ولا اقتنص حظا من التطريب والشجن والشرقية كما كان فى أوائل تجاربه.

 

"سهران".. الخلطة الفنية وفلسفة الاختيارات
 

كالعادة، اتّبع عمرو دياب خطة مختلفة للترويج لألبومه الذى تأخّر عن موعده المعتاد نحو ستة أشهر، فإلى جانب ست أغنيات فردية طرحها بدءا من الصيف الماضى، طرح برومو للألبوم يضم ثلاثا من الأغنيات الجديدة، ثم أعلن عن إتاحته من خلال إحدى شركات الهواتف المحمولة، بدون طرحه كاملا على قناة شركته الخاصة "ناى" كما فعل فى ألبومه السابق "معدى الناس".

يضم "سهران" أربع عشرة أغنية، تعاون عمرو دياب فيها مع عدد من صناع الأغنية المعروفين، ولكن أبرز ما يمكن ملاحظته أن كثيرين من شركاء عمرو دياب الفنيين وأبرز المتعاملين معه فى محطاته الناجحة من قبل غابوا عن الألبوم، وفى المقابل حافظ على بعض الخيارات التى كانت محل شك وملاحظة فى محطات سابقة، فى خطوة لا تُشير فقط إلى أن الأسطورة اطمأنت إلى استقرارها وتخلّت عن القلق الضرورى، وإنما الأخطر أن معناها المُضمر ينطوى على تحكّم فردى فى المقادير والمكونات، وبمعنى أوضح فإن أصحاب الحظوظ الأكبر فى الألبوم هم الأقل إبداعا وابتكارا فى "سهران"، وفى تجارب سابقة أخرى، ولا مُبرّر إلا أن هذه الأسماء تنصاع لرؤية عمرو، أو تقبل شروطا وآليات عمل قد يرفضها الآخرون!

اقتسم كلمات الألبوم: تامر حسين بست أغنيات، وعزيز الشافعى بأغنيتين، وخالد تاج وصابر كمال وأحمد المالكى وأحمد زغلول وشادى نور وأيمن بهجت قمر بأغنية لكل منهم، وفى الألحان حضر: عزيز الشافعى بخمس أغنيات، وعمرو مصطفى بثلاث، ومحمد يحيى بأغنيتين، وشريف بدر وأحمد زغلول بلحن لكل منهما، بينما لحن عمرو دياب أغنية، ولحّنت ابنته "جانا" أغنية أخرى بمشاركة بلال سرور، وتناوب على التوزيع طارق مدكور بخمس أغنيات، ونادى حمدى بأربع، وأسامة الهندى بأربع، وأغنية واحدة للموزع رامى سمير.

على صعيد الصنعة ومُكوّناتها، تفاوت مستوى الأغنيات بحسب تبدّل الأسماء، لكنها ظلّت طوال الوقت فى الحيز التقليدى الذى يُعيد إنتاج عمرو دياب نفسه، أو يلامس حدود مساحات سمعية مشابهة للموروث أو مُقاربة له. وبصورة إجمالية لم تأت أى من كلمات الألبوم مُلفتة، إذ ظلت بكاملها فى دائرة متوسطة المستوى أو بالغة العادية والركاكة، وإن كانت أقواها "عم الطبيب" التى كتبها صابر كمال، و"روح" لأحمد زغلول "مدير أعمال عمرو"، وكان جانب كبير من جودة الأغنيتين وبروز كلماتهما مرتبطا بالمُعادل السمعى الذى وضعه عمرو دياب وأحمد زغلول فى اللحنين، وتيمة التوزيع التى أضفى بها الموزعان رامى سمير وأسامة الهندى مسحة شرقية تتراوح بين الشجن ومحاولات التطريب، وتنحاز فى الأولى إلى الظهير التراثى بصيغة خفيفة دارت فى مجال يتراوح بين روح الطقطوقة وخفة المقسوم، برهان على الوتريات والإيقاع فى معادل عصرى للتخت، مع استنساخ الخطوط الصوتية وتقنيات التقطيع والترديد لإكسابها طابع البطانة أو كورال الغناء الشعبى القديم، أما فى الثانية فإنها راهنت على الجُمل الوترية الممتدة ومساحات توظيف لبعض الآلات مع تقنيات الإطالة والمدود والآهات لمنحها نكهة شجنية تُراهن على الشحن النفسى والتأثير العاطفى، وهو ما ألقى بظلاله على الجُمل المنطوقة وأخفى بساطة الكلمات وعاديتها المفرطة.

