شربل داغر شاعر له مذهب خاص ، فمنذ ديوانه الأول " فتات البياض ، 1981، اختار أن يتمهل فى "سباق الشعر" بينما أقرانه يشاركون فى المارثون ملوحين بالأغنيات والأناشيد والسرديات المرصعة بالكلمات الملفتة والتراكيب المبهرجة والدوال الحداثية التى تربط البحر بنوارسه والصحراء بنجومها والوقت بالأماكن التى تختفى ، بينما يحمل هو مجموعات من الحروف والكلمات والتراكيب ويستهدف أن يشق طريقا فرعية بلا فأس ، وكلما ناداه شاعرٌ رفيقُ دربٍ ، لماذا تقف هكذا يا شربل وتحمل كلماتك بدل أن تنضم إلينا فى الماراثون ، يجيبه : أريد أن أكون ، ويناديه رفيقٌ ثانٍ : تعالَ يا شربل، طريق الحداثة واضحةٌ ومفهومةٌ ، فيرد عليه شربل : أريد أن أوجدنى ، وإذ يخاطبه ثالثٌ ، وماذا تفعل باللغة وبالكلام الذى تحمله على كتفك؟ يرد شربل : أشق طريقا لأعرف كيف تعلم آدم الأسماء كلها ، هل تعرف متى تشرق الموجودات؟
"لهذا تراه يُمعن في التنقيب عما خفي عنه ولم يره أو لم يعلم بوجوده أساسًا
يُمعن في مخالفة السير، في مخاطبة غائبِين
لعله يجد مبررًا أو مسوِّغًا لما شرع به من دون علمه
مثل لعبة مسلية
محتاجًا لغبطة بلغتْه لمّا وجدتْ المعلمة في الصف الابتدائي أن جملته جميلة فأسمعتْها لرفاقه...
المعلمة غابتْ لكن جملتها ترنّ
وهو يسعى وراء رنين من دون أن يجده" - " يا حياة، أتوق إليكِ .. فتجيبنى : أتوق إليكَ"ص26
ومنذ ديوانه الأول "فتات البياض"، 1981،الذى استغرق سنوات من البحث عن زاوية نظر للقصيدة واكتشاف دور اللغة الجوهرية فى وجود الشاعر الحداثى ، أصدر شربل داغر عدة دواوين ومختارات شعرية منها : "رشم"، 2000، و"تخت شرقي"، 2000، و"حاطب ليل"، 2001، و"غيري بصفة كوني – مختارات "، 2003، و"إعراباً لشكل"، 2004، و"لا تبحث عن معنى لعله يلقاك"، 2006، و"تلدني كلماتي- مختارات"، 2007، و"ترانزيت"، دار النهضة العربية، بيروت، 2009، و"وليمة قمر- مختارات "، الهيئة العامة لقصور الثقافة، القاهرة، 2009، و"القصيدة لمن يشتهيها"، 2010 و"لا يصل الكلام، بل يسير- مختارات " 2013 و"على طرف لساني"، 2014 و"دمى فاجرة"، 2016 بالإضافة إلى الديوان الأحدث " يا حياة، أتوق إليكِ .. فتجيبنى : أتوق إليكَ" 2019
ويشتمل الديوان الذى بين أيدينا " يا حياة، أتوق إليكِ .. فتجيبنى : أتوق إليكَ" والصادر عن دار المتوسط للنشر – إيطاليا2019" على سبع وسبعين قصيدة بين ومضات ولمحات خاطفة ومطولات سردية ومنولوجات وديالوجات ، تبدأ بقصيدة "قد نكون فى تدافع ماشين ، دون أن تتلامس خطواتنا " ص5 ، وتنتهى بقصيدة" قفل كتاب " ص130، وجميعها تقريبا تتقصى القصيدة أثناء خلقها وتنتظرها فى اكتمالها على الورق، لتحتضنها وتندغم بها فى محاولة لكشف أسرار تشكلها وصناعتها لأنها نفسها أسرار تشكل الشاعر ووجوده المتنامى ، فالنحات الذى يجذب الحصان من الصخرة الصماء هو نفسه الشاعر الذى يستخلص الكلام من اللغة ويخلق القصيدة فتعيد القصيدة خلقه ، بأن تضيف إليه عينين كاشفتين لقشرة جديدة من الوجود.
