أبرياء فى عهدة القانون.."اليوم السابع" تكشف مصير أبناء السفاح المجهول بين إدانة المجتمع المسبقة واستعادة روح القانون.. مطالب بتيسير إجراءات التسجيل لتفادى كوارث مثل تجارة البشر أو الأعضاء

في سابقة قانونية، صدر قرار من نيابة السلام الجزئية في فبراير الماضى، بتسجيل طفل ناتج عن حمل سفاح، باسم والدته المختفية من ذوى الاحتياجات الخاصة، «أ. ف. ال»، رباعيا، بعد أخذ الإقرارات اللازمة من جدته، وتقدير سنه، وإخطار مكتب السجل المدنى المختص لاتخاذ إجراءات قيده، وإجراءات الرعاية الصحية له، مما يعتبر بارقة أمل لحالات مماثلة تعانى من تعقيدات قانونية، ناهيك عن نظرة مجتمعية سيئة. 

بناء على هذا التطور القانونى المهم، حاولت «اليوم السابع» الكشف عن مصير أبناء السفاح المجهول بين إدانة المجتمع المسبقة لأطفال يدفعون ذنبا لا دخل لهم فيه، ويعيشون بدون أوراق رسمية غالبًا فى ظل وجود إجراءات قانونية معقدة تجعل أمهاتهم يهربون من استكمال مسيرة تسجيلهم ليكون لهم الحقوق الطبيعية، بعيدًا عن الأعمال غير المشروعة أو عالم الشارع المظلم. 

بعد إجراء معايشة مع 5 حالات مختلفة الظروف ما بين فتيات ليل وأخريات تعرضن للاغتصاب، أثناء محاولاتهن لتسجيل أطفالهن وترددهن من أجل هذا الغرض على مكاتب الصحة والسجل المدنى وزيارات مختلفة للجمعيات الحقوقية ومكاتب المحامين، فضلنا إطلاق اسم «وريث الذنوب» على هؤلاء الأطفال كتوصيف موجز لحالاتهم! 

حكاية الجدة وأمل التغيير!

قرار النيابة التاريخى المشار إليه أعلاه، تبدأ قصته بمشهد احتضان الجدة «كريمة» لحفيدها، والخوف عليه من الخروج من المنزل ومغادرته بدون رجعة، كما فعلت أمه منذ سنوات، لعل عذرها فى أنها «غلبانة» كما تصفها السيدة العجوز بعفوية، فإنها لا تحب نعتها بأى صفات أخرى ممن يردها المحيطون، مثل «المجنونة» أو «المختلة»، فقد سعت فى علاجها كثيرًا، لكن كل محاولاتها باءت بالفشل لأسباب متعددة أهونها الفقر.

 

الطفل-والمحامية
الطفل والمحامية

 

اعتادت ابنة كريمة هجر المنزل ليومين أو ثلاثة على أقصى تقدير، تهيم على وجهها لا تدرى أمها أين تذهب؟.. تنام فى الشوارع، تحت الكبارى، وتقصد المناطق النائية، وتبحث عنها الأم كل يوم بدون فائدة، وفى ليلة مظلمة عادت الابنة المنزل، واعتقدت الأم أنها استفاقت من النوبة التى أصابتها لكن هذا المرة كانت مختلفة تمامًا بعدما اكتشفت أنها حامل فى طفل بعد اغتصابها فى الشارع. 

 

عن معاناتها تحكى السيدة على المعاش: «لا أدرى من تسول له نفسه اغتصاب فتاة لا حول لها ولا قوة.. لله المشتكى.. بعد الحادثة عملت على الاعتناء بالطفل، فقد أصبح نور عينى وكل حياتى، وكأنه تعويض عما لقيته فى هذه الحياة.. وازداد تعلقى به بعدما رحلت ابنتى من المنزل مجددًا وهذه المرة لم تعد حتى الآن».

حياة الجدة كريمة تحولت إلى جحيم بعد علمها بإمكانية انتزاع الصغير من حضنها ووضعه فى إحدى دور الأيتام بسبب مشاكل وتعقيدات قانونية بذلت قصارى جهدها لتفهمها، وكانت تقول لنفسها دوما: «ألا يكفى ما حدث لنا، ما ذنب الطفل أنه مولود سفاح أم شرعى.. كل ما أريده تسجيله فى مكتب الصحة واستخراج شهادة ميلاده حتى يتسنى له العيش بصورة طبيعية؟». 

