عمرو الزيات يكتب : الطبعُ والتجديدُ في مَقاماتِ الغَزَّاوي

عمرو الزيات يكتب : الطبعُ والتجديدُ في مَقاماتِ الغَزَّاوي
عمرو الزيات يكتب : الطبعُ والتجديدُ في مَقاماتِ الغَزَّاوي

1- توطئة : اتجاهات الأدب المعاصر
      ثمَّ فرق كبير وبون شاسع بين المبدع والمقلد؛ فليس كل ما نطالعه من أعمال ونصوص أدبية يمكن اعتبارها بحال من الأحوال نماذج إبداعية – وإن التزمت بمبادئ الفن وقواعده – إذ " ليس المبتدع كمن يبتني له حوضًا تجاه ينابيع المطبوعين، يرصفه بحجارتها وحصبائها، ويملؤه بطينها ومائها، ثم يدعوه بغير أسمائها؛ ولكن المبتدع من يكون له ينبوع يستقي منه كما استقوا، ولا قبل بذلك إلا لمن كان له سائق من سليقة تهديه إلى مواقع الماء، وبصر كبصر الهدهد يزعمون أنه يرى مجاريَ الماء تحت أديم الأرض وهو طائر في الهواء"( )
      إن من يطالع نماذج الأدب في عصرنا – وهي كثيرة ومتباينة -  يجد أن الأدب فيها لا يخرج عن اتجاهاتٍ ثلاثة لا رابع لها، أولها: اتجاه مُقَلِّد لا يعدو كونَه صورةً من أدب القدماء؛ بل هو ظلٌّ للقدماء وصورةٌ مشوهةٌ عنهم، فلا قديمًا وعىٰ، ولا جديدًا قدَّم؛ وهذا الاتجاه اكتفىٰ بالقشور ولم ينفذ لجوهر الأدب، وشتانَ ما بين الجوهر والقشور!!
      ثانيها: ذلك الاتجاه الذي بهرته ألفاظٌ براقة مثل الحداثة فلهَثَ خلفها، مرددًا محفوظاتٍ ما أنزل الله بها من سلطان، وهم – في رأينا – أبواقٌ تنعقُ في كل وادٍ،  بضاعتهم في سوق النقد كالدرهم المسيح، وما الذي يدَّعونه بقصيدة النثر عن الناس ببعيد. لقد شاع مفهوم الحداثة على ألسنةِ بعض الدارسين وأشباه المثقفين دون وعي لـمـا يُراد به؛ فالـحداثة تعني الـخروجَ والثورةَ على كل موروثٍ وتحطيمَه، وثمة فرقٌ معلومٌ بين الإبداع والفوضىٰ،  فالإبداع هو كسرُ جميع القيود التي تكبِّل الإنسان، وتحُول دون انطلاقه في سمـاواتٍ رحيبة مستكشفًا عوالـمَ جديدة، ومبتكرًا لكل طارف؛ رغم تمسكه بكل تليد، أما الفوضىٰ فتعنى الخروجَ عن القواعد وهدمَها وعدمَ الالتزام بها، مضىٰ ذلك الاتجاه مِعولَ هدمٍ في صرح العربية، ومع شديد الأسف فإن له أنصارَه ومؤيديه من نقادٍ كنا ننتظر منهم أن يرسموا معالمَ الطريق أمام المبدعين؛ بيد أنهم ضلّوا الطريق وأضلوا وظلموا أنفسهم والمبدعين، وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا. 
     ثالثها: اتجاه عصري امتلأت نفسه – حتى الكظة – بأدب القدماء، قابض على لغته، آخذٌ بتلابيب نفسه مخافة أن ينساق خلف تلك الدعوات الهدامة، لكنه – في ذات الوقت – يرىٰ أنصاره العالَم من حولهم بعيونهم لا بعيون القدماء، يشاركون أبناء مجتمعهم أفراحهم وأتراحهم دون تكلف أو مبالغة، يتخذون  من ميراثهم العربي  قاعدة يشيدون  عليها مجدهم غير غافلين متغيرات عصرهم، اطلعوا على ثقافة الغرب؛ لكنهم-  وتلك سمة أصيلة فيهم - لا يـحبُّون أن يلبسوا العقل العربي قبَّعة الغرب، يدركون أن جلَّ المناهج الغربية لا يصلح تطبيقُها على أدبنا العربي؛ فلكل لغة ما يناسبها تبعًا لخصائصها وسماتها التي تميزها عن سائر اللغات، فتية يضربون بجذورهم في تاريخ العرب الأدبي والثقافي الذي ظل-  وسيظل بإذن الله- منهلاً لكل الحضارات التي تأثرت بتلك الحضارة العربية العريقة.
      والأدب العصري أثر من آثار روح العصر في نفوس أبنائه، فمن كان يعيش بفكره ونفسه في غير هذا العصر، فما هو من أبنائه، وليست خواطر نفسه من خواطره.
     إن كان من أدباء العصر من " هز أدبهم رواكد النفوس، وفتح أغلاقها، فلقد فتحها على ساحة من الألم تلفح المطل عليها بشواظها، فلا يملك نفسه من التراجع حينًا، والتوجع أحيانًا، وهو العصر، طبيعته القلق والتردد بين ماض عتيق، ومستقبل مريب، وقد بعدت المسافة فيه بين اعتقاد الناس فيما يجب أن يكون، وبين ما هو كائن، فغشِيَتهم الغاشية، ووجد كل ذي نظر فيما حوله عالمًا غير الذي صورتْه لنفسه حداثة العصر وتقدمه.( ) 
     ولا يفهم من كلامنا أنا ممن يرفضون القديم أو من هؤلاء الثائرين على أدبنا الموروث؛ فقد علم كل من قرأ لنا أنّا – وهذا الشرف كل الشرف – من الدعاة للمحافظة على أدبنا الموروث قوانينه وقواعده؛ ولكنا – في الوقت ذاته – لا نقبل بحال من الأحوال أن يذوبَ الأديب في القديم كلية؛ فيصبح مسخا تعافه النفوس ويثير فيها تقززا، "وليس بصحيح أن الناس مولعون بكل جديد، وإنما الصحيح أنهم يقاومونه ويتهيئون له على الأيام، وأن جديد اليوم إذا كان صالحًا فهو خليق أن يصبح مألوف الغد، وليس كل جديد صالحا … والاتزان في الحياة ألزم وأجدى وأكفل، باطراد التقدم من طيش التعجل."( )
      لم نرِد بتلك السطور أن نفرِّقَ بين اتجاهات الأدب في عصرنا، أو أن نضع يدَ القارئ على الفروق الجوهرية بين الاتجاهات السائدة في تناول نماذج الأدب فقط؛ وإنما نتغيا بذلك أن نضع ذلكم الاتجاهَ المطبوعَ موضوعَ الدراسة في مكانه من الأدب، ولسنا هنا في حاجة إلىٰ أن نذكِّرَ القارئ الكريم أنّا عازمون على التزام الحق والصواب، ولعل السطورَ القادمةَ خيرُ برهانٍ على ذلك.
2- العتبات 
      مصطلح ( العتبات ) وهو الترجـمة لكلمة  paratexte  التي  ظهرت في  كـتابات (جيرار جينيت) ، وقد نـُــقل  للعربية باسم  العتبات ، أو  النص  الـموازي، الـمحيط الخارجي، الملحقات النصية، سياج النص ... إلى آخر هذه المسميات، وهي كلها تحمل معنًى واحدًا يشير إلى العناصر الإضافية خارج وداخل النص الأدبي .


أ- العنوان: 
    " العنوان أولـىٰ العتبات التي تصنع جسورًا للقارئ يعبر من خلالـها لأعمـاق النص ومبدعه، تمتد تلك الجسور لتصِلَ بالمتلقي لأعمـاق المبدع، وتجعله ينفذ لسماءات النص الرحيبة "( ) وهو المفتاح في يد القارئ يفتح به بابًا يلِجُ من خلاله آفاقه لفهم النص والتحليق مع المبدع، أو قل: إن القارئ والمبدع – من خلال العنوان – يتبادلان الإهابين؛ فترى القارئَ يبدع في تأويل النص، والمبدعَ يراقبه مستمتعًا بتأويله وهو يخطو خطواته الأولى في الطريق إلى عوالم النص.
    "مقامات الغزّاويّ" يبدو العنوان في ظاهره من تلك العناوين العامة؛ بيد أنه على نقيض ذلك تمامًا؛ فهو عنوان شديد الخصوصية، عنوان يحمل من الدلالات ما يشي بعمق التاريخ، والمحافظة على الموروث العربي من جهة والاعتداد بالذات المبدعة من جهة أخرى؛ إذ يكسو الكاتبُ هذا الفنَّ ثوبًا قشيبًا استطاع أن يزينه بموهبته الطاغية، ولغته البديعة التي تمتاز بالشاعرية، وحين تطالع هذا العنوان تجد نفسك أمام سؤال: ما الجديد في مقامات الغزاوي؟ ولعل الصحائف التالية تجيب على السؤال. 
     سيق من العنوان  أن موضوع الكتاب هو ذلك الفن الذي نشأ عربيًا خالصًا في القرن الرابع الهجري على يد أبي الفضل أحمد بن الحسين بن يحيى المعروف ببديع الزمان الهمذانى(٣٤8-398هـ)، والمقامة فن نثري يقوم على السرد وهي تشبه القصة القصيرة، وتتميز بالسجع وكثرة البديع، وتحتوي مِلَحًا ونوادر،  ويغلب عليها أن تعتمد على راوٍ وبطل، وهي حكاية سردية خيالية لها مغزًى وهدف، وقد عرّفها القلقشندي بقوله:" هي جمع مقامة، وهي في أصل اللغة اسم المجلس، والجماعة من الناس، وسميت الأُحدوثة من الكلام مقامةً كأنها تذكر في مجلس واحد يجتمع فيه الجماعة من الناس لسماعها"( ) ثم جاء الحريري الذي سار على منهج الهمذاني في كتابته للمقامات، ثم جاء الزمخشري، وابن الجوزي، والسيوطي ... إلى أن كان العصر الحديث فرأينا المُويلحي في مقاماته حيث استخدم فيها القصةَ سُلَّمًا للنقد الاجتماعي.
     العنوان " مقامات الغزاوي" فيه إشارةٌ لذلك التاريخ العريق، فصاحب المقامات التي بين أيدينا من هؤلاء الذين يجلُّون تراثهم العربي العريق،  وهو – بلا ريب – لديه اعتدادٌ شديدٌ بنفسه، وهي سمة أصيلة في كل إبداعه؛ يبدو ذلك من اختيار العنوان الذي يشبه "مقامات الهمذاني" و"مقامات الحريري" بيد أن فيه إشارةً خفيةً قصد إليها كاتبنا قصدًا؛ فإضافة " مقامات" إلى " الغزاوي" فيه دلالة واضحة على ذلك الاعتداد بالنفس المبدعة كما أسلفنا؛ فهي مقامات لم ولن يكتبها إلا الغزاوي وحده وإن جاءت التسمية على غرار السابقين، وفي العنوان أيضا ذلك الإيحاء على الخصوصية الشديدة، وما تلكم الخصوصية إلا صورةٌ من صور الاعتداد بالنفس المبدعة، وأمارةٌ من أماراتها.
ب- الإهداء:
       يعتبر الإهداءُ عتبةً نصيةً تحمل ما يحمله نصُّ الكتاب من حسنِ استهلالٍ إلى حسنِ انتهاء، وتحمل تلك العتبةُ – الإهداء – من التشويق ما يحمله موضوع الكتاب نفسه، وهي عتبةٌ تنافس باقي العتبات الأخرى من حيث مكانها ومكانتها، ويلعب الإهداء دورًا رئيسًا في الكشف عن  بعض الجوانب الشخصية للمؤلف؛ ونحن نزعم أن الإهداء – وحده –  مفتاحٌ لفهم شخصية مبدع العمل الأدبي؛ بل إن الإهداء من أهم العتبات النصية التي تمهد الطريق أمام القارئ قبل ولوجه النص، وتمنحه استعدادًا للتوغل فيه والشروع في القراءة، وإذا كان من الضروري معرفة عنوان الكتاب ومؤلفه، فإنه ليس من الصواب تجاوزُ الإهداء؛ إذ إنه يعطي انطباعًا عن العمل الإبداعي، ويكشف كثيرًا من الغموض المحيط به، باحتوائه على علاماتٍ ودلالاتٍ ترتبط بالنص ويرتبط بها على نحو يتفاوت من إهداءٍ إلى آخر. والإهداء لغةً من الهدية وهو من  الفعل (هدیٰ)، جاء في المعجم الوسيط: "أهدىٰ الهديةَ إلىٰ فلانٍ وله بعث بها، فالإهداء مرتبط بالهدية وما تحمله من معاني المحبة والتقدير والمجاملة.
      أما معناه الاصطلاحي فهو جملة أو عبارة أو نص يصوغه الكاتب بغية تقديم عمله الإبداعي إلى شخصٍ ما أو غيره  تجمعهما  عَلاقةٌ حقيقية أو معنوية؛ تقديرًا له ورفعةً لشأنه، تتصل به مَعانٍ من التودد والعرفان ورد الجميل.
       "إِلَى مَنْ فَتَحَ الطَّرِيْقَ, وَعَبَّدَ السَّبِيْلَ: الْهَمَذَانِيِّ, وَالْحَرِيْرِيِّ" جاءت صورة الإهداء على صورة  الجار والمجرور، وهي أشهر الصور التركيبية التي تفتح أبوابًا شتىٰ من التشويق والترقب، يعود اسم الإشارة (من) وصلته (فَتَحَ الطَّرِيْقَ) وعطف الكاتب على تلك الجملة جملة أخرى هي (عَبَّدَ السَّبِيْلَ ) على المُهدىَ إليه وهما على الترتيب الهمذاني والحريري، ونحن نؤمن إيمانًا لا يزحزحه مزحزح، ولا يغيِّره مُغيِّر أن هذا الترتيب – بين جملتي الصلة – لم يأت اعتباطًا، وليس من قبيل رصِّ جُملٍ بينها ترادف أو إطناب لامعنى له؛ فكاتبنا - كما عرفناه من خلال كتاباته وناهيك عن تخصصه الأكاديمي – يجيد توظيف الكلمات توظيفًا يحمِّله من الدلالات ما لا حصر لها، والدكتور الغزاوي من إخوان هذا الطراز الذي تستفز لغتُه كلَّ ما لديك من ملكات إن أردتَ أن تسير معه في ميدانه؛ لتعود مكتظَّ النفس بتلك الوجبات الفنية التي تمنحك القوةَ على مواصلة السير معه،  والسباحةِ في محيطه هادر الموج.
     نعود للترتيب بين جملتي الصلة وللمُهدىٰ إليه في الإهداء " إِلَى مَنْ فَتَحَ الطَّرِيْقَ, وَعَبَّدَ السَّبِيْلَ: الْهَمَذَانِيِّ, وَالْحَرِيْرِيِّ" وجليٌّ أن المهدى إليه هو الهمذاني والحريري، وكلاهما ( فَتَحَ الطَّرِيْقَ)، و (وَعَبَّدَ السَّبِيْلَ)؛ بيد أن المتأمل للفعلين (فتح) و (عبَّد) لَيجدُ أن الكاتب كان يريد تأكيد ذلكم المعنى؛ فالهمذاني هو من (فتح) الطريق؛ بل هو من (فتح) ذلك العالم الجديد لهذا الجنس الأدبي، ووضع قواعده الأولى ورسم معالمه، لذلك جاء هذا الترتيب بين الفعلين وكذا المُهدىٰ إليه، ثم يجيء الفعل (عبّد) والذي يوحي بالتذليل وإزالة العراقيل ليكون السير ميسورًا، وهذا ما فعله الحريري في مقاماته حيث سار في الطريق التي فتحها الهمذاني والتزم طريقته؛ لكنه كان أبدعَ خيالًا، وألطفَ فكاهةً، وأكثرَ أمثالًا، وأبرعَ في استخدام السجع؛ فهو صاحب لغة متینة، قصیرة الجمل، يقطِّعها  تقطيعًا  موسيقيًا بديعًا.
