سيكولوجية الحشود: بين الغريزة والتنظيم بقلم خالد الحديدي

سيكولوجية الحشود: بين الغريزة والتنظيم بقلم خالد الحديدي
سيكولوجية الحشود: بين الغريزة والتنظيم بقلم خالد الحديدي
 
 
تُعتبر الحشود إحدى الظواهر الاجتماعية التي لطالما أُثِير حولها الجدل، من حيث تأثيرها على مسار الأحداث والمجتمعات. منذ العصور القديمة وحتى العصر الحديث، كانت الحشود محركًا قويًا للتغيير، سواء كان في شكل ثورات، احتجاجات، أو حتى في سياقات أكثر دقة كحركات المطالبة بالحقوق. ولكن، رغم هذا التأثير الكبير، تبقى الحشود في نظر العديد من المفكرين موضوعًا معقدًا، حيث تتعدد وجهات النظر حول طبيعتها وكيفية تأثيرها على الأفراد والمجتمعات.
 
غوستاف لوبون: الرائد في دراسة سيكولوجية الحشود
في عام 1895، قدم العالم الفرنسي غوستاف لوبون عمله الشهير سيكولوجية الجماهير، الذي طرح فيه تصوره حول الحشود وسلوك الأفراد عندما ينضمون إلى جماعات. كان لوبون أول من اعتبر أن الجماهير لا تتصرف بعقلانية، بل هي كائنات عاطفية لا تستطيع التفكير المنطقي أو التمييز بين الصواب والخطأ. يقول لوبون:
 (تذوب شخصية الفرد في روح الجماعة، ويتحول إلى كائن جديد يتصرف بغرائز بدائية.)
ووفقًا لهذا التصور، عندما يندمج الفرد في حشد، يُلغى تفكيره الفردي، ويصبح في حالة من اللاوعي الجماعي، حيث يسود الانفعال والعاطفة. وهو ما يفسر، وفقًا للوصف الذي قدمه لوبون، التصرفات العنيفة أو غير المدروسة التي يمكن أن تطرأ في بعض الحشود الغوغائية.
لم يكن تصور لوبون بعيدًا عن الواقع في حالات كثيرة، حيث شهد التاريخ العديد من الحشود التي تحولت إلى فوضى، كالثورات أو الاحتجاجات التي اندلعت بسبب مشاعر الغضب، مثل شغب الجماهير في الأحداث الاجتماعية أو السياسية. لكن من جهة أخرى، من المهم ألا نغفل حقيقة أن الحشود قد تكون أيضًا تعبيرًا مشروعًا عن رغبات أو مطالب مشروعة. كما قال الفيلسوف الإيطالي أنطونيو غرامشي:
 (ما يبدو فوضى هو في الحقيقة صرخة مكتومة لمجتمع يسعى إلى العدالة.)
على سبيل المثال، كانت العديد من الاحتجاجات عبر التاريخ خير دليل على كيف يمكن أن تتحول الحشود إلى قوة فاعلة من أجل التغيير السلمي، حيث تجمعت الجماهير في لحظات حاسمة من أجل التعبير عن مطالبها وتحقيق التغيير المنشود. وهكذا، تتحول الحشود، رغم مشاعر الغضب التي قد تحركها، إلى قوى بناء عندما تكون موجهة برؤية واضحة وأهداف نبيلة.
لكن لا تقتصر الحشود على تلك التي تتحرك بعواطف غير محكومة؛ بل هناك نوع آخر من الحشود، يتمثل في الحشود المنظمة التي تتسم بالوعي الجماعي. هذه الحشود لا تقتصر على التعبير عن الغضب أو الاستياء، بل تسعى لتحقيق أهداف محددة، وغالبًا ما تكون مدفوعة بفكرة أو رؤية مشتركة.
في هذا السياق، يمكننا ملاحظة كيف أن الحشود المنظمة التي تتبنى أهدافًا سياسية أو اجتماعية واضحة يمكن أن تصبح محركًا رئيسيًا للتغيير الاجتماعي. فعلى مر التاريخ، كانت الحشود المنظمة مثالًا على كيف يمكن تحويل الطاقة الجماعية إلى قوة إيجابية لتحقيق التغيير المنشود.
 
نقد كتاب سيكولوجية الجماهير
ورغم أهمية كتاب لوبون في تشكيل فهمنا للحشود، فإنه لا يخلو من النقد. فقد أغفل لوبون في تحليلاته العوامل الثقافية والسياسية التي تؤثر على سلوك الجماهير، واختزل الحشود في قالب واحد، أي الحشود الغوغائية التي يسيطر عليها الغضب والعاطفة. ومع تطور العلم في مجالات علم النفس والاجتماع، أصبح لدينا اليوم رؤية أكثر شمولية حول هذا الموضوع، حيث يمكننا التفريق بين الحشود الفوضوية والحشود الواعية والمنظمة.
كما أن لوبون يبالغ في تصوير تأثير الجماهير على الأفراد، متجاهلًا دور القيادة والتوجيه في تنظيم الحشود. القيادة الواعية يمكن أن تجعل من الحشود أداة قوية لتحقيق أهداف إيجابية، كما حدث في العديد من الحركات الثورية أو السياسية التي أدت إلى تغييرات جذرية في المجتمعات.
في العصر الحديث، ومع ظهور وسائل الإعلام الرقمية ووسائل التواصل الاجتماعي، أصبح لدينا نوع جديد من الحشود: الحشود الرقمية. لقد أصبح بإمكان الحشود اليوم التعبير عن مطالبها وتنظيم نفسها بسرعة كبيرة عبر الإنترنت، ما يفتح آفاقًا جديدة لفهم ديناميكيات الحشود. ومع ذلك، يبقى السؤال قائمًا: هل تتحول هذه الحشود الرقمية إلى أدوات فوضوية تحت تأثير الموجات العاطفية، أم أنها ستظل قوة بناء هادفة عندما تُوجه بحكمة؟
 
كما قال الفيلسوف مارشال ماكلوهان:
(وسائل الإعلام هي امتداد للإنسان، لكنها قد تصبح وسيلة للسيطرة على وعي الجماهير.)
هذا الاقتباس يعكس التحديات الجديدة التي تطرأ على الحشود في عصر التكنولوجيا، حيث أصبح بإمكان الأنظمة السياسية أو الشركات الكبرى استخدام وسائل الإعلام الحديثة لتوجيه الحشود نحو أهداف معينة، سواء كانت لصالحهم أو ضدهم.
إن فهم سيكولوجية الحشود هو أمر أساسي لفهم المجتمع البشري نفسه. الحشود، في مختلف أشكالها، تمثل انعكاسًا لروح العصر، وقدرتها على التأثير قد تكون قوة دافعة نحو التغيير الإيجابي أو نحو الفوضى والتدمير. في النهاية، ما يحدد الوجهة التي تتجه إليها الحشود هو وعي أفرادها، وقوة القيادة التي توجههم نحو هدف مشترك .