 

بلغ الحفيد عمر السبع سنوات أثناء طرق جدته للأبواب القانونية من أجل تسجيله، وظلت تتساءل بعفوية شديدة :»أين روح القانون؟» إلى أن وجدتها أخيرًا بعدما أخذت النيابة بكل المستندات الدالة على أن الطفل حفيدها، ومنها بلاغ لضمه لنسبها، وكل الشهود على ما حدث من واقعة حمل ابنتها من ذوى القدرات الخاصة، وحتى الشبه بينه وبينها الذى أقرته النيابة. 

 

رغم التسجيل القانونى إلا أن الحفيد يعيش حالة نفسية سيئة، نظرًا لوجود معاملة سيئة من المحيطين به باستثناء جدته، والسبب أنه فى نظرهم «وصمة عار»، حاولت الجدة التبرير أن ابنتها غير مسؤولة عما فعلت لكن الأقارب والجيران لا يتوقفون عن اللوم أو إيذاء الصغير بكلمات جارحة!

 

فى حكاية الجدة وحفيدها شقان، الأول قانونى تم حله فى نهاية المطاف، إنما تبقى جزء مهم آخر لا يمكن إغفاله ألا وهو نظرة المجتمع، ورغم أن الحالة المشار إليها أعلاه، لم تكن مسؤولة عن تصرفاتها بشكل كامل تم إلقاء اللوم عليها لأنها اغتُصبت، فماذا سيكون الحال عندما يأتى الخطأ من شخص فى كامل قواه العقلية! 

 

القصة الأولى.. انتكاسة متوقعة!

داخل إحدى الجمعيات الحقوقية تحمل منة رضيعتها.. تصرخ بشدة.. تحاول تهدئتها، فتستجيب لها!، لا تدرى بم تناديها فلم تختر لها اسما بعد، وليست متيقنة من قدرتها على منحها أى أوراق رسمية تثبت أنها حية ترزق، هذه الطفلة، خطيئتها التى لم تغتفر وقربان توبتها! 

 

فى كل مرة تحتضن منة طفلتها تتمنى لو وجدت من يطيب خاطرها، وينصحها بعدم الانجراف فى طريق الآثام، فقد نشأت فى أسرة تعانى من ضيق اليد، وزاد من السوء أمر انفصال والديها وهى فى سن الـ16 عامًا.

 

بعد انهيار أسرتها، اختارت منة أقصر الطرق من أجل التخلص من ظروفها الصعبة، سارت فى طريق الانفلات الأخلاقى، واندفعت فيه بنفس قوة وقسوة ما كانت تتلقاه من ضربات على يد والدتها، وكلما اشتد تضييق أمها عليها، زادت من رعونتها، فكانت لا تبالى بشىء، لا تعنيف أمها ولا كلام الناس ولا تدهور مستواها التعليمى!. 

 

فضيحة فى منزلنا 

حاولت الأم العمل على تصحيح مسار ابنتها لكن بأسلوب لم يرق الصغيرة، فقد سعت لإشراك والدها فى إعادتها للمسار الصحيح لتصطدم برفضه فقد حسم أمره نهائيًا بعدم سماع أخبار تلك الأسرة نهائيًا، ساورت الأم أفكار عدة للتخلص من كابوس انحراف ابنتها لدرجة التفكير فى الإبلاغ عنها، إلا أنها تراجعت بسبب خوفها من عواقب هذا الفعل.

 

حاولت الأم الزج بمنة إلى عدة مؤسسات خاصة تستضيف الفتيات، ونظرًا لأن تلك الدور لم تضع قواعد تجبر الفتيات على المكوث فيها، فقد كانت الفتاة تخرج وتفعل ما يحلو لها!، أيضًا فشلت محاولة أخرى لإدخالها مؤسسة حكومية تابعة لوزارة التضامن، وهنا تقول منة: «عدت إلى الشارع مجددًا وجدت حريتى فيه.. وتنقلت بين بيوت الدعارة.. لكن تلك الحرية النسبية سرعان ما زالت عندما وجدت الكلابشات فى يدى، ولدى قضية فى سجلى». 

 

هروب آخر!

بعد فترة من الغياب عادت منة إل  منزل والدتها هذه المرة اختلفت عن كل ما سبقها من محاولات كر وفر، فقد جاءت منة تحمل طفلاً بين أحشائها لا تدرى ماذا تفعل؟، فقد أدركت أنها جنت على نفسها بتصرفاتها قبل أى شىء آخر، حتى أمها القاسية استقبلتها بطريقة مختلفة لا يوجد هذه المرة ضرب أو انفعال أو شجار إنما هدوء فقط يسكن المكان!. 