      إن الترتيب بين الفعلين مقصودٌ؛ فأحدهما فتح الطريق، وهو الهمذاني، والآخر عبَّد السبيل وهو الحريري، وإن كان كلا الرجلين قد فتح الطريق وعبَّد السبيل لمن جاء بعدهما،  ولسنا هنا بصدد المقارنة بين الرجلين؛ لكنا نحاول استكشاف دلالة ذلك الإهداء وما يشي به من علامات العرفان لهذين العَلَمين الكبيرين. ليس الدكتور الغزاوي بمُنكِرٍ فضلَ الرجلين، وإنَّ مقاماته تلك لهي برهانٌ على هذا العرفان بالفضل لما قدَّماه للعربية عمومًا وله خصوصًا، وهي رسالة مضمونها" هذا العمل عرفانٌ بفضلكما عليه وعلىٰ صاحبِه، نحن على دربكم ماضون – وإن كنّا لسنا ظلَّاً لكما- نبدع ونطوّر ونضيف إلى ما قدمتما؛ خدمةً للعربية وآدابها. 
3 – الموضوعات والقضايا 
       ليس بخفيٍّ على أحد أن الهدف الأول من المقامات هو هدف اجتماعي تعليمي، لقد وضع الهمذاني مقاماته في الأصل لهذا الهدف حيث كان معلمًا في نيسابور يجلس إلى طلاب العلم، ويلقي عليهم دروسًا في اللغة والبيان، ويرىٰ بعضُ النقاد أن المقامات وُضِعتْ لهذا الهدف تحديدًا، والمقامات تعد تمثيلًا للمجتمع وقضاياه وطبائع أهله، وصورةً صادقةً لعاداتهم وطبقاتهم.
      تتنوع موضوعات "مقامات الغزاوي" حسب القضية المعالَجة والموضوع؛ إذ يرصد الكاتبُ في براعةٍ بعضَ قضايا المجمتع، والغزاوي ابن هذا المجتمع، "وهو رجل تيمم هذه الحياة محرابًا، واحتواها غابًا، وصدف عنها سرابًا، لابسٌ منها خفايا أسرارِها، واشتفَّ مرارةَ أقدارِها، وتتبع غوابرَ آثارِها، وحواضر أطوارِها"( )، فإذا نصح أو كتب في فلسفة الحياة كما تراءت له، كان هذا مجالَه وميدانَه الذي حاز قصب السبق فيه غير لاهثٍ ولا مَكدودَ الأنفاسِ لبُعد المضمار، ووعورةِ السبل، وكيف يدركه نصَبٌ وهو أمَّة وحده؟! ترنو إليه العيون وتهفو إليه القلوب، تحاول اللحاق به، بيد أن الأنفاس تنقطع دون ذلك.  ولعله – وفي ذكاء شديد –  أراد جذب انتباه قارئه فكانت المقامة الأولى التي تحمل هذا العنوان " مَقَامَةُ الْعُطَاسِ" فالمتلقي يفهم بداهة أن موضوع المقامة هو ذلك الوباء الذي ضرب العالم فقذف في القلوب الرعب، وما نلبث أن نسمع من راوي المقامة (أَبُوْ كِمَامَةَ الْكُوْرُوْنِيُّ) "وَقَدْ تَبَاعَدَتْ أَجْسَادُنَا, وَتَنَاثَرَتْ أَشْخَاصُنَا, حَتَّى كَأَنَّ الْخِصَامَ قَدْ ضُرِبَ بَيْنَنَا بِسُوْرٍ لَهُ بَابٌ, بَاطِنُهُ فِيْهِ الْمَلَامُ, وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْمَوْتُ الزُّؤَامُ, وَقَدْ تَلَثَّمَ كُلٌ مِنَّا كِمَامَتَهُ, وَاعْتَجَرَ شَالَهُ وَعِمَامَتَهُ, فَتَرْحِيْبِنُا بِالْكَلَامِ دُوْنَ مُصَافَحَةِ الْأَيْدِي بِالسَّلَامِ, قَدْ حَاذَرَ كُلٌّ مِنَّا الْقُرْبَ مِنْ صَاحِبِهِ الْحَمِيْمِ, وَتَجَافَى عَنْ أَخِيْهِ السَّلِيْمِ, كَأَنَّهُ وَقَدْ تَبَدَّى عَدُوًّا لَدُوْدَا, أَوْ حَاقِدًا مُتَنَافِرًا حَسُوْدَا, وَقَدْ تَنَبَّهَ الْجَمِيْعُ مِنْ الْكَبِيْرِ لِلرَّضِيْعِ إِلَى مَا نَحْنُ فِيْهِ مِنْ دَاءٍ عُضَالٍ, وَمَرَضٍ فَتَّاكٍ قَتَّالٍ, يَنْتَقِلُ بِالْعَدْوَى, كَأَنَّهُ الْبَلْوَى, فَأَحْضَرَ كُلٌّ مِنَّا حَاجِيَّاتِهِ, وَأَصَرَّ عَلَى اصْطِحَابِ ضَرُوْرِيَّاتِهِ, فَجَلَبَ مَعَهُ أَكْلَهُ الْأَثِيْرَ, وَلَازَمَ شَرَابَهُ الْمُثِيْرَ, وَلَمْ يَنْسَ مَقْعَدَهُ الْوَثِيْرَ, حَتَّى لَا نَتَبَادَلَ الْأَغْرَاضَ, أَوْ نَلْجَأَ إِلَى تُهْمَةِ التَّبَادُلِ أَوِ الْإِقْرَاضِ" 
       ثم تجيء "مَقَامَةُ السُّفُوْرِ" وتعالج موضوعًا اجتماعيًا قديمًا متجددًا، كثر حوله اللغط، واختلطت فيه الآراء، بعد أن أيقظ الفتنةَ بعضُ المأجورين من مدَّعي العلم والثقافة، عالج الغزاوي تلك القضيةَ بطريقة سردية ماتعة،  وبمثالٍ واقعيٍّ لتلك البغيِّ السافرة؛ ليُلجِمَ كلَّ مشكِّكٍ في الحجاب، وهي رسالة فيها دعوة لصيانة المجتمع، فأجمِلْ بها من دعوة! يصيح في قومه: " أَفْتُوْنِي يَا قَوْمُ؛ فَقَدْ تَعِبْتُ, وَأَرِقْتُ, وَذَهَبَ عَنِّي النَّوْمُ, وَأَنْتُمْ أَهْلُ الْحَلِّ وَالْعَقْدِ, وَآَلُ الْمَحْتِدِ وَالْمَجْدِ, فَبِكُمْ أَهْتَدِي, وَبِرَأْيِكُمْ أَقْتَدِي, فَأَخْلِصُوا لِيَ النَّصِيْحَةَ, حَتَّى أَسْتَطِيْعَ أَنْ أَحْزِمَ أَمْرِي فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ السَّنِيْحَةِ, وَأَسْتَمِيْحُكُمْ عُذْرًا, وَلُطْفًا, لَا أَمْرًا, أَنْ تَجْعَلُوْهَا فَتْوَى بِالِّلسَانِ فَصِيْحَةً!"
     ومن موضوعات المقامات التي بين أيدينا ذلك الموضوع الذي يمكننا أن نطلق عليه (المقامات الذاتية الوجدانية) وهي تلك المقاماتُ شديدةُ الخصوصية التي تعبر عن كاتبها تعبيرًا صادقًا، وهي تشبه كثيرًا الشعرَ الوجداني، وكأن الدكتور الغزاوي الكاتب قد نازعه الغزاوي الشاعر؛ فهو يطل بوجهٍ ويتراءى له بين الكلمات، ولا يستطيع منه فَكاكًا، وكيف يتحرر منه وقد ملأ عقله وقلبه؟! وآض أسيرًا له، هائمًا في عالمه، ومن نماذج تلك المقامات الذاتية: (مَقَامَةُ الْحَيْرَةِ) والحيرة موضوع شغل الأدباءَ عمومًا والشعراءَ خصوصًا سيما الرومانسيين منهم، وجاءت تلك المقامة تأكيدًا لذلك، يشهد موضوعُها بذاتيتها؛ حيث تعبر عن حَيرة الإنسان بين الواجب والحق، "بَيْنَ الْوَاجِبِ وَالْإِنْسَانِيَّةِ, وَالْحَقِيْقَةِ وَالنَّسْبِيَّةِ, بَيْنَ الْمُبْتَدَا وَالْمُنْتَهَى, وَالْحَاضِرِ وَالْمُشْتَهَى, بَيْنَ الْفَضِيْلَةِ وَالْفَرِيْضَةِ, وَالشِّدَّةِ وَالْخَفِيْضَةِ, مُتَوَزِّعًا بَيْنَ الْوَاقِعِ وَالْمِيْتَافِيْزِيْقَا, وَالْحَقِيْقَةِ وَالْفَانْتَازْيَا, بَيْنَ الْحَيَاةِ وَالْيُوْتُوْبْيَا, بَيْنَ الْمَعِيْشَةِ وَالْحُلْمِ, وَالْانْشِغَالِ وَالسِّلْمِ, بَيْنَ الْمُنَى وَالْعُلَا, وَالْأَنَا وَالْأُلَى, بَيْنَ الْعَلَاقَةِ الْإِنْسَانِيَّةِ وَالْمَكَانَةِ الْإِدَارِيَّةِ, بَيْنَ الْقُوَّةِ وَالْفِعْلِ, وَالْاخْتِيَارِ وَالْجَبْرِ, وَالنَّهْيِ وَالْأَمْرِ, بَيْنَ الْاسْتِبْعَادِ وَالْاسْتِعْبَادِ, وَالْانْتِقَادِ وَالْاسْتِبْدَادِ, بَيْنَ الْاتِّبَاعِ وَالْانْبِطَاحِ, وَالْحُرِّيَّةِ وَالْانْفِتَاحِ, بَيْنَ النَّفَحَاتِ وَالَّلفَحَاتِ ..."  إلخ تلك المتناقضات  تناقضَ إنسان العصر، وحيرته بين الواجبات والحقوق في عصر ماديّ قُتِلت الإنسانيةُ بداخله.
     هذا النموذج من المقامات وإن كانت تنتمي في هدفها إلى الهدف الرئيس التي وضعت له المقامات كما ذكر الدكتور الغزاوي " يَنْبَغِي عَلَيْكَ الْاخْتِيَارُ, مَا دُمْتَ قَادِرًا عَلَى اتِّخَاذِ الْقَرَارِ!!" - إلا أنها جاءت في إطارٍ ذاتي وجداني جديدٍ علىٰ المقامات، فلم يُذكَر فيها راوٍ، ولا عجب في ذلك لأنها – كما ذكرنا – ذاتيةٌ تعبر عن كاتبها وحيرته وفلسفته في الحياة؛ فهو بطلها وراويها، وهو – قبل كل ذلك – مبدع هذا النوع الجديد من المقامات.
     يندرج تحت هذا النوع من المقامات مقامة " مَقَامَةُ الْمُنَاجَاةِ" وتمثل دفقةً شعوريةً، و مجموعةَ أسئلةٍ حائرة، كما أنها تصور أدقَّ اللحظات التي يخلو فيها المرء بنفسه متأملًا ذاته، متحسرًا على ما مضىٰ، راجيًا أن تهتديَ نفسه لطريق الحق، ولا يخدعها زيفُ الحياة وبهرجها " يَا نَفْسُ مَاذَا تَنْتَظِرِيْنَ؟! وَإلَامَ تُسَوِّفِيْنَ؟! وَإِلَى مَتَى تَتَرَقَّبِيْنَ؟! بَعْدَ أَنْ ذَهَبَ شَرْخُ الصِّبَا وَجَمَالُ السِّنِيْنِ, وَوَلَّى عَهْدُ الْوَفَا وَوَعْدُ الْحَنِيْنِ, فَهَلْ لَكَ مِنْ مَتَابٍ, وَرُجُوْعٍ وَمَآَبٍ, وَانْتِبَاهٍ إِلَى جَادَّةِ الصَّوَابِ, بَعْدَ أَنْ صِرْتِ إِلَى الْكُهُوْلَةِ أَدْنَى مِنْكِ إِلَى عَهْدِ الْفُتُوَّةِ وَالشَّبَابِ, وَهَا قَدْ قَرُبَ الْأَجَلُ, وَحَانَ الْكِتَابُ, وَقَلَّ الْعَمَلُ؟ وَلْتَعْلَمِي عِلْمَ الْيَقِيْنِ أَنَّهُ مَهْمَا طَالَ عَهْدُكِ مَعَ الظِّبَاءِ الْغِيْدِ, وَالْعَيْشِ الرَّغِيْدِ, وَالْوَقْتِ السَّعِيْدِ, فَقَرِيْبًا سَيَأْتِي يَوْمُ الْوَعِيْدِ, يَوْمُ الرِّضَا والتَّسْلِيْمِ, يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُوْنَ إِلَّا مَنْ أَتَى اللهَ بِقَلْبٍ سَلِيْمٍ!!"
      ويمثل هذا النوعَ عند الدكتور الغزاوي؛ بل قمته تلك المقامة الخمسون وهي آخر مقامات هذه المجموعة وتحمل هذا العنوان  "مَقَامَةُ الْقَبُوْلِ" وتتجلى فيها سمةٌ شخصيةٌ تميز بها الدكتور الغزاوي ونعني بها – كما ألمحنا من قبل – الاعتدادَ بالذات، ولا يُفهَم من ذلك أن صاحبنا من هؤلاء المغرورين المتكبرين؛ فهذا هو الفهم السقيم والأفق الضيق، وثمَّ فرقٌ كبير. بين الغرور والاعتداد بالذات كما هو معلوم.
      قد يحمل الحبُّ المحبَّ على التذلل والتنازل أو التضحية من أجل المحبوب، والأمثلة على ذلك – من واقع الحياة عمومًا والأدب خصوصًا -  كثيرةٌ تندُّ عن الحصر: يقول محمد بن داود الأصبهاني:( ) فقد يكون التذلل للحبيب من شيم الأديب، ذكر ابن حزم الظاهري صاحب كتاب (طوق الحمامة) "حضرتُ مقام المعتذرِين بين أيدي السلاطين، ومواقف المتهمين بعظيم الذنوب مع المتمردين الطاغين، فما رأيت أذَلَّ من موقف محبّ هيمان بين يدي محبوبٍ غضبان!"( ) وهذا أبو الطيب المتنبي الذي لا ينكر أحدٌ اعتدادَه بنفسه اعتدادًا وصل به إلى جنون العظَمة يقول:
تذلّلْ لها واخضعْ على القرب والنوىٰ     فما عاشقٌ من لا يذلُّ ويخضعُ!
      أما صاحبنا الغزاوي فاعتداده بنفسه يمنعه من هذا التذلل لمحبوبته، فما عساه يقول: اِقْبَلِيْنِي كَمَا أَنَا, أَنَا, فَلَا يُوْجَدُ غَيْرِي أَنَا ... اِقْبَلِيْنِي كَمَا أَنَا, أَنَا؛ فَلَنْ أَكُوْنَ إِلَّا أَنَا ... وَعَلَيْكِ يَا سَيِّدَتِي أَنْ تَخْتَارِي إِمَّا أَنَا ... أَوْ ... أَنَا!!! وغيرُ خافٍ على ذي بصرٍ نبرةُ اللغة، وتكرارُ الضمير (أنا) ودلالتُه على ما ذهبنا إليه.
      وثمّ ضرب آخر من المقامات تمتاز برُوح التفاؤل وبثِّ الأمل وحبِّ الخير لأبناء المجتمع، وهي من الموضوعات السامية؛ إذ تدعو إلى هدفٍ نبيلٍ ومبدإٍ سامٍ في عصر تطحن البشرَ ظروفُ الحياة وتعركهم عركَ الرَّحىٰ بثفالها؛ غير أن دور الأديب هو الإصلاح، والأديب الحق والمبدع الصادق لا يكتب ليصفِّقَ له الناس فحسب؛ بل يكتب ليصلحَ ويهذّبَ ويربّي، فإن رأيتَ مبدعًا – أيَّ مبدع – يكتب لينالَ إعجابَ الناس، وحَوزَ كلماتِ الثناءِ منهم فاتهِمْه بخيانة ملَكته والتخلي عن رسالته التي خلقه الله لها.