خارج تلك المساحة، غابت عن باقى الأغنيات الأفكار اللامعة أو الجمل المتدفقة بحمولات تعبيرية قوية أو حتى بخفة ظل وإفيهات مميزة، وكانت أغنيات تامر حسين الستّ وأغنيتى عزيز الشافعى أضعف مساحات الكتابة فى الألبوم، ويبدو أنها استندت إلى رهان "عمرو" فى إزاحة الكلام لصالح الأنغام، لكن ألحانها جاءت عادية ولم يُضف عليها التوزيع مستوى مُغايرا من التجريب أو التنوع والابتكار، فبدت عاديتها مُضاعفة. وبشكل إجمالى فإن كل أغنيات الألبوم تقريبا استندت إلى أفكار مُكرّرة وحالات شعورية مستهلكة، وكانت اللغة تقليدية فى البناء والحمولات التعبيرية، وبعضها أعاد إنتاج أفكار سبق العمل عليها، مثل "عم الطبيب" التى تُقارب فكرة "قال له أمان يا دكتور" من الفولكلور اللبنانى، و"ما بقاش يناسبك" التى أعاد من خلالها أيمن بهجت قمر إنتاج طريقته المُعتادة فى توليد الجُمل والقوافى بطاقة الحروف أكثر من المعانى، وبضغط الإيقاع أكثر من الفكرة أو الطرافة والابتكار.

أغلب الأغنيات جاءت على جُمل لحنية بسيطة، احتفت بالإيقاعات والوتريات، ونسج حوارات بين الجمل والخطوط الرئيسية والفرعية، محمولة على "بيت" سريع غالبا، ومُتمهل فى مساحات الرهان على الشجن واستحلاب ذاكرة المستمع، مع تطعيم البنية الإيقاعية للأغنيات بجمل وترية مشحونة تعبيريا، فى إطار بنية موسيقية تمزج الروح والمقامات الشرقية بنكهة وتقنيات عصرية وغربية، وتجلّت الجمل الشرقية فى بعض الأغنيات بشكل خاص، منها "عم الطبيب" التى راهن فيها عمرو دياب على جملة وترية إيقاعية بتقنية أداء شعبية، والأمر نفسه تكرر فى "زى ما انتى"، و"يا روقانك" و"هيعيش يفتكرنى" و"روح" التى راهنت على جمل سهلة بتنويعات أدائية تتراوح بين التوقيع والشجن والتطريب، وأضفى التوزيع على بعض الأغنيات ثراء عبر المزج الدافئ أو الانتقالات النغمية والأدائية بين الوتريات والموسيقى الآلية، مع نقلات سلسة بين مساحات التمهيد والجمل الأساسية والمردّات.

كان عمرو مصطفى تقليديا إلى درجة جامدة، وكانت أسوأ ألحانه "جامدة بس" التى تفاخر عقب طرح الألبوم بإنجازها كتابة وتلحينا وتوزيعا خلال عدة ساعات، ولم يلحظ أنها خرجت استنساخا للنكهة التى طبعت كثيرا من أغنياته الشخصية عندما سعى لأن يكون مُطربا. وإجمالاً جاءت بعض الُجمل الموسيقية خفيفة ومُحبّبة للذائقة، ويسهل التقاطها والتورط فيها، لكن حتى تلك اللمحات القليلة للغاية انسحقت تحت حذاء محاولات توزيع غير موفقة أحيانا فى ابتكار القوالب المناسبة للأجسام اللحنية، فبدا الأمر وكأن راقصة رشيقة تُطلّ من ثوب مُتهدّل ومُتخم بالتفاصيل التى لا تُناسب المقام ولا تُضيف جمالا. والمحصلة للأسف أن مساحة التنوع لم تكن كبيرة داخل الألبوم، ولا بالقياس إلى تجارب سابقة لدى عمرو دياب نفسه. لكن أكثر ما طبع على التجربة هو الإحساس باعتياد الأغنيات أو سابقة سماعها، أو بالأحرى إعادة إنتاج محطات سابقة بالمشروع واستنساخ مفرداتها السمعية. الألحان الأربع عشرة لم تقدم جديدا على مشروع عمرو أو مميزا فى إطار المعروض الفنى والمُتداول لدى الآخرين، والغريب أنها جاءت بنكهة شبه واحدة حتى مع تنوع المقامات والمدارج التوزيعية. فى ألبوم "معدى الناس" حدث الأمر نفسه، وكان يُمكن تفسيره وقتها بهيمنة روح واحدة على الأغنيات العشر بعدما احتكر أسامة الهندى توزيعها، لكن فى "سهران" توزعت الأغنيات على 4 موزعين، لتبدو المشكلة الحقيقية فى هيمنة عمرو على خط الإنتاج، وربما تورط المتعاونين معه فى روحه وذائقته، واستعارتهم عباءته لتخرج الأعمال وكأن "عمرو" نفسه يُوزّع كل الألحان بالطريقة التى تُرضيه وتشبهه!