 

يوم يمر وآخر يأتى ومحاولات تسجيل الطفلة تبوء بالفشل التام، لجأت الأم وابنتها إلى جمعيات حقوقية لتساعدها فى حل مشكلتها، لكن نظرا لتعقد الإجراءات فاض كيل منة وهربت من ظروفها كما تفعل كل مرة، مختتمة قصتها: «أعمل بائعة وأتقاضى ملاليم، وأعيش ظروفا صعبة إلا أنه تأتى علىّ لحظات يأس، وأعود لضلالى القديم من أجل توفير مال لىّ ولأسرتى، انقطعت عن التواصل مع الجمعيات الحقوقية أو أى جهة، لا فائدة، لن أتمكن من تسجيل ابنتى أو أحيا بكرامة وسط مجتمع لا يريد نسيان الماضى.. ماذا أفعل هل أعود إلى ضلالى القديم؟».

 

القصة الثانية.. ليلة سعيدة وظلام لا ينتهى!

تجلس إيمان-اسم مستعار- فى أحد الشوارع تحمل طفلها، تتأمل ملامحه البريئة وتتساءل: ما ذنبه فيما اقترفت من ذنوب؟: «هل سيغفر لىّ فى المستقبل عندما يكبر ويعلم حقيقة أنه ابن زنا أم سيعاملنى بازدراء كالآخرين؟! هل سيكون له مستقبل أصلاً؟ أم أنه سيتوه فى غياهب الشوارع ودوامتها ستبتلعه لغير رجعة!». 

 

فى تلك اللحظة الحزينة، تبتسم إيمان على سذاجتها عندما كانت فى سن الـ15 عامًا، وكيف غمرتها السعادة بعدما علمت أنها ستركب الطائرة وتسافر لأول مرة فى حياتها إلى إحدى الدول العربية، وفى أيامها الأولى برفقة والدتها فى الخارج عملت على التكيف مع إحساس الغربة، زاد الوجع عليها بعدما تحول سلوك أبيها 180 درجة تقريبًا فقد كانت كل ليلة تسمع صراخ والدتها من «علقة» كل يوم على يد الأب السكير مدمن المخدرات.

 

أبى أم وحش؟ 

لم تصمد الأم كثيرًا أمام الضرب والإهانة والخيانة فى الغربة، قررت الرحيل وطلبت الطلاق ليساومها الأب على التخلى عن الابنة لتشترى حريتها!، وبالفعل تم الاتفاق. 

 

الأب لم يكتفِ بتعذيب إيمان بعد رحيل الأم، بل تزوج من أعانته على تدمير مستقبلها بالكامل، فتلك المرأة لم تكن جديدة على بيتهم فقد ربطتها علاقة محرمة بالأب الذى ارتبط بها طمعا فى مركز تجميل تمتلكه وعلاقاتها النافذة، بعد فترة اكتشفت الابنة أن وضعا مريبا يدور فى الأفق، عشرات الرجال والنساء يسهرون فى منزلهم يتعاطون المخدرات ويشربون الخمر ويقيمون العلاقات الجنسية فى صمت من الأب، وسيطرة كاملة لزوجته. 

 

 «استسلمت لرغبات زوجة أبى، وفى كل ليلة قضتيها مع الأغراب تمنيت لو استطعت قتل أبى وأمى، نعم حلمت بهذا مرارًا وتكرارًا، لكنى لم أستطع الإقدام على هذه الخطوة لأنى جبانة!».. هكذا وصفت إيمان شعورها لمدة 3 سنوات عاشت فيها فى منزل أبيها وزوجته. 

 

عملت إيمان على ادخار المال فى تلك الليالى حالكة الظالمة، حاولت الهرب لكن محاولاتها باءت بالفشل إلى أن سنحت لها الفرصة وجدت نفسها أمام السفارة المصرية، لتسجد لله شكرًا على النجاة من الحياة داخل قبو المعاصى الذى كانت تسكنه!، قدمت بلاغا ضد والدها وزوجته، وتوسلت طالبة الحماية، وبالفعل كان لها ما أرادت وتمت إعادتها إلى القاهرة.