     والمبدع ناقدٌ – في المقام الأول – وهو ناقدٌ من طراز فريد ينتقد ما يراه بطريقته الإبداعية، وفي ذرعنا أن نقول: إن جميع الأعمال الإبداعية الرصينة هي نقدٌ للواقع بطريقة غير مباشرة؛ والمبدع ناقضٌ لكل ما بُني على غير أساسٍ من ضميرٍ وفكرٍ ومبادئَ راسخة، وهو بانٍ لصروحِ القيم والمثل العليا من خيرٍ وجمالٍ وإصلاحٍ كما يرى بفطرته وملَكاته المبدعة. والأمثلة على ذلك كثيرة تناولها الدكتور الغزاوي بتلك الطريقة البديعة، تلوح فيها طبيعته الميّالة للنقد؛  ففيها النقدُ اللاذعُ المغلفُ بتلك اللغة التي نعرفها عنه ومن أمثلة ذلك: "مَقَامَةُ الْقِيْمَةِ" ومنها أيضا "مَقَامَةُ الشُّهْرَةِ" و " مَقَامَةُ الْمُؤَامَرَةِ" و " مَقَامَةُ الْخِيَانَةِ" و " مَقَامَةُ الْأَلْقَابِ الْخَاوِيَةِ" وجميعها مقاماتٌ ناقدةٌ لأشخاصٍ وعاداتٍ ساقها الكاتب كاشفًا عما بهم من سوء، راسمًا معالم الطريق للبعد عنها واجتنابها.
     ومن الموضوعات التي تميزت بها مقامات الغزاوي الهجاء، والهجاء – في المقام الأول - غرضٌ شعريٌّ أصيل، ولم ينسَ صاحبُنا يوما أنه شاعر، وأن شيطان شعره الهجَّاء لا يفتأ ينازعه بين فينةٍ وأخرىٰ، فنراه في "مَقَامَةُ التَّهْدِيْدِ" يكتب وكأنه ينظِم إحدىٰ قصائده في الهجاء؛ ولكنه يوظفها توظيفًا يناسب رُوحَ المقامة وأسسَ بنائها.  
     وبعدُ، فقد تنوعت موضوعات مقامات الغزاوي كما رأينا، وهذا التنوع العجيب منحها ما لا يمكن تجاهله من المتعة والطرافة والتشويق؛ فإن صاحبنا يدرك أن النفسَ أكثرُ تَوقًا للتغيير خصوصًا إذا طالت النغمة وتواترت ألحانها؛ بل إنها لتَعافُ الطعام المقدَّم لها في كلِّ يومٍ وكلِّ حين وإن كان أشهىٰ ما تحب من ألوان الطعام؛ لذلك كان هذا التنوعُ العجيب والتجديد الذي يدل على مقدرةٍ منقطعةِ النظير وتمكن من هذا الفن.       
4- اللغةُ بين العَراقةِ والمعاصَرة
      اللغة هي العصا السحرية في يد المبدع، وهي الوعاء الذي يُحمِّله فكره، ولكل أديبٍ لغتُه ومعجمُه الخاص، وقد تختلف لغة الإبداع تبعًا لشخصية المبدع وثقافته وموروثه، ونعني بهذا الاختلاف استخدام اللغة من حيث جزالتها، وفصاحتها، وسهولة ألفاظها، وقربها أو بُعدها من لغة الدهماء العوام، وفرقٌ كبيرٌ بين هذا وذاك.
      " كل امرئٍ ينفق من كيسه"  جملة كانت جوابًا عندما سُئل أستاذنا الدكتور عبد اللطيف عبد الحليم (أبو همام) – رحمه الله - لماذا تستخدم لغةً يصعب على بعض الناس فهمُها؟ تلك الجملة قليلةُ المبنى غزيرةُ المعنى تؤكد أن لغة الأديب – أيُّ أديب – نتاجُ ما يملك من ثقافةٍ وإلمامٍ بلغته العريقة، وهي المرآة التي يُرىٰ من خلالها ما تطويه نفسُه أسرارَ العظمة أو الضعة، ونحن نرى أن الأديبَ الحقَّ مَن يرفع الناس إليه لا من يهبط إليهم، وليس في ذلك من عجب؛ فكل أديبٍ وما أُشرِجَ عليه، ونحن – ومثلنا كثير - من هذا الفريق الذي يرفض التطرِّيَ والميوعةَ والتخنثَ في استخدام اللغة.
     ولأن اللغة – كما هو معلوم - صدًى لثقافة الذات ومحيطها فإن لغة الغزاوي في مقاماته تجمع بين العراقة والأصالة، وبين اللغة العصرية، ونعني باللغة العريقة تلك اللغة التي يحلو للبعض أن يطلق عليها (لغة المعاجم) وهي في رأي هؤلاء يجب أن تظل حبيسةَ المعاجم إلى أن يأتي اليوم وتمسي تلك المعاجم قبورًا لها، ولستُ أدري أيةُ أمةٍ نحن حين ندعو لقتل لغتنا وهي أعرقُ اللغات؟! إنها ماضينا التليدُ وحاضرُنا ومستقبلُنا إن أردنا أن نحيا مستقبلًا تعظِّمنا فيه الأممُ وتجلُّنا؛ بيد أن أمةً تتخلىٰ عن لغتها وتحقِّر من شأنها لهي في أعين الناس أمةٌ ذليلةٌ لا كرامةَ ولا مكانةَ لها بين الأمم، ولن يُذَلَّ شعب إلا إذا سمح بإهانة لغته وماضيه وتُراثه، ويا له من موقف مخزٍ!!
     ولا يتوهمنَّ متوهم أنّا نقدِّم لموضوع اللغة بهذا التقديم لأن لغةَ المقامة لا بد أن تكون بتلك الصورة أو تحتوى بعضَ الغريب؛ بل إن الأمر غير ذلك تمامًا لأن الدكتور الغزاوي – في كل كتاباته شعرًا ونثرًا – من المحافظين على اللغة والمدافعين عنها، وهو من الاتجاه الثالث الذي ذكرناه في توطئة الدراسة، وقد لا يُشعِرك الغزاوي في مقاماته بتلك اللغة أو بصعوبتها؛ فكل لفظة يفسرها سياقُها، ولا تكاد تعثر على ألفاظٍ غريبةٍ إلا نادرا، وما العيب في أنْ تستشيرَ معجمَكَ وأنت تطالع إبداعًا مثل إبداع الغزاوي ورصفائه؟ 
     رغم المحافظة على تلك اللغة يبهرك صاحبنا وأنت تتابعه كيف يمزج بين لغته تلك واللغةِ العصريةِ – رغم فصاحتها –  التي يعرفها الجميعُ، فجاءت لغته نسيجًا متقنًا صنع منه ذلك الرداء  الذي يسحر العيونَ ويمتع النفس بمرآه يقول الغزاوي في (مَقَامَةُ السُّفُوْرِ): "وَغَابَ عَنْهَا إِيْمَانُهَا, وَمَا كَانَ مِنْهَا إِلَّا أَنْ اِنْبَرَتْ, فَتَعَطَّرَتْ, وَتَبَرَّجَتْ, وَأَسْفَرَتْ, وَتَبَهْرَجَتْ, وَتَمَكْيَجَتْ, وَارْتَدَتْ مِنَ الثِّيَابِ مَا شَفَّ, وَمِنَ الْوِشَاحِ مَا رَفَّ, وَمِنَ النَّصِيْفِ مَا هَفَّ, وَمِنَ الِّلبَاسِ مَا الْتَصَقَ, وَمِنَ السِّرَبَالِ مَا ضَاقَ فَاتَّسَقَ, وَفَصَّلَ فَفَسَقَ" وصفٌ يمتزج فيه أصالةُ اللغةِ وعصريتُها في صورةٍ رائعةٍ بديعة، فمن أمثلة اللغة السامقة استخدامه لكلماتٍ قد لا يعرفها إلا المتخصصون أو المثقفون من  القراء، ونعنى بالثقافة هنا ثقافةً لغويةً من نوعٍ خاص مثل لفظة  النصيف، والنصيف هو كلُّ ما غطَّىٰ الرّأسَ من حجابٍ ونحوه، النصِيف: الخِمار، وقد نَصَّفَتِ المرأَةُ رأْسَها بالخمار. وانتَصَفَت الجارية وتَنَصَّفت أَي اختمرت، ونصَّفْتها أَنا تَنْصيفاً؛ ومنه الحديث في صفة الحُور العِين: ولَنَصِيفُ إحداهن على رأْسها خيرٌ من الدنيا وما فيها؛ وهو الخِمار، وقيل المِعْجَر؛ ومنه قول النابغة في قصيدة الشهيرة " المتجردة":    
سقطَ النصيفُ ولم تُرِدْ إسقاطَهُ       فتناولَتْهُ واتّقَتنا باليدِ
"سقط النصيف..". قال أَبو سعيد: "النصِيف" ثوب تتجلَّل به المرأَة فوق ثيابها كلّها، سُمّي "نصيفاً" لأَنّه نصَفٌ بين الناس وبينها فحَجز أَبصارهم عنها، قال: والدليل على صحّة ما قاله قول النابغة "سقط النصيف"، لأَن النصيف إذا جعل خِماراً فسقط فليس لستْرِها وجهَها، مع كشفِها شعَرها( ) كيف صنع صاحبُنا ذلك التناغم العجيب بين كلمة (النصيف) وكلمة (تَمَكْيَجَتْ) أي: وضعت المساحيق على وجهها من أجل التزين والتجمل، وهي – لا شك – لفظةٌ عصرية فرضتها مستجداتُ العصر وظروفُه؛ بيد أن الأديب ابن بيئته لا يمكنه اجتثاثَ نفسه من هذه البيئة بحالٍ من الأحوال، وقد لجأ صاحبنا لبعض الكلمات الأعجمية التي لم يكن له بدٌّ من إيرادها؛ إذ لا يغني عنها غيرُها ولا يسد مسدَّها لفظة أخرى مثل لفظة  (الْكُوْفِيْدَ) التي تعبر عن الجائحة التي سيطرت على العالم بأسره " وَقَدْ تَغَافَلَ – لَا سَامَحَهُ اللهُ - عَنْ جَائِحَةٍ تَحْصُدُ الْأَرْوَاحَ, أَوْ عَنْ هَذَا الطَّاعُوْنِ الَّذِي يَنْهَشُ فِي الْأَجْسَادِ وَالْأَلْوَاحِ"
      استطاع الغزاوي ببراعة أن يصنع هذا المزجَ بين لغته الخاصة ولغة العصر، فجاءت لغةُ المقامات قريبةً يكاد يفهمها الجميعُ متخصصين وغير متخصصين، وتلك مزيَّةٌ تُحمد له سيَّما أنه يكتب فنّا لم يخلُ من الغريب لدىٰ مؤسسَيْه: الهمذاني، والحريري، ولقد استطاع الرجلُ – بجدارة واقتدار – أن يخرجَ من عباءتيهما، وألا يجعلَ من نفسه ظلَّاً لهما، وكأني به في مضمارهما يلامس السماء محلقًا بجناحين من العراقة والمعاصرة، يزهو بما يقدم، ونحن لا نملك إلا أن نتيه بصنيعه، ونشهد له بعلو كعبه، وقدرته على توظيف اللغة توظيفًا يكشف عن موروثٍ وثقافةٍ وعلمٍ بلغته وأسرارها؛ فهو بحكم طبيعته الإبداعية عاشقٌ للغة من ناحية، وهو من سدنتها بحكم عمله أستاذًا ورئيسًا لقسم اللغة العربية بكلية الآداب بإحدى الجامعات المصرية من ناحية أخرىٰ، ولا يفهم من كلامنا أنّا نقدّر مواهبَ الناس حسب ألقابهم ووظائفهم، فموقفُنا من الألقاب معلوم، ولقد ذكرنا في غير موضعٍ أننا لا يعنينا مبدعُ النص في شيء، إنما يعنينا ماذا قال وكيف قاله، ولا نذيع سرًا إذا ذكرنا أن قلةً من أساتذة الجامعات ممن أطلقنا عليهم لقب (موظفو الجامعات) لا يستطيعون إقامة جملةٍ واحدةٍ خاليةٍ من الأخطاء: نحوًا أو إملاءً أو أسلوبًا، ولعَمري، إن هؤلاء لأكثرُ خطرًا على اللغة من الأدعياء الدهماء، "وفي غنىً نحن عن الاحتيال باللين والمداراة على القارئ ليقتنع بما نقول، فإننا لا نسأل أحدًا اقتناعه. ومن كان يحتكم برأيه إلى غير الحجة القاطعة والكلمة الناصعة فليحفظه لنفسه، فما تعودنا أن نوجه لمثله كلامًا"( )

 
5- الروافدُ الدينيةُ والموروثُ العربيُّ وروعةُ التناص
     إذا كان الدكتور الغزاوي قد صنع هذا المزجَ بين لغته العريقة التي يرىٰ أنها تنتمي إليه بحكم عشقه لها  ولغة العصر الذي ينتمي إليه فثَمَّ ظاهرة تتصل بلغته العريقة لا يمكن للقارئ أن يغفلها، ونعني بها ثقافة الكاتب الدينية، وقدرتَه على توظيف الآيات واستلهامها استلهامًا يخدم النصَّ ويؤكد فكرته ويقربها إلى المتلقي تقريبا، وأمثلة ذلك كثيرة نكتفي بالإشارة إلى بعض تلك المواضع التي تكشف عن مقدرة الكاتب وبراعته: 
- " رَحِمَ اللهُ أَيَّامَ الْعَطْسِ الْجَمِيْلِ, وَالرَّدِّ الْجَزِيْلِ, وَقَاتَلَ اللهُ الْكُوْرُوْنَا؛ فَلَكَمْ قَطَّعَتْ مِنْ أَوْصَالٍ, وَتَفَرَّقَتْ بِسَبَبِهَا أَوَاصِرُ الْاتِّصَالِ, فَإِنَّا للهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُوْنَ"!!
جاء  التناص مع الآية الكريمة ختامًا مناسبًا لموضوع المقامة  - مَقَامَةُ الْعُطَاسِ – فالكورونا وباء للأرواح يحصد، ولا نملك إلا أن نسلِّم بأمر الله ونرضىٰ بقضائه، ونردد قوله – تعالى - :  "الذينَ إذا أصابَتْهُمْ مُصيبةٌ قالوا إنَّا للهِ وإنَّا إِلَيهِ راجعونَ" الآية 156 من سورة البقرة
-  ويقول الغزاوي في (مَقَامَةُ الْمُنَاجَاةِ):"فَقَرِيْبًا سَيَأْتِي يَوْمُ الْوَعِيْدِ, يَوْمُ الرِّضَا والتَّسْلِيْمِ, يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُوْنَ إِلَّا مَنْ أَتَى اللهَ بِقَلْبٍ سَلِيْمٍ!!"  
عندما يكون المقامُ مقامَ مناجاة للنفس، وحين تشفُّ النفسُ عن بشريتها، وتعترف بما جنَتْ على نفسها بعدما خدعتها الدنيا الخادعة وأنستها آخرتها دار القرار، عندئذ يكون الندم، وندم اليوم خيرٌ من ندمِ غدٍ حيث لا ينفع الندم ولا عَوْدَ للدنيا، فإن خير ما ينفع النفس اليوم تذكيرها بغد " يَوْمَ لَا يَنفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَىٰ اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ*)  الآيتان 88، 89 من سورة الشعراء
- وفي مقامته "مَقَامَةُ الْحَذَرِ" جمع الغزاوي بين الحديثِ الشريفِ والمثَلِ العربيِّ الجاهليِّ في قوله: فَكَيْفَ يَكُوْنُ ذَلِكَ بِاللهِ عَلَيْكُمْ, كَيْفَ, كَيْفَ؟!! فَلَا وَاللهِ لَنْ يَكُوْنَ!! لَا, وَأَلْفُ لَاءٍ وَلَا, وَهَيْهَاتَ ... ثُمَّ هَيْهَاتَ ... ثُمَّ هَيْهَاتَ !!! فَقَدْ لُدِغْنَا مِنْكُمْ مَرَّتَيْنِ, وَالْمُؤْمِنُ لَا يُلْدَغُ مِنْ جُحْرٍ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ! وَعَلى نَفْسِهَا جَنَتْ بَرَاقِشُ!!!
في تلكم المقامة يحذرنا من المتلونين الذين لا تصفو قلوبهم، تغلي نفوسُهم بالإحَن، وهُم على الأنقياء بلاء. ومِحَن، وقد لُدِغ الكاتب منهم مرتين – وأغلب الظن أن تلك المقامة تعبر عن مواقفَ شخصيةٍ وظروفٍ أوقعته مع هذا الصنف من البشر، وربما يتحدث عن طبيعة غالبية البشر في زماننا – ولن يُلدغَ مرة ثالثة، ومن هنا استلهم حديثَ النبي - صلى الله عليه وسلم – الذي رواه  أبو هريرة رَضِيَ الله عنه: "لا يُلْدَغُ المؤمنُ من جُحْرٍ مرتين" تأكيدًا على طيبة قلبه، فقد أحسن الظن بهؤلاء مرة ومرة، بيد أنه لن يُلدَغَ مرة ثالثة، وحسبه أنْ لُدِغَ مرتين، ويرىٰ أن هذا الجزاء قد استحقه إذ لم يكن حذِرًا بما يكفي ولُدغ مرتين، فكان استلهامُ المثل العربي القديم "عَلى نَفْسِهَا جَنَتْ بَرَاقِشُ" وقصةُ مورده شهيرة لم تبقَ صحيفة إلا تناقلتها ويضرب عندما يكسِبُ الإنسانُ الشرَّ لنفسه وأهله دونما قصد.