فى مستوى الكلام لم يُقدم الألبوم شيئا مهما فى الأفكار أو المُعالجات أو جماليات الصنعة الشعرية، وإذا تجاوزنا تلك النقطة تأسيسا على حقيقة أن "عمرو" توقف منذ سنوات عن رهان أغنية التطريب البلاغى، مُنحازا إلى الإبهار الموسيقى، فإن الأغنيات لم تُقدّم هذا أيضا، وجاءت خطوط الألحان والتوزيع كلها مُعتادة ومُكررة، ورغم أن الألبوم حصيلة تعاون 8 شعراء و5 مُلحنين و4 موزعين، كانت مساحة التنوع أقل كثيرا من تلك الكتيبة، وأقرب جدا إلى فردية عمرو وروحه التى يُمكن تلمّسها فى عشرات الألحان التى وضعها لنفسه من قبل.

 

أسطورة عمرو دياب فى مفترق طرق
 

ربما يبدو الحديث أكثر تعقيدا من مادته ومرتكز دورانه. يراهن عمرو دياب رهاناته المتتابعة، ويُجرّب خلطته الفنية، ويُدير تروس ماكينته لإنتاج مزيد من الأغنيات والموسيقى، لا يشغله فى كل هذا نجاح الرهانات أو فشلها، فقط يفعل ما يحبه ويقتنع أنه جيد وصائب، ربّما لهذا يمتلئ بيقين ضخم بمشروعه وقدراته، ولا يضع عينيه على تفاصيل الطريق ومطباته وعقباته، ويعجبه بالتأكيد أنه بات ظاهرة فنية واجتماعية قائمة ومُتجددة التأثير موسميا، لكن تلك المكونات التي مثّلت عناصر نجاح عمرو لقرابة أربعة عقود، باتت الآن عناصر التهديد، ومكمن الخطر على التجربة وصاحبها!

عُزلة عمرو ليست خيارا صائبا، وقراره الشامل بالاحتجاب وتعطيل جسور الاتصال بالناس أكثر ما يُهدّد مشروعه بالتكلس وماكينته بالعطب. يحتاج المتربع على عرش الغناء أن يُطل على رعيته بين وقت وآخر، وأن يستطلع أحوال تلك الرعية ومُكابداتها، ولا مانع من أن يتخفى ليلا أو نهارا ليأكل الطعام ويمشى فى الأسواق مع المشائين والمتطلعين إليه كل موسم وأغنية وحفل. لا أقصد أن يهبط عمرو من برجه المحفوف بالكلام والأنغام، وإنما أن يأخذ الحكمة من أفواه الباحثين عنها، وأن تكون مادته ممن يتطلع لأن يشتروا مُنتجه، وليس فى معامل زجاجية مُعقمة ومعزولة عن تفاعلات الواقع وما يتشكل فى رحمه من أجنّة ومواليد وأفكار.

أخطر ما يُهدد عمرو دياب هو عمرو نفسه، وأن الأسطورة ربما تقف فى مفترق طرق. فى الواقع فإن طول الأمل قد لا يُبلِّغ المُنى أحيانا، واعتياد العافية ربما يقود إلى الوهن، ومن طُول ما جرّب "عمرو" النجاح آمن بالطريق أكثر من الوجهة، وبالوسيلة أكثر من الغاية، وتورّط فى تصوّر غير دقيق عن سهولة اللعبة وموثوقية نتائجها مهما تبدّلت المعطيات. ربما يكون نجاح ألبوم "سهران" قبل استماعه أمرا مُدهشا يؤكد الظاهرة ويضع حجرا جديدا فى جدار الأسطورة، لكنه يُمثّل إزعاجا مركبا فى الوقت نفسه، فأن تأمن العواقب يعنى أنك قد لا تُجدد الحذر أو تعد العُدّة، وما يُلخّصه "سهران" ضمن حلقات المشروع لا يتجاوز حقيقة أن الهضبة آمن العاقبة، فاستسهل المسار وابتلع التقليدية راضيا، وبعيدا عن فداحة ارتضائه حُكم دولة الغناء بدون مجهود، فإن ما يُوجب القلق أن الظاهرة تقترب خطوة أخرى باتجاه الخطر، ما يعنى أن عمرو الآن عليه العمل بقدر مُضاعف، لا ليتفوق على طابور المنافسين ويُرضى طوابير المستهلكين، وإنما ليتفوق على عمرو دياب نفسه، ويتخلص من مخاطره على التجربة والمشروع، فالحقيقة أن عمرو بات ألدّ أعداء عمرو!

 


 

 

هذا الخبر منقول من اليوم السابع