 

حلم تحول إلى كابوس 

الآن، إيمان تجاوز عمرها الـ17 عامًا، تنتظر محطة جديدة فى حياتها بعد سنوات كئيبة ومحبطة، على أعتاب مصر سرعان ما تبدد كل شىء جميل تحلم به، جدتها ماتت!، وأمها تستقبلها بحضن «فاتر»!، وصدمتها قائلة: «لا أستطيع الصرف على نفسى، كيف سأتحمل مصاريفك، ما الذى أتى بك إلى هنا؟!».

 

بانتهاء استقبال الأم غير المتوقع، استرجعت إيمان ما علمته إياها زوجة أبيها، أدمنت معاكسة جيرانها الرجال بأحاديث غير أخلاقية، رغم أنها كانت تبدو فتاة لعوب! لكن كانت ساذجة بارتكاب مثل هذه التصرفات، وعندما نضجت كان الآوان قد فات، وانحدرت داخل مستنقع الدعارة، وأصبحت مسجلة آداب فى سن الـ19. 

 

الطفلة-وجدتها
الطفلة وجدتها

 

كان يبدو أن الأم فاض كيلها مما تفعله إيمان، لذا قررت تسليمها لإحدى الجمعيات الحقوقية كمحاولة لإرشادها إنما فى الباطن كانت تدرك الابنة أن أمها تكرهها وتريد طى صفحتها حتى تتمكن من عيش حياتها بحرية، وبالفعل ذهبت إيمان وعاشت داخل ذلك الدار التابع لوزارة التضامن بعد إتمام كل الإجراءات القانونية من أجل إعادة دمجها فى المجتمع كما قال المسؤولون أمامها، إلا أنها لم تحتمل القيود الصارمة، فقد رأت أنها تعيش فى قفص جديد، لذا قررت الهرب والعودة للأم مجددًا.

 

العودة مجددًا لبيت الأم لم يكن سوى قشة قصمت ظهر إيمان، فقد احتدم الشجار بينها وبين والدتها التى أرادت بشدة أن تترك ابنتها منزلها وتذهب لحال سبيلها أيا كان شكله!، فالمهم أن ترتاح منها!، وهنا قررت إيمان الدخول إلى عالم فتيات الليل، سئمت من نفسها، تمنت الموت، تجرعت كل ما يساعدها على نسيان همها، أصبحت مسجلة آداب، ووسط كل هذه الدوامة وجدت نفسها أمام مشاعر متضاربة، فقد حملت، وجاءت للحياة بطفل برىء لا ذنب له سوى أنه ابنها.

 

شكر واعتذار 

رفضت إيمان الاستماع لأى حديث عن التخلص منه، طفلها هو دليل إدانتها وفى الوقت نفسه طوق نجاتها مما كانت فيه، الكل يقتلها بنظرته، جيرانها يرفضون مخالطتها، وحتى فى أبسط الأماكن تعامل بأسوأ طريقة ممكن مثلا فى الوحدة الصحية عندما ذهبت لاستخراج أوراق للطفل وجدت مهانة رهيبة.

 

على مدار 3 سنوات أو تقريبًا منذ ولادة طفلها تتعاون إيمان مع الجمعيات الحقوقية من أجل إيجاد حل لمشكلتها وتسجيل طفلها، إلا أنها منذ هذا الوقت وحتى الآن تعيش «كعب داير» على حد وصفها ما بين الذهاب إلى قسم الشرطة ومكتب الصحة والسجل المدنى والمجلس القومى للمرأة، دون فائدة أو خطوة جديدة تحدث.

 

القصة الثالثة.. طفلة تموت كل يوم!

تملأ ملك الطفلة ذات السنوات الستة حياة أمها سوسن، فى كل يوم تجرى بجوارها تشعرها بأن لهذا العالم معنى، وكلما مرت من أمامها تتذكر كيف خطر ببالها التخلص منها عندما كانت رضيعة، وقتها فكرت فى إلقائها بالشارع أو إيداعها مؤسسة أو دار أيتام، فهى ذنبها الذى لن يغفره الأهل أو الجيران أو المجتمع ككل لكنها قالت لنفسها: «أخطأت ولن تدفع طفتلى الثمن».

 

«سأحارب العالم لأجلك يا صغيرتى، سأفعل كل ما بوسعى ليكون لك مستقبلاً أفضل منى».. أقسمت سوسن على العيش بالحلال منذ ولادة طفلتها، وعملت فى أكثر من عمل آخرها مصنع للحلويات، لكن ينغص عليها عيشتها عدم تسجيل ابنتها على الأوراق الرسمية حتى الآن.