- ومن الموروث العربي أيضا توظيف القول القديم في (مَقَامَةُ الْعُطَاسِ): 
" حَدَّثَنَا أَبُوْ كِمَامَةَ الْكُوْرُوْنِيُّ قَالَ: بَيْنَمَا نَحْنُ جُلُوْسٌ, كَأَنَّمَا الطُّيْوُرُ عَلَى الرُّؤُوْسِ, وَقَدِ اتَّخَذَ كُلٌّ مِنَّا مَوْضِعَهُ " عندما سيطر الوباء، وخيَّم شبحُ الموت، عمَّ الصمت، وعلت الوجوهَ الكآبةُ والحزن، وظن الناس في نفوسهم وأهليهم الظنون، فتراهم جلوسًا (وكَأَنَّ عَلَى رُؤُوسِهِمُ الطَّيْرَ) وهو قول أو مثَلٌ يُضرَب في مواقف السكون لحزنٍ أو لغيره.
     والشواهد كثيرة على روافد صاحبنا الدينية وثقافته العربية، وإنَّ استلهامَها ملَكةٌ ومقدرةٌ تستحقان الإشادة، وإدراكٌ لقيمة التناص الذي يُقرِّب المعنىٰ من نفس وقلب المتلقي، وليست استعراضًا لثقافة صاحبها، وقد اكتفينا بذكر بعضها – وهي كثيرة - مخافةَ الإملال إذ إن قليلًا يفي بالغرض خيرٌ من كثير لا يجدى نفعًا؛ بل وخيرٌ منه الصحائف البيضاء.      
6- السرد ومتعة التشويق 
      بعيدًا عما أثير من  آراء الباحثين والنقاد حول علاقة المقامة بالسرد، أو بمعنى آخر حول مفهوم القصة الحديث وتحققِها في النص المقامي، فقد رأى بعضهم أن المقامة قصة، ورأى البعض الآخر أن المقامة ليست من القصة في شيء،  في حين رأى آخرون أن المقامات نوع له سماته التي تميزه عن أي نص قصصي آخر"( ) 
      ومهما يكن من أمر، فإننا نرى أن المقامات تقوم – في أغلبها- على السرد كما هو الحال في القصة القصيرة، بيد أنها – في الوقت ذاته – تُدابِرُ القصةَ في أهم عناصرها الأساسية والفارقة وهو عنصر التكثيف؛ إذ يكثر في المقامة الإطنابُ والتَّكرار- وإنْ نبَعا من السرد واعتمدا عليه بطريقة ما - وقد تتحقق في المقامة بعضُ عناصر القصة القصيرة مثل الشخوص، والحوار، وقد يُلمَح الزمان والمكان، والحبكة والحل في حين يغيب العنصر الأساسي الفاصل بين الجنسين وهو التكثيف كما أسلفنا، ويلعب السرد في المقامة دورًا رئيسًا – إلى جانب تقنيات أخرى - في تحقيق المتعة الفنية وجذب المتلقي ؛ حيث يحفزه على الاستمرار في متابعة كل التفاصيل، وتلك غايةُ المبدع وهدفُه الذي يسعىٰ إليه ويضعه نصب عينيه.
      وقد تحقق السرد بصورٍ مختلفة في جميع المقامات؛ ففي البناء السردي ينقسم السارد إلى نوعين: ساردٌ خارجيٌّ وهو لا ينتمى للقصة، يقتصر دوره على الرواية فقط، وساردٌ داخليٌّ ينتمي للقصة وله أثرٌ بارزٌ في بنائها، وهو يقترن بالخطاب السّرديّ الذاتيّ ، وإمّا أن يكونَ الساردُ شاهدًا على الأحداث ينقلها دون أن يشارك فيها، وإمّا أن يكون شخصيّةً رئيسةً في القصّة، ويكون مشاركًا في الأحداث يقوم بوظيفة الفاعل في بناء الحدث القصصيّ ،  وكلاهما يقوم بدورٍ رئيسٍ في تكوين الأحداث، وفي مقامات الغزاوي نجد الساردَ الداخليَّ حاضرًا في جميعها، ولعل ذلك ما جعل الكاتب يهمل الراوي في معظم مقامته؛ إذ يقوم الكاتبُ بدورِ الراوي أو السارد الداخلي، فجاءت مقامات الغزاوي قريبةً في بنائها السردي مع فن القصة القصيرة في بعض الجوانب، كما بدت – أيضًا – بعيدةً البعد كله في بعض الجوانب، وسنعرض في تلك السطور القليلة التالية نموذجًا يوضح نقاط الالتقاء ونقاط الافتراق بين المقامة والقصة القصيرة.     
       في مقامته "مَقَامَةُ الْعُزْلَةِ" يتجلى عنصرُ السرد والقص ليُحدِثَ لدى القارئ نوعًا من الترقب والتشويق، ولقد تحققت في هذه المقامة بعضُ عناصر القصة، فيحكي صاحبُنا قصتَه مع صديقه الذي انقطع عنه فترة من الزمن، واعتزل الناس، ولما ذهب إليه في بيته، أخذ يقصُّ عليه سببَ عُزلتِه، وأنه سئم الناسَ جميعًا، وسئم الطيرَ والشجر، لم يعد في الحياة ما يُسعِدُ قلبَه، بل كل ما فيها من الموت يقربه، ويشكو قسوةَ الحياة وظلمَ البشر؛ حيث أخلَصَ الودَّ للناس ولم يجد منهم غيرَ النُّكران؛ فهم يتلونون تلوُّنَ الحرباء، يتأبطون الشر، وصديقُه يسمع لكنه في التفكير غارق، لا يدرى متى سيصمت ليتركه ويفارق.
      تحقق في تلك المقامة عنصر السرد القصصي، وهي قريبة جدا من القصة القصيرة، لكن لا يمكننا اعتبارها منها لغياب عنصر التكثيف كما ذكرنا، فمن مظاهر الاتفاق بين القصة والمقامة فيما يخص السرد:
  - الحدَث وهو انقطاع الصديق واعتزاله " ذَهَبْتُ إِلَى صَدِيْقٍ لِي بِالْأَمْسِ, فَإِذَا بِهِ فِي غَايَةِ الشِّدَّةِ وَالْكَرْبِ, وَالضِّيْقِ وَالْخَطْبِ, وَكَأَنَّهُ يَتَلَجْلَجُ فِي أَعْمَاقِ جُبٍّ, وَقَدْ بَدَا عَلَيْهِ وَسْمُ الْإِعْيَاءِ, وَظَهَرَتْ مِنْهُ سِيْمَا الشَّقَاءِ, وَتَبَدَّتْ آَيَاتُ الْعَنَاءِ, وَتَرَاءَى كَمَا لَوْ كَانَ خَارِجًا فِي تَوِّه مِنْ عَمَلِيَّةٍ جِرَاحِيَّةٍ خَطِيْرَةٍ, قَدْ ذَبُلَ جِسْمُهُ, وَنَحَلَ وَشْمُهُ, وَتَغَيَّرَتْ هَيْئَتُهُ, وَتَبَدَّلَتْ بِزَّتُهُ, وَانْحَنَى عُوْدُهُ, وَغَابَ صُمُوْدُهُ, وَلَمْ يَكُنْ مِنْ بُدٍّ – وَأَنَا الصَّدِيْقُ الْحَمِيْمُ, وَالصَّاحِبُ لَهُ وَالنَّدِيْمُ - إِلَّا أَنْ أَسْأَلَهُ, بَعْدَ أَنْ رَأَيْتُ سُوْءَ حَالَتِهِ.
- الزمان في تلك المقامة يتضح  الزمان  محدَّدًا وهو ( أمس) " ذَهَبْتُ إِلَى صَدِيْقٍ لِي بِالْأَمْسِ" 
- المكان  محددٌ أيضًا وهو (بيت صديقه).
 - أما شخوصها فمحدَّدون أيضًا: البطل(الراوي) وصديقه. 
- وتتجلىٰ العُقدة في سأم الصديق من الحياة؛ فقد كره نفسه وتمنىٰ الموت، "لَقَدْ سَئِمْتُ الْحَيَاةَ يَا صَاحِبِي, وَأَصْبَحْتُ لَا أُطِيْقُ الْعَيْشَ فِيْهَا, أَوِ السَّيْرَ فِي دُرُوْبِهَا, أَوِ الْاطْمِئْنَانَ فِي أَكْنَافِهَا, أَوِ النَّظَرَ فِي مَتَاهَاتِهَا, نَعَمْ, تَعِبْتُ, وَشَقِيْتُ, وَسَئِمْتُ, سَئِمْتُ كُلَّ شَيْءٍ, سَئِمْتُ الْعَالَمَ بِكُلِّ مَا فِيْهِ, سَئِمْتُ الْوُجُوْدَ بِمَا يَحْوِيْهِ, نَعَمْ, سَئِمْتُ الْأَهْلَ, وَالْجِيْرَانَ, وَالْأُسْرَةَ وَالْخِلَّانَ, سَئِمْتُ الزَّمَانَ وَالْمَكَانَ, وَالْحَاضِرَ وَالْأَوَانَ, بَلْ لَقَدْ سَئِمْتُ نَفْسِي, نَعَمْ سَئِمْتُ نَفْسِي الَّتِي بَيْنَ جَنْبَيَّ!!" ثم يكون الحل ، وهو من تلك النهايات المفتوحة التي يترك لك المبدعُ المجالَ لتتخيل وتضع النهاية التي تراها.
     رغم كل ما تحقق من أسس بناء القصة القصيرة فإنه قد يبقىٰ العنصرَ الفاصلَ بينها وبين المقامة غائبا، واحتمالُ تحققه في هذا الجنس أمسىٰ مستحيلًا، ونعني به عنصرَ التكثيف، يقول الغزاوي" مَاذَا أَفْعَلُ بِاللهِ عَلَيْكَ؟ قُلْ لِي مَاذَا أَفْعَلُ؟! لَقَدْ أُنْهِكْتُ فِي هَذِي الْحَيَاةِ, وَأَصْبَحْتُ لَا أُطِيْقُ الْعَيْشَ فِيْهَا, وَلَمْ أَعُدْ قَادِرًا - مِنْ ثَمَّ - عَلَى الْانْدِمَاجِ مَعَ أُنَاسٍ تَقَنَّعُوْا بِالْحُبِّ وَالْوَفَاءِ, وَقَدْ أَخْفَوْا الْغَدْرَ وَالْفَنَاءَ, مَاذَا أَفْعَلُ؟ وَأَحَدُهُمْ يُقَابِلُكَ بِابْتِسَامَتِهِ, وَيَرْفَعُ لَكَ رَايَتَهُ, وَهُوَ يَتَمَنَّى لَكَ الْمَوْتَ الْمُعَجَّلَ, وَالْهَلَاكَ الْمُدَمِّرَ, مَاذَا أَفْعَلُ مَعَ مَنْ يُقَابِلُكَ بِالْأَحْضَانِ فِي كُلِّ وَقْتٍ وَآَنٍ, وَقَدِ انْطَوَى عَلَى خِسَّةِ الْأَفَاعِي, وَتَأَبُّطِ الشَّرِّ وَالثُّعْلُبَانَ؟! مَاذَا أَفْعَلُ؟ نَعَمْ, قُلْ لِي: مَاذَا أَفْعَلُ؟ فَلَا أَنَا قَادِرٌ عَلَى الْوِحْدَةِ وَالْانْعِزَالِ, وَالْاسْتِقْلَالِ وَالْارْتِحَالِ, وَلَا أَنَا بِمُسْتَطِيْعٍ التَّعَايُشَ مَعَ وَاقِعٍ مُؤْلِمٍ, وَحَاضِرٍ مُتَهَرِّئٍ مُضْطَّرِمٍ مُدْلَهِمٍّ, غَابَ فِيْهِ النُّوْرُ, وَعَمَّ الظَّلَامُ, وَقُتِلَ الْحُلْمُ, وَوُئِدَ الْوَلِيْدُ, وَانْدَثَرَ الْأَمَانُ, وَاخْتَفَى الْإِيْمَانُ, وَاقِعٌ قَدِ اسْتَشْرَتْ فِيْهِ الْحَرْبَاوَاتُ, وَعَاثَتْ فِيْهِ الثَّعَالِبُ, وَاسْتَنْسَرَ الْبُغَاثُ, وَنَعَقَ الْبُوْمُ, وَذَاعَتِ فِيْهِ الْغِرْبَانُ, وَانْكَسَرَ فِيْهِ الْحِمْلَانُ, وَطَأْطَأَ فِيْهِ الْغِزْلَانُ, وَعَشَّشَتْ مِنْ ثَمَّ الْجُرْذَانُ, وَاخْتَبَأَ الْحَمَامُ, وَاخْتَفَى الْيَمَامُ, وَكَفَّ الْكَرَوَانُ عَنِ الْغِنَاءِ, وَحُبِسَ الْقَطْرُ فِي السَّمَاءِ, وَغَابَ الْبَدْرُ فِي الْمَسَاءِ, وَخَرَجَتِ الْحَيَّاتُ مِنْ جُحُوْرِهَا, وَانْطَلَقَتْ الضِّبَابُ مِنْ أَحْرَاشِهَا, وَرَقَصَتِ الْقُرُوْدُ, وَسَقِمَتْ الْأُسُوْدُ, وَذَوَتِ الْأَغْصَانُ, فَانْهَارَ الْجِدَارُ, وَانْهَدَمَ الْبُنْيَانُ!! " تلك الفقرة برهانٌ على غيابِ عنصرِ التكثيف حيث التكرار والإطناب، وله قيمته الدلالية والجمالية في فن المقامة، وعليه تقوم لتحقيق الموسيقا والتسجيع؛ بيد أنه لا يمكن قبولُه في القصة القصرة ويُفقِدها أهمَّ عناصر وأسس بنائها. 
     طغىٰ العنصرُ السرديُّ على تلك المقامة وهو أساسٌ تقوم عليه القصةُ القصيرةُ والنوفيلا والرواية والمسرحية، وتلك الأجناس – وإن اشتركت مع المقامات في السرد – فإنها لا يمكن اعتبارُها مقامات والعكس أيضا صحيح؛ إذ يبقى لكل جنس من هذه الأجناس الأدبية سماتٌ تميزه عن غيره، وحدودٌ تفصل بينه وبين غيره وإن تجاورَ مع غيره وتشابه، هذا التشابه لا يمكن إنكارُه في الفنون النثرية؛ فقد يجمع بين الأجناس جامعٌ تقتضيه طبيعة تلك الفنون.   
7- الفكاهةُ والنصُّ الساخر
     "الأديب الماهر لا بد أن يكون لديه القدرةُ على الفكاهة، سواء كان شاعرًا أو خطيبًا أو كاتبًا أو قصّاصًا أو روائيًّا، فهو بهذه الملَكَة يستطيع أن يصلَ إلى نفوس سامعيه، ويفتحَها لآرائه، ويدسَّ في ثنايا فكاهته ما يريد من المبادئ والنظريات فيتقبّلها القارئ أو السامع في لذة ومتعة ويكون ذلك أفعلَ في نفسه، ولهذا ينجح الأديب الفكِه أكثر مما ينجح الأديب العابس"( )   
ويعتبر الأسلوبُ الساخرُ أقدرَ الأساليب على نقد الواقع،  وأكثرَها تأثيرًا في النفوس، ولما كان نقد الواقع هدفًا من أهداف المقامات، فإنها لذلك تعتمد على الفكاهة والسخرية اعتمادًا كبيرًا، والسخرية أو الأسلوب الساخر قديمٌ قِدَمَ الأدب نفسه، وقد أفاض الدارسون في بحث أصوله فمنهم من جعل أرجع بداياته  إلى الرومان حيث السخرية من البشر وحماقاتهم، لقد كانت السخريةُ وما زالت من العناصر التي تلفت نظرَ الباحثين والنقاد في الأساليب الأدبية لبعض الكتاب، "والسخرية تعتبر أرقىٰ أنواع الفكاهة ؛ لأنها تحتاج إلى قدر كبير من الذكاء والخفاء والمكر." ( )
     والأسلوب الساخر في الأدب من أشقِّ الأساليب على المبدعين؛ إذ لا يُتَوقَّع لكلِّ أديبٍ أو مبدعٍ أن يجيدَه في كتاباته، وكم من أديبٍ حاول  أن يكتبَ بأسلوبٍ ساخر لكنه لم يقوَ على ذلك، وجاء أسلوبه سمجًا ممجوجا، وكان كمن يحاول أن يحلِّقَ بجناحيه فيضربَ بهما الأرض  لكنه يقعي ولا يرتفع، وكبا كبوةً حاطمة.