وفى حوار خاص مؤخرا أشار " داغر" إلى بعض منطلقاته فى صناعة الشعر بقوله : " اجتماعية الشعر، هى فى حسابى، الفقيرة المبعدة، فيما أرى أن الشعر اجتماعى فى طبيعته، ما دام أنه، عند شاعره، احتياج إلى البث، إلى التلفظ، وعند متلقيه، احتياجٌ إلى التقبل والانفعال... وفى ما يخصنى تنحو الاجتماعية فى شعرى وجهة أخرى، تتعين فى المتكلم بطبيعة الحال، لكنها تتعين فى لحظوية منشودة، حيث التكلم يعنى تأكيدَ الذات فى وجودها، فى عيشها. تكاد جملة: "هكذا أكتب"، تساوى أو تعين جملة: "هكذا أكون". ففعلُ الكتابة لا يتوسطه شاغل خارجي، ولا يتوجه به إلى آخر، مطلوب، وإنما هو استحضار للكائن فى المتكلم، وتموقع فى تدافعات الزمن الجارى." موقع اليوم السابع"
بين دى سوسير وهايدجر
رأينا أن نستضيئ فى قراءتنا للديوان الذى بين أيدينا بعلمين وثيقى الصلة بشعر شربل داغر عموما وقصائد هذا الديوان خصوصا ، الأول هو رائد علم اللغويات فرديناند دى سوسير والثانى هو الفيلسوف الألمانى مارتن هايدجر ومؤلفه الأساسى الوجود والزمان وخاصة رؤيته لعلاقة الشعراء ومسئولويتهم تجاه اللغة الجوهرية، أما دى سوسير ، فنجد أن تمثلاته الأساسية لدى شربل داغر كثيرة وجوهرية من حيث النظر إلى اللغة بوصفها نسقا ونظاما من العلامات والرموز الصوتية الاصطلاحية فى أذهان الجماعة اللغوية تحقق التواصل فيما بينهم ، كما يفرق تفرقة واضحة بين اللغة واللسان والكلام ، فاللغة هى ملكة بشرية عامة أما اللسان فهو جزء محدود من اللغة وهو إنتاج مجتمعى ناتج عن اتفاقيات يقرها المجتمع ويشير إلى لغة معينة كالعربية مثلا ، بينما الكلام هو الإنجاز الفردى لقواعد اللغة بوعى واختبار
أما مارتن هيدجر فهو من يرى أن الشعر يعنى صناعة الكلمات من صمت الصوت وهو ما يبني بيت الوجود وان الشاعر حقاً، هو من يدع صمت الصوت يُسمع من خلال الكلمات، وترك شيء يظهر ويضيء في بياض الصفحة وبين العبارات والكلمات. ، كما يؤمن هيدجر بالشعراء كمخلصين وحيدين للإنسانية، بعد أن يؤمنوا أولاً بوجودهم المتحقق عبر اللغة، وليس عبر وسيط سواها، عبر مطلق اللغة التي يسميها "بيت الوجود" وسيدة الانسان وليس كما يشيع أحيانا من لغات زخرفية أو جامدة أو استخدامية، إنها اللغة التي عندما تتجلى، يتجلى وجودنا وتظهر علاقتنا بالعالم، وقبلها، اي قبل تجلي اللغة، لا نكون حقاً ولا نعرف أنفسنا ولا نقيم علاقات حقيقية مع العالم ، وفى كتابه " الوجود والزمان" يرى هيدجر إن المعنى هو الذي يؤسس اللغة و القول هو تحديد عيني للكلام. وبدون اللغة لن تكون الأشياء ما هي عليه، ذلك أن اللغة تستدعى الأشياء وتعطينا القدرة على استدعائها ، وبالمثل فإن الكلام ينبغي أيضا ان تكون له من حيث ماهيته طريقة كينونة متصلة بالعالم على نحو خاص ، بل إن مفهوم الوجود فى العالم وفق وجدان ما إنما يفصح عن نفسه ويظهر من حيث كونه كلاما