 

تخشى سوسن على طفلتها من «الهواء الطاير» كما يُقال، تدعو الله أن يكون حظها أفضل من حظ أمها، فقد واجهت الحياة بمفردها كانت طفلة يتيمة تتنقل من بيوت الأقارب إلى دور الأيتام والجمعيات الخيرية، وانتهى بها الحال فى الشارع، تذوقت الذل والمهانة فى ليالٍ صعبة، تمنت لو عاملها الآخرون على أنها بشر لها شعور، حلمت بمنزل تأمن فيه على نفسها، لكن للأسف انتهى بها المطاف غنيمة للقريب قبل البعيد.

 

توبة نصوح

فى كل مرة يتاح لسوسن سرد ماضيها لشخص لن يعاتبها أو يرمقها بنظر ازدراء، تقول: «فاض بى الكيل من محاولات الجميع النيل من جسد، ضُربت بشدة، حتى رضخت وانهارت عزيمتى، تناولت المخدرات بكثافة وفقدت إرادتى، وسرقت روحى منى على يد كل رجل انتهك حرمة جسدى مستغلاً ضعف قوتى وقلة حيلتى وهوانى على الناس».

 

لا تنسى فتاة الليل التائبة ما حيت لحظة انقطاع الدورة الشهرية وعلمها بأنها حامل فى طفل تجهل هوية والده، وقتها تداخلت مشاعرها بين خوف وغضب وحزن، شعرت بأنها تكاد تفقد عقلها حاولت إجهاض الطفل لكن فشلت! 

 

عقب ولادة ملك جلست الأم بضعة أسابيع فى المنزل تخشى الخروج للشارع، تتوارى عن أنظار الجيران، تتساءل وتحدث نفسها: «ماذا سيقولون عن صغيرتى؟.. هل سيسألون عن أبيها الذى لا أعرفه؟ أريد تسجيلها فى مكتب الصحة، لتحصل على التطعيمات اللازمة، ماذا بيدى فعله الآن؟»

 

ذنب لا يغتفر 

رفض مكتب الصحة والسجل المدنى الاستجابة لنداءات سوسن، عاملوها بقسوة وازدراء، كأنهم يحاسبونها عما اقترفته من آثام، وبعد حالة من «اللف والدوران» اهتدت إلى فكرة اللجوء إلى جمعية حقوقية طالبة المساعدة، وعما حدث هناك تروى: «طلبوا منى التوجه إلى قسم الشرطة والاعتراف بكل ما ارتكبت، فى محاولة لاستخراج إقرار أننى أم لتلك الطفلة حتى يتم تسجيلها ومنحها شهادة ميلاد واسم لأب اعتبارى وفقا للقانون، لكنى خشيت من اتهامى والإلقاء بى فى السجن مجددا». 

 

تكبر ملك أمام أعين أمها، لا تدرى ماذا تفعل أمام سيل الشكوك من الجيران وما تبقى من الأقارب عن هوية والدها، فهناك من يلعب على وتر تلك الأزمة لاستغلالها جسديا أو استغلال الطفلة نفسها»، ورغم تلك المصاعب لم تيأس سوسن، قائلة: «لجأت للمجلس القومى للأمومة والطفولة لكنه أغلق أبوابه فى وجهى ولم يساعدنى أحد من مسؤوليه، لم أفقد الأمل.. ذهبت لمحكمة الأسرة حاولت إقامة دعوى أخرى النيابة ردت على بأنها ليست جهة اختصاص».

 

عادت من جديد سوسن لطرق أبواب مكتب الصحة.. هذا المرة رد عليها أحد المسؤولين بهدوء وأخبرها: «ليس لدى خلفية بوضع الطفل غير الشرعى فى القانون ولا أحد هنا يدرى كيفية التصرف فى حالتك».. حديث مسؤول الصحة مع سوسن كان بمثابة العودة إلى النقطة صفر، تشعر وكأنها تدور فى حلقات مفرغة!

 

القصة الرابعة.. منبوذة وسط لاجئين!

فى شوارع القاهرة تحمل الشابة السورية سمر طفلها تائهة، تطرق أبواب كل من تعرفهم لمساعدتها، لكنهم يتأففون ويبعدونها عنهم وكأنها جرثومة، ترحل من مكان لآخر مذهولة متساءلة: ألا يكفى ما لقيته من أهوال النزوح ومُر اللجوء.. ضعفت أمام أهوال الحياة.. وأخطأت فما ذنب هذا الصغير.. أن يجد كل هذه القسوة.. نعم هو ابن غير شرعى، لكن برىء مما أجبره العالم أن يكونه».