      والأديب الساخر ذو قدراتٍ خاصةٍ متنوعة، أولها موهبته الفطرية، فأسلوب الكتابة  –في عمومه -  موهبةٌ قبل كلِّ شيء ثم تأتي عواملُ أخرىٰ كثيرةٌ تصقل تلك الموهبةَ وتنميها. أما ثانيها فرُوحه الناقدة التي تستطيع وضعَ يديها على العيوب وتبرزها، ثم تصف العلاجَ المناسبَ لما يعرو الأشخاصَ والمجتمعَ من أمراضٍ سلاحها السخرية والفكاهة. 
    "وهي – السخرية -  نوعٌ من الضحك الكلامي أو التصويري الذي يعتمد على العبارة البسيطة ، أو على الصورة الكلامية مع التركيز على النقاط المثيرة فيها . وتحاول السخريةُ أن تتخلص من الانفعال في الظاهر، فتبدو كأنها لا تنبعث عن عاطفةٍ ما عند قائلها لأنها تخاطب العقل ، وتسعىٰ الى أن يكون الجوُّ حولها مشبعًا بالإدراك والوعي؛ حتى تستطيع أن تثيرَ الضحكَ السريع ، لتسلطَ الضوءَ بصورةٍ أكثرَ سرعةٍ على الأشياء التي لا تناسب الحياة، والتي يمكن أن نصِفُها بأنها لا تليق بالفرد أو الجماعة، وهي عندما تسلط هذا الضوءَ السريعَ تخدم فكرةً عميقة، ولكنها تريد لها أن تكون عابرة ، حتى يمضي كل شيء في خفة ونشاط." ( )
     تشيع في مقامات الغزاوي الفكاهةُ والأسلوبُ الساخر، ويعتمد عليها في مواقف نقد الواقع والطباع والعادات، فيجعل منها سلاحًا ومعولَ يهدم به أصنامَ الزيف والوهم في أسلوبٍ ساخرٍ مضحكٍ مبكٍ في آن، والهجاء من صور الفكاهة والأسلوب الساخر، والدكتور الغزاوي من هؤلاء الذين فُطِروا على الفكاهة والأسلوب الساخر، ومَن كان في ريب من كلامنا فدونه إبداع الرجل يحتكم إليه، وفي مقاماته التي بين أيدينا مادةٌ خصبةٌ لهذا الأسلوب المحبب إلينا؛ فنحن نفضل هذا الضربَ من الكتابة خصوصًا في الحديث عن النقد( ) ومن شواهد الأسلوب الساخر – وهي كثيرة - :
- (حَدَّثَنَا أَبُوْ كِمَامَةَ الْكُوْرُوْنِيُّ)  مفتتح يبعث في النفوس ضحكًا، يطوي ألمًا   مكتومًا، فتبتسم الشفاه وتبكي القلوب،  وهو نموذج للسخرية المريرة، وصورةٌ مضحكةٌ مبكيةٌ، تجسد خطر الجائحة التي عمَّتِ العالمَ في زمن (الكوفيد)، فسال الدمعُ، وعم الغمُّ، تبدو مضحكةً لوصف الراوي بذلك الوصف الملازم للكمامة (أبو كمامة) وما فيها من إيحاء الملازمة، صورة تضحك وتبكي في أن؛ فكاتبنا يسخر من حال الإنسان وضعفه وخوفه من العدوى وحذره الناس (وَقَدْ تَبَاعَدَتْ أَجْسَادُنَا, وَتَنَاثَرَتْ أَشْخَاصُنَا, حَتَّى كَأَنَّ الْخِصَامَ قَدْ ضُرِبَ بَيْنَنَا بِسُوْرٍ لَهُ بَابٌ, بَاطِنُهُ فِيْهِ الْمَلَامُ, وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْمَوْتُ الزُّؤَامُ)  
- (فَعَلَ صَاحِبُنَا فِعْلَةً شَنْعَاءَ, وَجَرِيْمَةً نَكْرَاءَ, فَلَيْتَ أُمَّهُ لَمْ تَلِدْهُ, وَإِلَى الدُّنْيَا لَمْ تُوْجِدْهُ؛ فَقَدْ عَطَسَ صَاحِبُنَا عَطْسَةً مُدَوِّيَةً, أَحْدَثَتْ هِزَّةً قَوِيَّةً, وَمَعَ أَنَّهُ حَاوَلَ إِخْفَاءَهَا بِكُمِّهِ قَدْرَ الْإِمْكَانِ, فَإِنَّ صَوْتَهَا قَدِ انْسَرَبَ, وَظَهَرَ وَاضِحًا لِلْعَيَانِ, وَعِنْدَئِذٍ نَظَرَ إِلَيْهِ الْقَوْمُ, فَكَادَ لَحْمُ وَجْهِهِ يَسْقُطُ مِنْ الَّلوْمَ, فَأَطْرَقَ إِلَى الْأَرْضَ خَجِلًا, وَطَأْطَأَ رَأْسَهُ مُتَمَلْمِلًا, وَجِلًا, وَقَدْ بَانَ عَلَيْهِ التَّأَثُّرُ بِالْجُرْمِ الَّذِي فَعَلَ, وَبِالْمُصِيْبَةِ الَّتِي مِنْهَا الْكُلُّ قَدِ اسْتَغْرَبَ, وَذُهِلْ, وَالْقَوْمُ عَلَى حَالَةٍ مِنَ الْاِسْتِنْفَارِ, حَتَّى كَادَ يَحِيْدَ عَنْهُمُ الْهُدُوْءُ وَالْاسْتِقْرَارُ, قَدْ تَرَكَ كُلٌّ مِنْهُمْ مَا فِي يَدَيْهِ, وَتَفَرَّغَ لِمَا رَأَى بِأُمِّ عَيْنَيْهِ, وَمِنْ ثَمَّةَ فَقَدْ تَبَادَرُوْا إِلَيْهِ بِالْمُلَاحَاةِ وَالسَّبِّ) حين يعم (الكوفيد) (فالعطسة) فعلة شنعاء، وجريمة نكراء، فيا لسخرية القدر! ويا لها من صورةٍ تعضد الصورةَ الأولىٰ في مفتتح المقامة! يضعنا الدكتور الغزاوي بين موقفين شديدَي التناقض، فلا ندري أنضحك لتلك الصورة الساخرة أم نبكي لها؟!
أنضحك لأن العطسة آضت فعلة شنعاء، واستحالت جريمة نكراء؟! أم نرثي لهذا الذي  (كَادَ لَحْمُ وَجْهِهِ يَسْقُطُ مِنْ الَّلوْمَ, فَأَطْرَقَ إِلَى الْأَرْضَ خَجِلًا, وَطَأْطَأَ رَأْسَهُ مُتَمَلْمِلًا, وَجِلًا, وَقَدْ بَانَ عَلَيْهِ التَّأَثُّرُ بِالْجُرْمِ الَّذِي فَعَلَ)؟! 
- في (الْمَقَامَةُ الْعِرْقُسُوْسِيَّةُ ) تتجلى السخرية في أبهىٰ صورها، وفي ذكاءٍ شديدٍ يدرك الغزاوي أن الناس في شهر رمضان يبحثون عما يبعث في نفوسهم سرورًا، ويدخل في قلوبهم حبورًا، سيَّما بعد صلاة العصر وقبيل الإفطار؛ إذ تمرّ الدقائق ثقالًا، والنفوس تمور من الفكر والخيال، فيُلقي إليهم بتلك الفكاهة الساخرة الساحرة، التي ترصد وتجسد عادات الناس في شهر رمضان، وكلها عادات مورثة تناقلتها الأجيالُ جيلًا بعد جيل" اِعْلَمْ, يَا رَعَاكَ اللهُ, أَنَّ حُبَّ الْعِرْقُسُوْسِ مَرْكُوْزٌ فِي النُّفُوْسِ, مَغْرُوْسٌ فِي الْفِطْرَةِ, جِبِلِّيٌّ فِي الرُّوْحِ, مُتَأَصِّلٌ فِي الطَّبْعِ, بَدْهِيٌّ فِي الْعَقْلِ, مَأْمُوْرٌ بِهِ فِي الشَّرْعِ وَالنَّقْلِ, قَدْ تَحَدَّثَتْ بِأَهَمِّيَّتِهِ الْأَخْبَارُ, وَتَرَادَفَتْ بِفَضْلِهِ الْآَثَارُ, الْمُتَوَاتِرُ مِنْهَا وَالْآَحَادُ, وَالْمُتَّصِلُ الرِّوَايَةِ وَالْإِسْنَادُ " وليست الفكاهة بخافيةٍ في وصف حب الناس لذلك الشراب (الْعِرْقُسُوْسِ) بأنه مأمور به في الشرع والنقل، وَتَرَادَفَتْ بِفَضْلِهِ الْآَثَارُ, الْمُتَوَاتِرُ مِنْهَا وَالْآَحَادُ, وَالْمُتَّصِلُ الرِّوَايَةِ وَالْإِسْنَادُ، ثم تأتي تلك الصورةُ العجيبةُ الموغلةُ في الفكاهة من عادات عائلة الكاتب نفسه، وما هذا إلا لأنه جُبل على تلك الطبيعة الساخرة والفكاهة غير المتكلفة كما ذكرنا: " بَلْ بَالَغَ بَعْضُ فُقَهَاءِ الْغَزَّاوِيَّةِ- رَحِمَهُمُ اللهُ تَعَالَى – أَنَّهُ لَا يُجْزِئُ الْإِفْطَارُ عَلَى شَرَابٍ سِوَاهُ, بَلْ لَقَدْ أَوْغَلَ بَعْضُهُمْ فَرَأَى إِعَادَةَ ذَلِكَ الْيَوْمِ قَضَاءً, فَلِلَّهِ دَرُّهُمْ, وَعَفَا اللهُ عَنَّا وَعَنْهُمْ!!" كدنا – حين طالعنا تلك اللوحةَ الساخرة - أن يُغشىٰ علينا؛ ولا شك أنكَ – أيها القارئ الكريم – سوف تشاركنا الشعورَ نفسَه حين ترى فقهاءَ الغزاوية – عائلة الكاتب – قد أفتوا بأن يومًا من أيام الصوم ليس في إفطاره شراب العرقسوس  يجب إِعَادَةَ ذَلِكَ الْيَوْمِ قَضَاءً.
- في (مَقَامَةُ الْمُوَاجَهَةِ) يبلغ الأسلوبُ الساخرُ ذروته في مقامة هجائية، والهجاء  - لا ريب - ضربٌ من الفكاهة يعتمد على السخرية في رسم صورة المهجوّ، وعلى قدر الجُرم يكون العقاب، ولا عقاب يستحقون غير هذا الأسلوب الذي رسم صورتهم خاضعين ناكِسي الرؤوس، "سَتَأْتُوْنَ إِلَيَّ يَوْمًا مَا مُجَلَّلِيْنَ بِالْعَارِ, مُتَّشِحِيْنَ بِالشَّنَارِ, مُتَسَرْبِلِيْنَ بِالْإِثْمِ, مُنَكَّسِي الرَّأْسِ, مُنْهَكِي الرُّوْحِ, خَاضِعِي النَّفْسِ, مُتَذَلَّلِيْنَ, مُطَأْطِئِيْنَ, مُنْكَسِرِيْنَ, مَخْذُوْلِيْنَ, تَائِهِيْنَ, طَالِبِيْنَ الْعَفْوَ وَالْغُفْرَانَ, وَالصَّفْحَ وَالتَّحْنَانَ, نَادِمِيْنَ عَلَى مَا فَعَلْتُمْ, بَاكِيْنَ عَلَى مَا صَنَعْتُمْ, مُتَحَفِّزِيْنَ لِلِقَائِي, مُتَشَوِّقِيْنَ لِدَوَائِي, مُتَحَرِّقِيْنَ هُيَامًا لِرُؤْيَايَ, مُتَلَهِّفِيْنَ النَّظَرَ إِلَى وَجْهِي وَمُحَيَّايَ, تَرْتَجُوْنَ مِيْرَتِي, وَتَتَكَأْكَئُوْنَ عَلَى نِعْمَتِي, وَتَرْكَعُوْنَ فِي حَضْرَتِي, وَتَتَهَافَتُوْنَ, مِنْ ثَمَّ, عَلَى وِرْدِي, وَتُقَبِّلُوْنَ يَدَيَّ فِي طَلَبِ وُدِّي" فليس من المروءة ولا من الشهامة أن يخون الإنسانُ أخاه، ويكون جزاؤه جزاءَ سنمَّار، "وليس  - الهجاء - إلا تصويرَ الهاجي للمهجوُ في صورة هزلية تثير السخرية والضحك، وقد حفِلَ العرب به أشد احتفال لأنه مرتبط بنوع حياتهم الاجتماعية، إذ هم يحرصون على المروءة التي هي الشجاعة والكرم ويحرصون على حسن السمعة."( ) 


      
8- المستوىٰ الفنيُّ والموسيقا
      يُعنىٰ النقدُ ونظرياتُه المتعددةُ بمحاولة انطلاق من أسسٍ لها من الملامح الموضوعية التي تعين في فهم النص الأدبي، وليس صحيحًا أنه – النقد - يقيم تلك الحدودَ الفاصلةَ المانعةَ بين النظريات النقدية ليُقبَلَ بعضُها ويُدّعىٰ علىٰ ما عداها الخطأ، إنما تعددت نظرياتُ النقد وتنوعت حديثًا؛ رغبةً في فهم النص الأدبي فهمًا دقيقًا اعتمادًا علىٰ الموضوعية ولوازم العلم، "ولأن العملَ الأدبيَّ تعبيرٌ لغويٌّ أداته اللغة فإن أول الانتقاء يظهر أول ما يظهر في اللفظة – وحدةُ هذه اللغة، وجزءُ كلِّ تركيب من تراكيبها، وعنصرُ التأثير في السياقات المختلفة – ثم وضع تلك اللفظة في تركيبٍ يأخذ شكلًا مخصوصًا وتنشأ من حولها سلسة من العلاقات" ( )
      ولا خِلافَ في أن لغةَ الإبداع الفني لغةٌ مجازيةٌ من الطراز الأول، إذ يحمِّل الأديبُ المبدعُ الألفاظَ دلالاتٍ جديدةً تكتسبها من خلال السياق أو ما يُسمى بالمسرح اللغوي، "وللأديب لمحات في الزمن بمعنى أن المصوِّر أو النحَّات لا يستطيع أن يلتقط بفنه غير وضعٍ واحد لموضوعه أي لمحةً واحدة في المكان، أما الأديب فيستطيع أن يصوِّر بفنِّه عدةَ أوضاعٍ متلاحقة للموصوف؛ أي عدة لمحات في الزمن" ( )
       والنظر للفظة لا بد أن يكون مصحوبًا بنظرٍ عميقٍ لسابقتِها ولاحقتِها؛ إذ يُكسِب التركيبُ اللغويُّ اللفظةَ دلالاتٍ جديدةً تُضاعف قيمتها الفنية، ونعني بتلك التراكيب الجديدة الصورَ والخيالَ والمحسناتِ والموسيقىٰ فضلا عن الوحدة الفنية، وهي تَعانُقُ كلِّ ما ذكرْنا وتآلفُه؛ ليخرجَ العملُ الإبداعيُّ على الصورة المطلوبة التي ترضي المبدعَ وتُسعدَ المتلقي. والأديبُ الحقُّ كالناسج الماهر الخبير بأنواع المنسوجات التي يستخدمها؛ ليصنعَ ثوبًا قشيبًا، وهو يقُدّ الألفاظَ والتراكيبَ قدَّاً لتلك المعاني التي ترِدُ على عقله، ولما يجول بقلبه من مشاعر وأحاسيس، هذا النسيج أو تلك التراكيب اللغوية التي يجمعها الأديب لابد أن يربط بينها رابطٌ ينبع من عاطفته، وقد يكون لدى الأديب حسٌّ جماليٌّ ولُغويٌّ وموسيقي، لكنه – في الوقت ذاته - لا يُحسِن الجمعَ بين تلك الأشتات، ولا يُجيد وضعَها في أماكنها الصحيحة، وهذا ما عابه أستاذُنا العقاد على حافظ إبراهيم؛ ففي1909م نشر نقدًا - وصفه البعضُ بالقسوة - على صفحات الدستور لقصيدة حافظ إبراهيم التي مطلعها:
لَقَد نَصَلَ الدُّجى فَمَتى تنامُ     أَهَمٌّ ذَادَ نَوْمَكَ أمْ هُيَامُ؟!