 

حكاية سمر ليست أقل معاناة من آلاف السوريات ممن شردتهن الحرب، كانت فتاة فى مقتبل العمر، عندما جاءت إلى القاهرة، الآن تبلغ 22 عامًا وملامحها حزينة لدرجة الإيحاء بأنها أكبر من ذلك بكثير!، فى بداية حياتها بمصر وجدت نفسها فى غرفة صغيرة بالرحاب برفقة نساء سوريات أخريات إلا أنها فشلت فى إيجاد وظيفة ثابتة لسداد أجرة تلك الغرفة، ازداد سخطها على هذه الحياة، لم يعد فى مخيلتها أى ذكريات جديدة لا تذكر منزلها القديم ولا وجوه عائلتها، فقد تلاشى كل شىء سوى القصف والصراخ ورائحة البارود ومنظر الموتى بالشوارع.

 

طفل بلا أب أو وطن!

صمود سمر لم يستمر طويلاً، فقد تعرفت على إحدى محترفات الأعمال المخلة بالآداب، وعن تلك الفترة من حياتها تقول الفتاة السورية: «نعم فعلت الكثير من الأخطاء التى تغتفر بحكم اليأس مرة واللامبالاة مرات أخرى.. فالحياة لم تعد لها طعم ولا يوجد هدف أعيش من أجله».

 

تبدلت حياة اللاجئة السورية فى لحظة، وجدت نفسها «حامل» فى طفل بالإكراه من قبل أحد الأشخاص، لا تدرى من يكون والده؟، وفى غفلة من الزمن وجدت هذا الطفل يصرخ بجانبها، وعن وضعها منذ ذلك الحين تحكى سمر: «منذ لحظة ميلاد ابنى.. أقابل باحتقار من كل معارفى.. أنا منبوذة حتى وسط مجتمع اللاجئين.. لا أدرى ماذا سيكون مستقبل صغير.. كيف يمكننى تقنين وضع هذا المولود بدون أب أو وطن يعترف بوجوده فى الحياة؟».

 

تدرك الفتاة السورية أنا مشكلة تسجيل نجلها بشكل رسمى صعبة بحسب القانونيين التى لجأت إليهم وقالوا لها: «فى المعتاد أى طفل سورى يولد فى مصر بشكل شرعى يتم تسجيله فى السفارة وبعدها وزارة الداخلية المصرية، لكن فى حالة أنه طفل غير شرعى، يعنى أبيه مجهول الهوية ليس مصريا أو سوريا، فلا يمكن استخراج اسم اعتبارى له كما ينص القانون المصرى، وأى محاولات هنا ستندرج تحت بند التزوير». 

 

المتخصصون فى القانون قالوا لـ«سمر» أيضًا: «مفوضية اللاجئين فى حالتك لن تتمكن من إعطاء الكارت الذى يمنح بشكل مؤقت من أجل تسجيل الطفل فى مدرسة أو تلقى الخدمات الصحية، من الممكن منحك مساعدات إنسانية، إضافة إلى أن حتى مبادرة وزارة الداخلية المصرية لم الشمل لتسجيل كل السوريين المتواجدين فى مصر بشكل رسمى لن تنطبق على طفلك لأنه غير شرعى».

 

القصة لم تنته هنا إنما كان لها بقية، فبعد فترة زمنية، ووفقًا لمحامية الفتاة السورية فإنها علمت أنها بعد فترة أعطت الطفل لإحدى صديقاتها للتخلص منه، وبالفعل ألقته أمام إحدى المولات وبعد الواقعة تم التعرف عليها، واعترفت على أم الطفلة، لتعترف هى الأخرى أنها حملت فيه بشكل غير شرعى ليتم الحكم عليها بغرامة بتهمة الإهمال فى حق الطفل، لكنها فيما بعد هربت وتركت الطفل فى الدار واختفت وغيرت محل إقامتها.

 

وطبقا لما روته المحامية فإن الطفل بات يعيش ظروفا أصعب مما قبل، فإنه لا يمكن لأى أسرة أن تكفله رغم تقدم عدد من الأسرة البديلة لكفالته، والسبب هنا القانون يمنع هذا الأمر فى ظل معلومية وجود الأم لكنها ليس معثورا عليها، إضافة إلى عدم علمه بجنسية الأب هل هو مصرى أم سورى؟! 

 

ماذا رصدنا؟ 

الحكايات السابقة ليست كل شىء إنما هناك ملاحظات تم رصدها أثناء الجولات برفقة الحالات وممثلى المنظمات الحقوقية المسؤولة عن تقديم الدعم القانونى لهن، اكتشفنا بعد زيارات لكل من مكتب صحة إمبابة ومصر الجديدة والسلام، عدم دراية المسؤولين هناك عن الوضع القانونى الواجب اتباعه فى حالات طفل الناتج عن علاقة غير شرعية، إضافة إلى ذلك فإن مسؤولى السجل المدنى فى الغالب يرفضون التجاوب قبل عمل محضر بالقسم، وهو ما يعتبر النقطة الأصعب خاصة أن كثيرا من الحالات يخشين من المساءلة القانونية ويتراجعن عن إكمال طريق التسجيل. 

 

الملاحظة التى وجدناها فى عالم تسجيل أطفال السفاح أن معظم القضايا تنتهى بالحفظ وحتى إذا أجرت الأم أو المسؤولون عنها قانونيًا تظلمات للجهات المعنية فإن الوضع يبقى على ما هو عليه لسنوات ويبقى الطفل دون شهادة ميلاد، إضافة إلى ذلك حالة التجاهل التى تعانيها الحالات من المجلس القومى للأمومة والطفولة واقتصر دوره على تحويل أى حالة تأتيه لجمعية خيرية دون إبداء أى رد فعل إضافى. 

 

أيضًا خلال جولاتنا برفقة الحالات والعاملين على هذا الملف سواء فى الجمعيات الحقوقية أو قانونيون فإنهم أدلوا بشهادتهم عن وجود حالات يعرض عليهم الأقارب بأخذ الأطفال منهم وتسجليهم على اسم الخالة أو العم أو أى قريب لهم، بعدما يأسوا من تسجيل أبنائهم وليس هذا فحسب إنما هناك بعض من المحامين يعرضون على موكليهم تحويل القضية بدلا من تسجيل طفل غير شرعى إلى طفل معثور عليه كنوع من التحايل لاستصدار اسم للطفل وشهادة ميلاد، إلا أنه فى هذه الحالة تفقد الأم أمومتها له، ويتم إيداعه «دار»، وإذا كانت لديها رغبة فى تربيته تتقدم بطلب كفالة وتواجه الشروط ومن الممكن ألا تتوافر فيها. 

أيضا من الشهادات التى استمعنا لها أن هناك حالات نجحت بالفعل فى تسجيل أطفالها، لكن فى الواقع كان هذا بحسب تعاملهم مع أشخاص تفهموا حالتهم سواء كان رئيس نيابة أو مكتب صحة أو مسؤولا فى السجل المدنى!

 

كيف نفض اشتباك القضية المعقدة؟ 

على الصعيد القانونى، توضح دعاء عباس، رئيس الجمعية القانونية لحقوق الطفل والأسرة، أن المادة 10 لقانون سنة 61 بقانون مكافحة الدعارة تنص على أن عقوبة تهمة الفجور أو التحريض عليه لا تقل عن سنة ولا تزيد على 5 سنوات، أما إذا كانت الجريمة «فعل فاضح» فتنص المادة 178 من قانون العقوبات أن العقوبة لا تزيد عن سنتين وغرامة لا تقل عن 5 آلاف ولا تزيد عن 10 آلاف. 

 

وتضيف المحامية المختصة بحقوق الطفل والمرأة: «إذا وقعت الفتاة فى جريمة من تلك الجرائم المشار إليها أعلاه سواء بإرادتها أو بحكم الظروف المحيطة بها وتم الحكم عليها لقضاء عقوبتها فى إحدى السجون العمومية أو المؤسسات الخاصة بالفتيات القاصرات وقضت بها 5 سنوات، فمن وجهة نظرى أنها فترة كبيرة إذا أردنا استغلالها فى مساعدة الفتاة للبدء من جديد وإعادة تأهليها للعودة للمجتمع، وكذلك ضرورة تأهيل المجتمع أيضا لكيفية تقبله لها وعدم معايرتها بجرمها حتى لا تعود أسوأ مما كانت عليه، وبذلك نساعد الفتاة قبل الانحراف ويترتب عليه توفير عبء على المجتمع من تكلفة الدعم النفسى والمادى والقانونى للأطفال الناتجين عن تلك الأزمات». 