حيث رمىٰ القصيدةَ بالتفكك وعدم الترابط، يقول العقاد: "إنه – حافظ - أخذ قطعةً من الحرير، وقطعة من المُخْمَل، وقطعة من الكتّان، وكلٌّ منها صالح لصنع كساءٍ فاخرٍ من نسجه ولونه، ولكنها إذا جُمِعَتْ على كساءٍ واحد فتلك هي مرقّعة الدراويش".( ) فالعقاد كان يؤكد علىٰ مفهوم الوحدة العضوية كما ذكرنا، وظل يدعو إليها، فنجده في كتاب الديوان وتحديدا في نقده قصيدة شوقي (في رثاء مصطفى كامل) التي أطلق عليها العقاد (كومةَ الرمل) لتفككها وعدم ترابطها وخلوها من الوحدة العضوية التي نتحدث عنها، يقول العقاد " إن القصيدة ينبغي أن تكون عملًا فنيًّا تامًّا، يكمل فيها تصويرُ خاطرٍ أو خواطرَ متجانسة، كما يَكمُل التمثالُ بأعضائه، والصورةُ بأجزائها، واللحنُ الموسيقيُّ بأنغامه، بحيث إذا اختلف الوضع أو تغيرت النسبةُ أخلَّ ذلك بوحدة الصنعة وأفسدها؛ فالقصيدة الشعرية كالجسم الحي يقوم كلُّ قسمٍ منها مقام جهازٍ من أجهزته، ولا يُغني عنه غيرُه في موضعه إلا كما تغني الأُذُنُ عن العين، أو القدمُ عن الكف، أو القلبُ عن المعدة"( )   
وإيضاحًا للأمر نلِجُ إلى التطبيق على إحدىٰ مقامات الغزاوي؛ بيانًا لما ذهبنا إليه في السطور القليلة السابقة عن المستوىٰ الفني، واللغةِ وألفاظها وما تحمله من دلالاتٍ وإيحاءاتٍ تخدم العملَ الفنيَّ، وتحقق عناصرَ متنوعةً مثل: جِدَّةَ الموضوع، وطرافةَ الخيال ومتعتَه، وروعةَ الموسيقىٰ، وسوف نكتفي بالتحليل الفني لمقامةٍ واحدةٍ من تلك المجموعة، نشير بها إلى ما أسلفنا، وندلِّلُ على وجهة نظرنا، لكنها – وحدها – لا تكشفُ عن كلِّ جوانبِ العظَمةِ في إبداع الدكتور الغزاوي؛ وهي – نعني المقامة – جدولٌ صغيرٌ ينبع من المحيط الكبير فيها بعضُ سماته وصفاته، وإن لم يكن فيها جريانُه وموجُه الهادر.

البنية اللغوية - مَقَامَةُ الْحُلْمِ أنموذجًا:
أ- الألفاظ والإيحاء:     
صُدِّرَتِ المقامةُ بحرف الاستفهام (هل) الذي يُطلب به التصديقُ الإيجابيُّ دون تصورٍ أو تخيُّل، فلا تصوُّرَ هنا؛ فإن المستفسَر عنه حقٌّ مشروعٌ وأمرٌ مباحٌ لكلِّ إنسان، (هَلْ مِنْ حَقِّي أَنْ أَحْلُمَ, إِذَا لَمْ يَكُنْ بِإِمْكَانِي أَنْ أَتَعَايَشَ, أَوْ أَنْ أَتَكَلَّمَ؟!) دخول حرف الجر (مِن) على (حقّ) المسنَد إلى ياء المتكلم فيه إيحاءاتٌ شتَّىٰ لا يمكن إغفالُها، بل لا يمكن أن يمرَّ عليها المرءُ مرورَ الكرام دون أنْ ينفَذَ لتلك الدلالات العميقة؛ (مِن) تفيد التبعيض، ثم إنه يستفسِر عن بعضِ حقه الذي هو فرض لا يمكن لأحدٍ إنكارُه عليه، اكتسبَ هذا الحقَّ من إضافته لياء المتكلم الدالة على الملكية فلا يملك حقوقَه – وهذا طبعي – إلا هو، ثم يميط اللثامَ عن بعض حقِّه هذا ( أن أحلم) هو - فقط – يستفسر:  هل يمكنه الحلم؟! بيد أنه عدَلَ عن المصدر الصريح وآثَر  المصدرَ المؤول لإحداثِ تلك الحالة النفسية التي تُشعره أنه مازال يملك حياته، وأولُ مظاهرها ذلك الحلم، إنه ليُوهِمُ نفسَه أنه مازال يستطيع (أن يحلم) عمّق هذا المعنىٰ استخدامُ المضارع وما يوحيه من دلالات التجدد والاستمرار؛ فحلمه متجدد، ولن يتوقف عنه، وكيف يتوقف عن الحُلم ( إِذَا لَمْ يَكُنْ بِإِمْكَانِي أَنْ أَتَعَايَشَ, أَوْ أَنْ أَتَكَلَّمَ) إذا أداة شرط تفيد اليقين، يوقن أن التعايش -على وزن (تفاعُل) – ودلالةَ التصنع والتكلف والمبالغة بالنسبة له أمرٌ مستحيل؛ وما أبعدَ تلك السمات عن شيمه!! ثم يفيق من ذلك الذهول فيصيح: (أَعْتَقِدُ أَنَّ ثَمَّةَ أَحَدًا لَا يَسْتَطِيْعُ أَنْ يَمْنَعَنِي حَقِّي فِي الْمَنَامِ, أَوْ يَحْجُرَ عَلَيَّ قُدْرَتِي فِي الْخَيَالِ, أَوْ يُنَازِعُنِي فِي التُّهْيَامِ, لَا يَجْرُؤُ أَحَدٌ أَنْ يَمْنَعَنِي مِنْ ذَلِكَ) لكنَّ تلك الصيحةَ ما زالت صيحةً حائرة؛ فمن دلالة (أعتقد)الظن أو التوهم، وقد تستخدم لإفادة اليقين والتصديق القاطع، ولو كان الأمر يقينيًا  لعدَل عنها لغيرها فقال: (أوقن) غير أن  ضبابيةَ الموقف ما زالت تسيطر عليه، يرشِّح ذلك المعنىٰ أنه مازال في المنام والخيال، وما أبعدَ الواقعَ عنه! وما أغربَه في هذا الواقع! إنه يشعر بالغربة، وهي غربةٌ نفسيةٌ تملأ عليه عوالمه، تلك سمة الرومانسيين حيث يفرُّون إلىٰ الخيال هروبًا من واقعهم الذي يشعرون فيه بالغربة.
       تتابُعُ الأفعالِ الماضية فيه تأكيدٌ للثبوت والرسوخ، وكلها تدل على ثبوت القوة والسلطان والمكانة؛ بيد أن كل هذا لا يعني صاحبَنا في شيء، ولن يمنعه من الحُلم بعالَمٍ أفضل، عالمٍ ينتمي إليه، فتعلو صيحتُه ويزيد إصرارُه وعزمُه أمام هذا الجيش من الأفعال، وأمام هذا الطوفان من مظاهر القوة والسلطة، وهذا جليٌّ في تكرار هذا الكمِّ من الأفعال الماضية، ثمانية عشرَ فعلًا ماضيًا، يضافُ مدلولُ عددها إلى دلالات الأفعال وهذا الترتيب العجيب؛ فكل فعلٍ نتيجةٌ منطقيةٌ وحتميةٌ لما قبله، بل إن المتلقي ليَعجَبُ من اسناد كل فعلٍ إلى فاعلٍ يناسب هذا الفعل، ولا يقوم مقامَه غيرُه  (مَهْمَا عَلَا شَأْنُهُ, وَبَعُدَ شَأْوُهُ, وَذَهَبَ صِيْتُهُ, وَاشْتَدَّ سَوْطُهُ, وَتَنَاهَتْ سَطْوَتُهُ, وَتَبَاذَخَتْ هَيْبَتُهُ, وَتَعَاظَمَتْ هَيْئَتُهُ, وَازْدَادَتْ قُوَّتُهُ, وَوَفُرَ مَالُهُ, وَانْتَفَضَ مَآَلُهُ, وَظَهَرَ جَبَرُوْتُهُ, وَاسْتَبَانَ مَلَكُوْتُهُ, وَامْتَلَأَتْ خَزَائِنُهُ, وَتَرَاءَتْ مَدَائِنُهُ, وَتَبَخْتَرَ جَاهُهُ, وَصَفَا مَاؤُهُ, وَتَفَاصَحَ لِسَانُهُ, وَتَفَاخَمَ سُلْطَانُهُ!!) وكأنه يعلن التحدي من خلال تلك الدفقات المتتابعة من الأفعال الماضية.
      ثم يأتي جوابُ الاستفهام الذي صُدِّرت به المقامة: (نعم) إثباتٌ يمنحه حقَّه في الحُلم (نَعَمْ, لَا أَحَدَ يَسْتَطِيْعُ أَنْ يَمْنَعَنِي حُلْمِي؛ فَلِي مُطْلَقُ الْحُرِّيَّةِ فِي ذَلِكَ؛ فَلَا قَيْدَ يُثْقِلُ كَاهِلِي, وَلَا نَيْرَ يَنُوْءُ بِخَاطِرِي, وَلَا حَجَرَ عَثْرَةٍ يَقِفُ أَمَامَ تَخَيُّلَاتِي, أَوْ تَصَوُّرَاتِي, فَبِإِمْكَانِي أَنْ أَحْلُمَ بِمَا أَشَاءُ, فِي الْوَقْتِ الَّذِي أَشَاءُ, وَبِالْكَيْفِيَّةِ الَّتِي أَشَاءُ, مِنْ حَقِّي أَنْ أَحْلُمَ بِعَالَمٍ أَفْضَلَ, وَمُجْتَمَعٍ أَنْقَى, وَحَاضِرٍ أَبْهَى, وَوَاقِعٍ أَرْقَى, أَحْلُمُ بِوَاقِعٍ مِنْ صُنْعِي أَنَا) ثم يوكد هذا الإثباتَ فيتبعه بقوله (لا أحدَ يستطيع أن يمنعَني حلمي) أحد وما يوحيه التنكيرُ من العموم، وكأنه يعود فيؤكد أنه لا يخشىٰ أيَّ سلطانٍ أو قوة، فينفي الاستطاعة التي تتحول أمام إصراره إلى عجزٍ وخنوع، وهنا يتحول الحُلمُ إلى (حلمي) فهو شديد الخصوصية معلوم المِلْكية، يكتسب هذا الحُلمُ الخصوصيةَ لأنه حُلمٌ بعالم أفضل، وهنا تتتابعُ صيغُ التفضيل لتأكيد تلك الخصوصية (أَحْلُمَ بِعَالَمٍ أَفْضَلَ, وَمُجْتَمَعٍ أَنْقَى, وَحَاضِرٍ أَبْهَى, وَوَاقِعٍ أَرْقَى) إنه عالم من صنع الغزاوي وما أجملها من خصوصية! وما أروع الاعتداد بالذات! كما أفضنا في الحديث عن تلك السمة الأصيلة في صاحبها؛ بيد أن هذا العالَمَ الذي يحلم به صاحبُنا مازال في عالمه الخاص – خياله –  هروبًا من عالم يعيش (بَعِيْدًا عَنْ هَذَا الْوَاقِعِ الضَّرِيْرِ, وَذَاكُمُ الْحَاضِرِ الْغَرِيْرِ, الَّذِي غَدَا عُنْوَانًا لِكُلِّ مَعَانِي السُّوْءِ, وَالْأَلَمِ, وَالْجَهْلِ, وَالتَّخَلُّفِ, وَالْفَقْرِ, وَالْقَفْرِ, وَالْعَفَنِ, وَالْإِحَنِ, وَالْحَسَدِ, وَالْحِقْدِ, وَالزَّيْفِ وَالسَّرَابِ, وَالتَّدْلِيْسِ وَالْانْتِهَابِ, وَالْمُعَانَاةِ, وَالَّلَامُبَالَاةِ ... فَإِنَّا للهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُوْنَ!) إن عالمًا بتلكم الأوصاف لخليقٌ أن يفرّ منه أُناسٌ يحملون بين جوانحهم قلوبًا نقيةً لا تنتمي إليه؛ فهو واقعٌ ضريرٌ بما توحيه مادة الكلمة وجذرُها اللغويُّ من معاني الضرر والأذغروَ فلا غرو أن يغدوَ عُنْوَانًا لِكُلِّ مَعَانِي السُّوْءِ، ثم تتتابعُ أوصافُ الواقع السيئة، وكأنها زفرةُ مكلومٍ يائسٍ من عالمه، ذلك العالم الذي يعج بأبشع الصفات: ( وَالْأَلَمِ, وَالْجَهْلِ, وَالتَّخَلُّفِ, وَالْفَقْرِ, وَالْقَفْرِ, وَالْعَفَنِ, وَالْإِحَنِ, وَالْحَسَدِ, وَالْحِقْدِ, وَالزَّيْفِ وَالسَّرَابِ, وَالتَّدْلِيْسِ وَالْانْتِهَابِ, وَالْمُعَانَاةِ, وَالَّلَامُبَالَاةِ) وكلها صفاتٌ لا تلائم فئةً عريضةً من البشر، لا الطامحين أصحابَ المبادئ والمثل العليا؛ لذلك فإن النتيجةَ المنطقيةَ هي التسليمُ بقضاء الله (فَإِنَّا للهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُوْنَ!) ويبدو – من النظرة العَجلىٰ – إن إيرادَ الآية قلقٌ في موضعه، ولا يناسب تلك الثورةَ العارمةَ على الواقع المرير، ونغمةَ التحدي الذي أطلقها صاحبُنا؛ بيد أن النظرة المتأملةَ للتناص مع الآية الكريمة فيها نوعٌ من  التسرية والتخفيف لآلام القلب الجريح؛ حيث مرجعُنا جميعًا إلى الله، إنه "يَعلَمُ خائنةَ الأنفُسِ وما تُخفي الصُّدور"، "ولكلٍّ وِجهةٌ هُوَ مُوَلِّيها" 
       ولما كان الحُلم هو المطلبُ الرئيسُ والحقُّ المشروعُ،  يشرَعُ الكاتبُ في بيان هذا الحلمِ، فحدودُه لا يُحاط بها، ولا وجودَ له إلا في عالمٍ أفضلَ يسكنه هؤلاء الذين خُلِقوا من طينةٍ نقيةٍ غير طينة البشر جميعًا (أَحْلُمُ بِكُلِّ مَنْ يَزْرَعُ الْأَمَلَ فِي النُّفُوْسِ الْمُتَهَالِكَةِ, وَيَنْثُرُ الطُّمُوْحَ فِي الْأَرْوَاحِ الْمُعَذَّبَةِ الْمُرْتَبِكَةِ, بَلْ مَنْ يَنْشُرُ الطُّمَأْنِيْنَةَ فِي الصُّدُوْرِ الْمُنْكَفِئَةِ, وَيَرْوِي الذَّوَاتِ الصَّدِئَةَ, وَيَبْذُرُ الْخَيْرَ فِي الْأَفْئِدَةِ الْمُحَطَّمَةِ وَالْأَنَوَاتِ الْوَالِهَةِ, وَيُذِيْعُ الْحَيَاةَ فِي الْقُلُوْبِ الْمُهَشَّمَةِ وَالشُّخُوْصِ الْمُعْدَمَةِ) يجئ الحُلمُ في صورة المضارع؛ فهو قديمٌ متجددٌ مع كل نفس يتردد داخل جسدِ صاحبِنا، مع كل طَرفةِ عينٍ، وخفقة قلب، ثم إنه يحُل (بكل) استخدام الخافض (الباء) يفيد الإلصاقَ والاستعانة، ويزيدُ  الأمرَ تشويقًا كونُ المجرور (كل) لفظةً موغلةً في العموم، فكأنه يستغيث ويستجير بكل (من يزرع الأمل في النفوس المتهالكة) يزرع وإفادة التجدد وما يوحيه الفعل من معاني الخير والنماء والبركة، ثم إن المزروعَ هو الأمل الذي يعم تلك النفوسَ التي قتلها اليأسُ والخنوعُ والخضوعُ لواقع مرير، (وَيَنْثُرُ الطُّمُوْحَ فِي الْأَرْوَاحِ الْمُعَذَّبَةِ الْمُرْتَبِكَةِ, بَلْ مَنْ يَنْشُرُ الطُّمَأْنِيْنَةَ فِي الصُّدُوْرِ الْمُنْكَفِئَةِ, وَيَرْوِي الذَّوَاتِ الصَّدِئَةَ, وَيَبْذُرُ الْخَيْرَ فِي الْأَفْئِدَةِ الْمُحَطَّمَةِ وَالْأَنَوَاتِ الْوَالِهَةِ, وَيُذِيْعُ الْحَيَاةَ فِي الْقُلُوْبِ الْمُهَشَّمَةِ وَالشُّخُوْصِ الْمُعْدَمَةِ) تتابعتِ الأفعالُ المضارعة – وإن جاء ترتيبُ أفعال تلك الفقرة على خلاف ما عهدناه في الدكتور الغزاوي - لترشح معنىٰ التغيير الذي ينشده صاحبُنا، وكلها توحي بالخير والبركة والمساواة، والعدالة، وحين ينتشرُ الخيرُ وينمو ما زرعه صاحبُنا، ويصبحُ حصادُه وشيكًا فلن ينتفعَ به إلا أناسٌ يستحقون هذا العناء والجهد الذي بذله؛ لذلك " أَحْلُمُ بِشَخْصِيَّاتٍ تَتَصَافَحُ قُلُوْبُهُمْ قَبْل أَنْ تَتَصَافَحَ أَيْدِيْهِمْ, وَتَبْتَسِمُ نُفُوْسُهُمْ قَبْلَ أَنْ تَبْتَسِمَ وُجُوْهُهُمْ, وَيَفُوْحُ عِطْرُ أَلْفَاظِهِمْ قَبْلَ عِطْرِ أَجْسَادِهِمْ, وَتَسْمُو صِفَاتُهُمْ قَبْلَ أَنْ تَكْتَسِىَ صَفَحَاتُهُمْ, وَتَحْيَا صُدُوْرُهُمْ قَبْلَ أَنْ تَنْبِضَ بِالْحَيَاةِ سُطُوْرُهُمْ, وَتَتَمَايَلُ كَلِمَاتُهُمْ قَبْلَ أَنْ يَفْنَى مِدَادُهُمْ, وَتَنْظُفُ قُلُوْبُهُمْ قَبْلَ أَنْ تَبْرُقَ مَلَابِسُهُمْ, وَتَتَلَأْلَأَ دُرُوْبُهُمْ, شَخْصِيَّاتٌ أَنَاقَةُ تَفْكِيْرِهِمْ أَكْثَرُ تَهْذِيْبًا مِنْ أَنَاقَةِ صُوَرِهِمْ, وَجَمَالُ مَخْبَرِهِمْ أَكْثَرُ وَسَامَةً مِنْ جَمِيْلِ مَظْهَرِهِمْ." 