وتتابع القانونية حديثها قائلة: «النقطة الأهم المترتبة على ممارسة الفتيات للدعارة أو التعرض للاغتصاب أو زنا المحارم هو حمل سفاح وما ينتج عنه من مواليد، وفى تلك الحالة نطبق المادة رقم 20 من اللائحة التنفيذية لقانون الطفل مادة 12 لسنة 92 المعدل 126 لسنة 2008 من قانون الطفل، ونضع اسم الطفل باسم والدته وتترك خانه الأب فارغة وتشكل لجنة من مصلحة الأحوال المدنية لاختيار اسم أب اعتبارى له». 

 

وتدلل المحامية على صحة وجهة نظرها قائلة: «مع الكثير من الحالات حاولنا استخراج شهادات ميلاد للأطفال لتصادفنا العقبة الأولى، وتتمثل فى إقناعهم بقبول بعض الإجراءات غير الضرورية لعمل محضر بقسم الشرطة، والتى تعد خطوة مستحيلة بالنسبة لفتاة حامل فى طفل غير شرعى، فكيف لها أن تواجه المجتمع والقانون والعقوبات وتعترف بأنها حملت- فى الحرام- على حد وصف الحالات، مما يدفعهم لرفض الذهاب ويظل الطفل لسنوات دون تقنين وضعه خارج سجلات الدولة ولا يعطى أيا من حقوقه والقانون فى إجازة مفتوحة». 

 

الوضع القانونى المعقد المشار إليه أعلاه من يفضه؟، سؤال تم توجيه إلى الدكتورة، آمنة نصير، أستاذ العقيدة والفلسفة والعميدة السابقة لكلية الدراسات الإنسانية، وعضو مجلس النواب، فعلقت بدورها قائلة: إن الإسلام تطرق إلى قضية أطفال العلاقات غير الشرعية عن طريق «القائس»، أى متتبع الشبه، حيث كان مهمته أن يدرس الشبه بين من ادعت والمدعى عليه، فكانت الأولية حق الطفل مهما كان الجرم الذى ارتكبته والدته.

 

وتابعت أستاذ العقيدة حديثها: «فى عصرنا الحالى تطور العلم وأصبح يستطيع تحليل الـDNA، إثبات نسب الطفل سواء لأمه أو أبيه وعندها على القانون إقرار ذلك، ومنح الطفل لضمان حقوقه التى نصت عليها القوانين والمواثيق الدولية».

 

واستدركت عضو مجلس النواب فى حديثها: «فى حالة الأم التى ارتكبت جناية، ووقعت فى الخطأ بإرادتها وارتكبت علاقات محرمة مع أكثر من شخص وإضافة إلى جنايتها بأن جاءت بطفل فى هذا الدنيا، فاقد حقه فى شهادة ميلاد والتعليم وتلقى الرعاية الصحية اللازمة، بسبب عدم علمها وتيقنها من والد الطفل لإثبات نسبه لتعدد علاقاتها، فلا يجوز أن نعاقبه بجريمتها». 

 

وأشارت نصير إلى أن الأم التى تأتى بطفل عن طريق السفاح، سواء كان بإرادتها أو تعرضت للاغتصاب فإن تهربها من الاهتمام بذلك المولود بالاختفاء خشية من المجتمع ونظرته القاسية أو العرف كما فى محافظات الوجه القبلى، أو خوفا على سمعتها، أو خشيتها التعرض للقتل، يجعل المجتمع أمام أزمة مركبة تصعب حلها.

 

وشددت عضو مجلس النواب على أن حق الطفل لا يسقط أبدا فى اسم ثلاثى بناءً على تقدم والدته دون إلزامها بإجراءات تدفعها للتراجع بسبب الخوف من التعرض لأسئلة أو عقوبة، موضحة أنها ستتبنى إعداد مشروع قانون ليطرح على البرلمان ليسن تشريعا يحفظ حقوق الأطفال ويحث أمهاتهم بالتقدم لتسجيلهم وييسر لهم العقبات والروتين، دون النظر لظروف وملابسات الطريق غير الشرعى الذى أتى عن طريقه هذا الطفل للحياة، أو حتى إلزامها بالتصريح عن والده، حتى لا تتراجع وتترك مصير ذلك الطفل للمجهول.

 

 

هذا الخبر منقول من اليوم السابع