    إنهم أناسٌ ينتمون لعالم الكاتب المثالي فُطِروا على الخير والنقاء، لا الحقد والضغائن، باطنُهم كظاهرِهم بل أكثر جمالًا وأنقىٰ، ومازال صاحبُنا يرسم معالمَ الحُلمِ بعالمه الخاص عالم لا يسكنه إلا بشرٌ كالملائكة كَائِنَاتٍ شَفَّافَةٍ نُوْرَانِيَّةٍ  (أَحْلُمُ بِكَائِنَاتٍ شَفَّافَةٍ نُوْرَانِيَّةٍ, وَأَخْلَاقٍ وَشَمَائِلَ عُلْوِيَّةٍ قُدْسِيَّةٍ, كَائِنَاتٌ يُحْسِنُوْنَ الظَّنَّ, وَيَجْبُرُوْنَ الْكَسْر, وَيُقِيْمُوْنَ الْمُعْوَجَّ, وَيُصْلِحُوْنَ الْمَائِلَ وَالْمُرْتَجَّ, وَيُرَمِّمُوْنَ الْمُهَشَّمَ, وَيَبْنُوْنَ الْمُحَطَّمَ, وَيَتَعَهَّدُوْنَ الْمُهَدَّمَ, كَائِنَاتٌ يَتَغَافَلُوْن عَنِ الذُّنُوْبِ, وَيَتَعَامَوْنَ عَنِ الْعُيُوْبِ, وَيَقِفُوْنَ فِي الْكُرُوْبِ, وُيُبْرِئُوْنَ النُّدُوْبَ, إِنْ رَأَوْا حَسَنَةً نَشَرُوْا وَقَالُوْا, وَإِنْ رَأَوْا سَيِّئَةً سَتَرُوْا وَأَقَالُوْا!)، هؤلاء البشر سكان مدينته الفاضلة مصلحون (وَيَجْبُرُوْنَ الْكَسْر, وَيُقِيْمُوْنَ الْمُعْوَجَّ, وَيُصْلِحُوْنَ الْمَائِلَ وَالْمُرْتَجَّ, وَيُرَمِّمُوْنَ الْمُهَشَّمَ, وَيَبْنُوْنَ الْمُحَطَّمَ, وَيَتَعَهَّدُوْنَ الْمُهَدَّمَ ) ولما كان هؤلاءِ مثلَ الملائكة (فأنهم  كَائِنَاتٌ يَتَغَافَلُوْن عَنِ الذُّنُوْبِ, وَيَتَعَامَوْنَ عَنِ الْعُيُوْبِ, وَيَقِفُوْنَ فِي الْكُرُوْبِ, وُيُبْرِئُوْنَ النُّدُوْبَ, إِنْ رَأَوْا حَسَنَةً نَشَرُوْا وَقَالُوْا, وَإِنْ رَأَوْا سَيِّئَةً سَتَرُوْا وَأَقَالُوْا!) ولا غروَ فهم سكانٌ يستحقون العيشَ في المدينة التي شيدها صاحبُنا على قواعدَ من النقاءِ وحبِّ الخير، والنفورِ من الشر والأذىٰ، فأعظِمْ بهم من سكان! وأفضِلْ بها من مدينة! 
      إن الحبَّ هو غذاء هؤلاء البشر ولا غذاءَ للأنقياء إلا الحب؛ فهو الزاد والمُعين على نوائب الدهر ومصائب الحياة؛ بل إن الحب هو رسالتهم يعيشون لها وعليها ( أَحْلُمُ بِشَخْصِيَّاتٍ اتَّخَذُوْا مِنَ الْحُبِّ رِسَالَةً يَعِيْشُوْنَ لَهَا, وَيَتَرَاءَوْنَ بِهَا, وَيَمُوْتُوْنَ مِنْ أَجْلِهَا, وَيَرْفَعُوْن شِعَارَهَا, وَيَرْتَدُوْنَ دِثَارَهَا, وَيَتَزَيَّوْنَ بِوِشَاحِهَا, وَيَتَبَدَّوْنَ فِي بَرَاحِهَا) ولما كانت تلك رسالتَهم السامية، فلا بد أن ينفيَ عنهم كلَّ الصفاتِ التي تناقض تلك الرسالة وتدابرها: 
       (لَا يَعْرِفُوْنَ الْكَذِبَ, وَلَا الْغِشَّ, وَلَا النِّفَاقَ, وَلَا الْحَسَدَ, وَلَا الْحِقْدَ, وَلَا الرِّيَاءَ, وَلَا الظُّلْمَ, وَلَا الْأَنَانِيَةَ, وَلَا الْبَغْيَ, ولَا الْخِدَاعَ, وَلَا الزَّيْفَ, وَلَا الْحَيْفَ) إن تكرارَ النفي يؤكد معانيَ الطهارةِ والنقاءِ بقلوب تلك الكائنات لتناسب طبيعتهم؛ فهم  (شَخْصِيَّاتٌ مَلَائِكِيَّةٌ, كَمَا خَلَقَهُمْ اللهُ, أَسْوِيَاءَ, أَبْرِيَاءَ, أَتْقِيَاءَ, أَنْقِيَاءَ, طَهَارَةَ يَدٍ, وَسَلَامَةَ قَلْبٍ, وَطُمَأْنِيْنَةَ صَدْرٍ, وَرَاحَةَ بَالٍ, وَقُرْبَ مَنَالٍ) 
       إن الإنسانَ – بسلوكه وسيطرة صفات الشر عليه من طمع وحقد – هو سبب كل تغييرٍ طرأ على البيئة من حوله؛ بل إنه سببُ كلِّ شرٍّ بما يجنيه على مجتمعه ونفسه؛ فهو مَن سفَكَ الدماء، ودبَّر، ورتَّب؛ وخدَعَ، وسرَقَ، وغشَّ ...إلخ؛ لذلك فإن الغزاوي ما زال يرسم تلك الصورةَ لسكان مدينته الفاضلة، وقد أفاض في أوصافهم؛ بيانًا لدورهم الجديد في حمل رسالة الحب والخير والجمال، إنهم أناسٌ من طراز خاص يحكمهم منطقٌ واحدٌ هو منطقُ الإنسانية بكل ما تحمله الكلمة من معنىٰ، فلا تطرُّفَ ولا سفكَ دماء كما ذكرنا؛ لأنهم يحيون بالحب ويتعاطَون الودَّ (أَحْلُمُ بِشَخْصِيَّاتٍ يَتَعَامَلُوْنَ بِمَنْطِقِ الْإِنْسَانِيَّةِ فِي كُلِّ وَقَتْ وَآَنٍ, وَدَهْرٍ وَزَمَانٍ, شَخْصِيَّاتٌ يَكْرَهُوْنَ التَّعَصُّبَ, وَيَمْقَتُوْنَ التَّطَرُّفَ, وَيَشْجُبُوْنَ الْكَرَاهِيَةَ, وَيَحْيَوْنَ بِالْحُبِّ, وَيَتَعَاطَوْنَ الْوُدَّ) إن كرهَهم التعصبَ ومقتَهم التطرفَ جعلهم يدركون أن (الْكُلَّ عِنْدَهُمْ سَوَاسِيَةٌ, فَلَا فَرْقَ لَدَيْهِمْ بَيْنَ شَخْصٍ وَآَخَرَ, مَهْمَا كَانَ دِيْنُهُ, أَوْ تَغَايَرَ جِنْسُهُ, أَوْ تَبَايَنَ شَكْلُهُ, أَوْ حَسُنَتْ صُوْرَتُهُ, أَوِ ازْدَادَتْ جَهَامَتُهُ, أَوِ ابْيَضَّ لَوْنُهُ, أَوِ اسْوَدَّ وَجْهُهُ, أَوِ اخْتَلَفَ وَطَنُهُ وَكَوْنُهُ ) وغير خافٍ تتابُعُ الأفعالِ، وترتيبُها ذلك الترتيب المنطقي العجيب. 
         إن بشرًا بتلك الصفات قد فُطِروا على النقاء، وجُبِلوا علىٰ كُرهِ الشر والتطرف لابد أن تتسعَ صدورُهم، وتنبسطَ آفاقُ عقولهم، تلين جُنوبهم للآخر، إذا أخطأوا اعتذروا؛ الاحترامُ صفةٌ لازمةٌ فيهم، يعرفون متىٰ يكون التراجعُ، ومتى يكون العتابُ  ( أَحْلُمُ بِشَخْصِيَّاتٍ يُدْرِكُوْنَ قِيْمَةَ الْاخْتِلَافِ, وَثَقَافَةَ الْاعْتِذَارِ, وَتِيْمَةَ الْاحْتِرَامِ, وَذَكاءَ التَّرَاجُعِ, وَمَلَكَةَ الْعِتَابِ)
     ومن تتمة تلك الصفات التي يحلم بها الغزاوي لمن يسكنون مدينتَه الفاضلة، ينتمون لحلمه وينتمي لهم – أن يكونوا من ذوي الهِمم العالية التي تعينهم على تحقيق مبتغاهم ومرادِ صاحبِنا الغزاوي، أرواحهم متسامية التي توحي بالتجدد وهي صيغة مشتقة من الفعل تسامىٰ (تفاعَلَ) وما فيه من معاني المغالبة والمقاومة  والسمو والرفعة ما يزيد من التأكيد على الهدف المرجوّ وترسيخه، وما لعلوِّإلا لعلو وسموِّ نفوسهم (أَحْلُمُ بِالْهِمَمِ الْعَالِيَةِ, وَالْأَرْوَاحِ الْمُتَسَامِيَةِ, وَالنُّفُوْسِ السَّامِقَةِ) ولا يترك الدكتور الغزاوي  وسيلةً إلا وأكَّد بها فكرتَه؛ فثمَّ دلالاتٌ جديدةٌ يشيعها في تلك التتمة لصفات البشر المأمولين، ونعني بها تلك الدلالاتِ الناتجةَ عن استخدام صيغ المبالغة التالية (الْبَرَّاقَةِ ِ, , النَّقِيَّةِ, السَّوِيَّةِ) وأوزانها ( فعّال، فعيل، فعيل)  إنه لا يريد أن يترك مجالًا للخطأ، ولا سبيل للاحتمال وقعه؛ فذلك الاحتمال لم يخطر له علىٰ بالٍ قط، ولن يسمح بحدوثه عوض؛ لذلك كان لابد من المبالغة في الأفعال التي اشتقت منها أمثلة المبالغة السابقة وهي على الترتيب:  (بَرَقَ ، نَقِيَ، سَوِيَ) ولا مجال للعجب - أيها القارئ الكريم -  وأنت تنظر لهذا الترتيب المتسلسل؛ فصاحبُنا خبيرٌ باللغة عليمٌ بدقائقِها، وليس هذا من قبيل الصنعة؛ بل إنه الملَكة والموهبة؛ إذ تأتيك اللغة طائعةً طيّعة، فلا مُعاظلةَ ولا تكلُّفَ، بل تنساب انسيابَ الماءِ الزُّلال، وتأتيك في أبهى حُلَلِها؛ وكأن أحدَ سكان مدينة الغزاوي الفاضلة إن لم تكن في مقدمتهم تهديهم طريقًا وتمسك بمفاتيحها، نقول: لا عجبَ في ذلكم الترتيب؛ فالعقول حين تكون ْبَرَّاقَةً تصبح واثقةً ، والقلوب حين تكون  صافيةً تصير متلألئةً؛ فتُمسي الصُّدُوْرُ نَّقِيَّةً, وَالذَّوَاتُ تبيت سَوِيَّةً.
      وخلاصة القول: إن الدكتور الغزاوي يتخذ من البنية اللغوية: صرفيةً وتركيبيةً قواعدَ يرتكز عليها في بناء نصوصه، ولا ريب أن للبنيةِ التركيبيةِ أثرًا معنويًا وجماليًا لا يمكن أن تقوم به اللفظة إلا من خلال وضعها داخل هذا الإطار الجمالي بديع السبك كما فعل صاحبنا. 
ب- المستوىٰ البياني:
    يقول الجاحظ: "والبيانُ اسمٌ جامعٌ لكل شيءٍ كشفَ لك قناعَ المعنى، وهتَكَ الحجابَ دون الضمير، حتىٰ يُغضيَ السامع إلى حقيقته، ويهجمَ على محصوله كائنًا ما كان ذلك البيان، ومن أي جنس كان الدليل، لأن مدارَ الأمرِ والغايةِ التي يجري القائلُ والسامعُ، إنما هو الفهم والإفهام، فبأيِّ شيءٍ بلغتَ الإفهامَ وأوضحتَ عن المعنى، فذلك هو البيان في ذلك الموضع."( ) 
    "والأصل في الشعر وسائر الفنون الأدبية على اختلاف أنواعها وتباين مراميها وغاياتها، النظرُ بمعناه الشامل المحيط.. وعلى قدر اختلاف النظر يكون اختلافُ المعاني والأغراض."( ) 
    وصفوةُ القول أنَّ الإنسانَ مضطرٌّ إلى الخيال بطبعه، محتاجٌ إليه بغريزته؛ لأن منه غذاءَ روحِه وقلبِه ولسانِه وعقلِه، ولما كان الأمرُ كذلك كان لابد للأديب أن يتخذَ من الخيال وسيلةً جماليةً يزيّن ما يجول في نفسه من أفكارٍ وما يعتمل في قلبه من أحاسيسَ ومشاعر.
     والخيال في مقامات الغزاوي مبعثه نفسُ مبدعِه، أو قل: إن الخيالَ عند الغزاوي شديدُ الخصوصية شأنه في ذلك شأن إبداع الرجل كله؛ فهو يصبغ العملَ الأدبيَّ – شعرا أو نثرا – بصِبغةٍ خاصةٍ جدا يعرفها كلُّ من يطالع إبداعه؛ فتتسم عباراتُه بروعةِ الخيالِ ورشاقتِه وجلالِه، "ولقد تُقتَرَن العبارةُ البليغةُ بمعانٍ جمَّةٍ لا تزال تسترسل في الذهن حتى يحتويَها الغموضُ في ظلالِ الفكر البعيدة، وشعابِ الخيال المستترة، ولكن لا يلزم من ذلك أن يكون لهذا الكلام البليغ نصيبٌ من الغموض الذي لا بد تنتهي إليه معانيه ذهابًا مع الخيالِ ومطاوَعةً لتداعي الخواطر وتَلاحُقِ الصور" ( ) ؛ بيد أن الصور حين تتلاحق عند صاحبِنا يكون لتلاحُقِها قيمةٌ فنيةٌ، وليس مجردَ تلاحُقٍ لصورٍ لا يجمع بينها جامع؛ إنما تتلاحق لتكوِّنَ تلك اللوحاتِ الكليةَ التي تُشعِرُكَ بجمالِ الحياة وروعةِ الفن، وتؤسس لذلك البُعدِ النفسيِّ لدى مبدعها، ومرآةٌ صادقةٌ تعكس صورةَ المبدعِ والإبداعِ الحقيقيَّيْن.     
      ومن الملاحَظ أن الدكتور الغزاوي يتدرج في رسم صوره الجزئية؛ إذ يُفرِد لكل صورة مفرداتِها،  وأفكارَها، و ألفاظَها، ومضامينَها، وصورتَها البيانيّةَ المجازية، وتتوالى الصورُ الجزئية  وكأنّه يعلن الثورة على من يمنعه حلمه (يَحْجُرَ عَلَيَّ قُدْرَتِي فِي الْخَيَالِ) (أَوْ يُنَازِعُنِي فِي التُّهْيَامِ) هنا عبَّرتِ  الصورُ عن نفسِها ونفسِ مبدعها، فخرجَتْ من سكوتها وسكونها معلنةً موقفَ صاحبها، إنه الحُلم (بَعِيْدًا عَنْ هَذَا الْوَاقِعِ الضَّرِيْرِ) حُلمٌ (يَزْرَعُ الْأَمَلَ فِي النُّفُوْسِ الْمُتَهَالِكَةِ)  يجعل من حُلمه شخصًا (يزرع، وينثر، ويروي...) وهنا تتجلى المفارقةُ بين الصور؛ فالدكتور الغزاوي يعمد إلى التقابل التصويري، وهو حشدُ مجموعةٍ من الصور الجزئية، ثم ذكرُ ما يناقضها؛ فمَن يحجر، أو ينازع لا يعيش إلا في واقعٍ ضرير، يقابل تلك الصورَ صورٌ توحي بالتفاؤل، وتبعث الأملَ في النفوس.

ج – موسيقىٰ الألفاظ وشاعريتُها
     ثمَّ أمرٌ ضروريٌّ تجدر الإشارةُ إليه ونحن بصدد الكلام عن الموسيقىٰ وهو أن الدكتور الغزاوي شاعرٌ في المقام الأول؛ تشهدُ بذلك لغةُ المقامات التي بين أيدينا، ويمكننا القول: إن الغزاوي لو أراد أن يجعل من تلك المقامات قصائدَ شعريةً، لما خذلَتْه موهبتُه، وما خانه إمكانه؛ فلغةُ الرجلِ – قبل كل شيء وبعده – لغةٌ شاعرةٌ من طِرازٍ فريد، ونعني "باللغة الشاعرة في تقسيم حروفها، فهي لغةٌ إنسانيةٌ ناطقةٌ تستخدم جهازَ النطقِ الحيِّ أحسنَ استخدامٍ يهدي إليه الافتنانُ في الإيقاع الموسيقي"( )
     أراد الغزاوي أن تكون مقاماتُه بطعمِ الشعرِ: عاطفتِه، وخيالِه، وموسيقاه بطريقة ما؛ وأنا زعيمٌ كلَّ الزَّعم أن صديقَنا كان – وهو يبدع تلك المقامات – يحاول أن يطرحَ الشعرَ جانبًا حتى ينتهيَ من كتابتِه للمقامات؛ بيد أن الغزاوي الشاعر كان ينازع الغزاوي الكاتب، ويأبىٰ أن يفارقَه، يؤكد هذا الزعمَ لدينا – فضلًا عن تلك اللغة المموسقة – محاولةُ الكاتبِ التخلصَ من شيطان شعره؛ فلم تتداخلِ المقاماتُ مع الشعرِ إلا في خمسٍ هي على الترتيب: (الْمَقَامَةُ الثَّالِثَةُ - الْمَقَامَةُ الْبَطَاطِيِّةُ) و(الْمَقَامَةُ السَّادِسَةُ - الْمَقَامَةُ الْجَلْبُوْعِيَّةُ) و(الْمَقَامَةُ الْعُشْرُوْنَ - مَقَامَةُ السُّفُوْرِ) و(الْمَقَامَةُ الْخَامِسَةُ وَالْعُشْرُوْنَ - الْمَقَامَةُ الشِّتْوِيَّةُ) و (الْمَقَامَةُ السَّادِسَةُ وَالْعُشْرُوْنَ - الْمَقَامَةُ الْجِنِّيَّةُ) وهي نسبةٌ ضئيلةٌ جدًا مقارنةً بما فعله الهمَذاني والحريري، ولعله كان ينشد – أيضًا – هدفًا أسمىٰ وهو التجديدُ في بناء المقامة، وألَّا يكونَ ظلَّاً للرجلين اللذين لم يسجِّلا حضورَهما في مقامات الغزاوي إلا نادرًا.
     وللموسيقىٰ في مقامات الغزاوي مصادرُ عدة: أولها تلك العَلاقةُ التي تربط بين الكلمات، وهي عَلاقةٌ ناتجةٌ عن بناءٍ محكمٍ، وعباراتٍ قصيرةٍ تُحدِثُ أثرًا موسيقيًا بديعًا يشيع في مقاماتِهِ جميعِها، فكلُّ لفظةٍ يستخدمها الكاتبُ تحمل موسيقىً خاصةً على المستوىٰ الصوتي، ثم يُحمِّلها موسيقىً أخرىٰ من خلال وضعها في عبارةٍ لها – أيضا – أثرٌ موسيقيٌّ تتآلف تلك الموسيقى جميعها لتكوِّنَ تلك "السيمفونية" بديعةَ الألحان تضافُ إلى معالم الجمال.    
    والبديعُ ركيزةٌ يرتكز عليها النثرُ عمومًا والمقاماتُ خصوصًا لإحداث الموسيقىٰ التي تحقق عنصرَ المتعة، وليست العِبرةُ في حشدِ محسِّناتٍ لا يربط بينها رابط، ولا مبررَ لاستجلابِها غير الصنعة اللفظية المتكلَّفة، ولقد أفاض البلاغيون والنقاد – قديمًا وحديثًا –  في بيانِ أثر التفريط في استعمال البديع؛ فهذا "الجُرجاني" يعيب التكلفَ في استعمال البديع حين قال: "إن في كلام المتأخرين الآن كلامًا حملَ صاحبَه فرطُ شغفِه بأمورٍ ترجع إلى ما له اسمٌ في البديع، إلىٰ أن ينسىٰ أنه يتكلمُ ليُفهِم، ويقول ليُبَيِّن، ويخيَّل إليه أنه إذا جمع بين أقسام البديع في بيت، فلا ضيرَ أن يقعَ ما عنَاه في عَمياء، وأن يوقِعَ السامعَ من طلبه في خبطِ عشواء، وربما طمَسَ بكثرةِ ما يتكلفه على المعنىٰ وأفسدَه، كمن يُثقِل العروسَ بأصنافِ الحُليِّ حتىٰ ينالَها من ذلك مكروهٌ في نفسها".( )
     ويذهب الدكتور شوقي ضيف إلى تصنيفٍ يفرّق فيه بين التصنيع والتصنع، ففي الوقت الذي يعتبر فيه أن التصنيعَ هو استعمالُ البديعِ والبيانِ في النصِّ من أجل تجميلِه والتفننِ فيه، وإيلاءِ الشكل أهمية على حساب المضمون، بسبب تعقُّدِ الحياة وترفِها ودخولِ أذواقٍ جديدةٍ على الفطرةِ العربيةِ القديمة، فإنه يعتبر أن التصنعَ هو تكلُّفُ البديعِ وتعمُّدُ البيان، بحيث يخرجُ المضمونُ كليًا من النص، ومن ثم يتحولُ إلى نوعٍ من الأحاجي والألغاز.( )
  ليس في مقامات الغزاوي هذا النوعُ من التصنع؛ بل إن فيها الفطرةَ والطبيعةَ الشاعرةَ التي تُملي عليه ما يكتب، وكيف يختارُ اللفظَ ويقُدُّه قدَّاً للمعنىٰ.

9- خاتمة 
     تُجدر الإشارةُ إلى أننا عبر هذا الدراسة قد أردنا أن نكشفَ عن بعض جوانب الطبع، وأشرنا إلى بعض ملامحِ التجديد في مقامات الأستاذ الدكتور محمد دياب الغزاوي، بيد أننا لا ندَّعي أن هذه السطورَ قد أحاطت بكل جوانبِ الإبداعِ والتفرُّدِ في هذا العمل الإبداعي الفريد، ولا يجوز لكاتبِها أن يدَّعيَ أنه قد فصَّلَ القولَ في إبداع الرجل، وحسبُنا أنَّـا حاولنا الولوجَ إلىٰ عالَمِ الغزاوي الرحيب، وإنَّ ثمرةَ ذلك – لدينا – تستحق المحاولةَ وبذلَ الجهد، وقد خرجْنا من هذه الصفحات بعددٍ من الملاحظات حولَ مقامات الغزاوي، ونظنُّ أن عملَنا هذا قد يكونُ خطوةً أولىٰ نحو تعبيدِ الطريق للباحثين المتخصصين في هذا الفرع الأدبي، ولسنا في حاجةٍ إلى التنبيه أن هذه النتائجَ ليست نهائية؛ بل قد يشوبها كثيرٌ من النقصِ والخِداج، وتلك طبيعةُ كلِّ عملٍ بشري، بيد أنها – في الوقت نفسه -  بمثابة نقطةِ بدايةٍ وتوسيعٍ لمدارِكِ وأفكارِ كلِّ محبٍّ للأدبِ واللغةِ يرغب في التعمّق أكثر في هذا الأدب. ويمكننا تلخيصُها في النقاط التالية:
1- تنتمي مقالاتُ الغزاوي للأدب الاجتماعي في أظهرِ صوره، حيث نقدُ الواقع، ودعوةٌ لعالمٍ مثالي كما يراه الإنسانُ المبدع، وهي في ذلك توافق مقاماتِ الهمذاني والحريري في بعض جوانبها.
2- ليست مقاماتُ الغزاوي – وإن لم تغفلْ مؤسِّسَي هذا الفن – تقليدًا لما سبق من مقامات، وليس مبدعُها بظِلٍّ لمن سبقوه؛ بل له سماتٌ تميزه عمَّن عدَاه، ونرىٰ أنه سبقهم في الفنِّ وإن سبقوه في الزمنِ والتاريخ.
3- من مظاهر التجديد في مقامات الغزاوي نسجُه تلك المقامات التي أطلقْنا عليها "المقامات الذاتية الوجدانية" وهي تُحاكي الشعرَ الوجداني.
4- لغةُ الغزاوي شديدةُ الخصوصية تحمل سماتِ كاتبِها الشخصية من وعيٍ تامٍّ باللغة العربية وأصولِها وروافدِها التليدة، وهو يمزج بين اللغةِ العريقةِ واللغةِ العصريةِ في غير ابتذال، ولقراءاته وثقافته أثر كبير في ذلك؛ ولقد أخلص للغة والأدب فأخلصا له.
5- للغزاوي أسلوبٌ ساخرٌ ساحرٌ يأخذ بتلابيب القارئ، وهو أسلوبٌ يرسِّخ لرُوحِ الفُكاهة في المقامات، وليس هذا الأسلوبُ بغريبٍ على صاحبِنا؛ بل إنه سمةٌ أصيلةٌ تميز أسلوبَه في كلِّ ما أبدعه من أدبٍ: شعرًا ونثرًا.
6- تقتربُ مقاماتُ الغزاوي من القصة القصيرة في بنائها الفني حيث السرد، والشخوص، والزمان، والمكان ، والحَبكة، والحل؛ ما يمنحها عنصرَ التشويقِ والحيوية، وإن كانت تخالف القصة القصيرة في بعض جوانبها.
7- خالفَ الغزاوي من سبقوه في كتابة المقامات وخصوصًا الهمذاني والحريري؛ إذ لم يضمِّنْ مقاماتِه شعرًا إلا في خمسِ مقاماتٍ فحسب من مجموعِ خمسين، وهذا من مظاهرِ التجديدِ في مقامات الغزاوي، وإن كان عَوْدُه للهروبِ من أَسرِ الغزاوي الشاعر كما ذكرنا في حديثنا عن لغته الشاعرة.
9- تعبر مقاماتُ الغزاوي – عمومًا – عن تلك الحالة التي يشعر  بها أدباءُ العصر المخلصين من رفضٍ لواقعٍ مريرٍ تسيطرُ عليه ظروفٌ اقتصاديةٌ واجتماعيةٌ كان لها كبيرُ الأثرِ في غيابِ القيمِ والمثلِ العليا، والأدباءُ عمومًا والشعراءُ خصوصًا هُم طلابُ الكمالِ والمثل العليا في كل زمان؛ لذلك كانت مقاماتُ الغزاوي نفثةَ أديبٍ مهمومٍ بقضايا الإنسان في عصره.
 10- تعتبر مقاماتُ الغزاوي وجبةً دسمةً لكل مبدعٍ باحثٍ عن التميُّز؛ حيث تقدِّم معجمًا لُغويًا ثرَّاً، فضلًا عن تلك المهارةِ في توظيفِ الألفاظِ والاستفادةِ من دلالتِها الصوتيةِ والصرفيةِ والتركيبية؛ كما أنّها دليلٌ على تعمُّق صاحبِها في البيانِ العربيِّ وكيفيةِ توظيفِه بشكلٍ يخدُم النص، كما تميزتِ الصورُ بالابتكارِ والطرافة، وجاء البديعُ وليدَ الفكرِ والموضوعِ لا تكلُّفَ فيه ولا تَصنُّع.  
10- المصادر والمراجع
 )) العقاد : مقدمة ديوان المازني.
(2) المصدر السابق.
)3) المازني :  قبض الريح. 
(4) عمرو الزيات – شوارد - مقالات في الأدب والنقد.
(5) القلقشندي، لاتا.
(6) العقاد – الديوان في الأدب والنقد.
(7) محمد بن داود الأصفهاني ت 297هـ – كتاب الزهرة.
(8) ابن حزم – طوق الحمامة.
(9) ابن منظر – لسان العرب – مادة (نصَف).
(10) العقاد – مقدمة الجزء الأول من كتاب الديوان في الأدب والنقد، وإنما قلنا: العقاد لأنه - في رأينا -  يغلب عليها أسلوبه، كما أن مقدمة الجزء الثاني للمازني لنفس السبب. 
)11) أيمن بكر – السرد في مقامات الهمذاني – مكتبة الأسرة.
(12) أحمد أمين – فيض الخاطر(الجزء السابع).
(13) السخرية في أدب المازني – د. حامد عبده الهوّال.
(14) السابق.
(15) راجع كتابنا شوراد - مقالات في الأدب والنقد – الفصل الخامس مقالات من الأدب الساخر.
(16) أحمد أمين – فيض الخاطر(الجزء السابع).
(17) دكتور صلاح رزق – شعرية الدلالة في النص القديم.
(18) المازني – حصاد الهشيم، وانظر- أيضا - دكتور محمد مندور – فن الشعر مقال المضمون والصورة. 
(19) الدكتور محمد أبو الأنوار: الحوار الأدبي حول الشعر.
(20) العقاد - الديوان في الأدب والنقد – في رثاء مصطفى كامل.
(21) الجاحظ – البيان والتبيين.
(22) المازني – حصاد الهشيم.
(23) العقاد - الفصول.
(24) العقاد – اللغة الشاعرة.
(25) عبد القاهر الجرجاني - أسرار البلاغة.
(26) دكتور شوقي ضيف – الفن ومذاهبه في النثر العربي.