وهنا لابد وأن نسمع لشربل داغر وهو يقول فى قصيدته الأولى بالديوان " قد نكون فى تدافع ماشين ، دون أن تتلامس خطواتنا" :
"هناك من يظنُّ أن اللغة تنتظره بمجرد أن يفتح بواباتها الكثيرة : سيدةُ بيتٍ مطيعة، بعد أن رتَّبته لقدومه في أي لحظة
هناك من يظنُّ أن ما قاله لها، أو ما سيقوله لها، يحلُّ حيثما يشاء، من دون استئذان، مثل مَلك في مملكته، أينما يشاء
هناك من يظنُّ أن الكلمات تنتظره راضية مَرضية مثل عكّازتَين قرب سريره، أو قفَّازًا لتسديد لكمات مستحَقة... أو أنها شرشف لسرير أو بطانية في ملجأ
لكَ أن تسألها أن تنزعَها من أصابع غيرك أن تشغلها بما يديم أصابعها في راحة يدك" ص11
ويقول أيضا فى القصيدة نفسها :
" إذ إن لكَ تجوالًا هو الذي للمحبِّ يبسط سندسًا أو بساطًا لشراكة
وهو الذي للأعمى يهجس بما سيلقاه، ويتحسس الموجودات قبل أن يجسُّها ويشمُّها ويذوقها، قبل أن يقتنصها بقوةِ نسر
فهي ليست طريدة وأنتَ لست قنَّاصًا ما دام أن بينكما ما يشمُّه الحبيب في الحبيبة، والحبيبة في الحبيب، قبل أن ينعطف الخصر إلى الخصر وتلتقي الشفتان بأوسع مما تسعان- ص11
شربل داغر يؤكد أن مسعاه إلى اللغة هو مسعاه إلى القصيدة وهو القصيدة نفسها ، ولنا أن نقف لحظة هنا أمام هذا الوجود الجمالى الذى تتكامل فيه الهواجس الفكرية فى ذهن الشاعر مع المنطق الجمالى والمدخل إلى الشعر ، وهى نفسها ، أى هذه الهواجس الفكرية والجمالية ، تصير عدة الشاعر وقصيدته ، فالهاجس الفكرى والمنطق الجمالى لا ينطرحان على شيئ خارجى لينتجا القصيدة بل توجد القصيدة من مشقة التفكير فيها كقصيدة بعيدة مشتهاة ، يسعى الشاعر إلى أن يتكبد المشاق فى سبيل الوصول إليها ، ولكنها مشاق مختلفة عما بذله عنترة من الغربة والأسر فى أرض النعمان بن المنذر بحثا عن النوق العصافير مهرا لحبيبته عبلة ، مشاق فى أرض ملكة آخرى هى اللغة ومغامرة كبرى محفوفة بالمخاطر وغير مضمونة السعى ، إلا ببذل الكثير من المحبة والفهم
وهو يؤكد هذا المعنى مرارا بين قصائد الديوان التى تتحول فى أحيان كثيرة إلى تجليات المسعى نحو القصيدة أو الفرح باكتشافها أو استعراض صدها ونزقها أو لحظة تجليها للشاعر أو تمنعها عليه
"يمدُّ الطفل أصبعه إلى حجر مثل نحات
أو إلهٍ يفكر في صُورِ مخلوقاته...
يمدُّ الشاعر لسانه إلى ألفاظ فلا يجدها
بل يجد غيرها
مما يرتق به فتوقًا
بين عبارة وفجوة."
"بين طفل وشاعر"- ص 24
وفى قصيدة بعنوان "لذاذات " يقول :
"لذاذات لذيذة ألتذُّ بها
لا تقرُّ بها القصيدة
لا تُدوِّنها
ما دام أنني أُديرها مثل طائرة ورقية
بعيدة، وفي متناول يدي
ما دام أنها تُظللني
مثل غيمة تَعِدُ بمائها المحتبِس...
........
في مرةٍ تغار القصيدة من شاعرها
في مرةٍ يمدُّ الشاعر لسانه للقصيدة" - ص33
كما يؤكد شربل هذا المعنى نفسه تصريحا ،فى الحوار الخاص المنشور على موقع اليوم السابع ، والمشار إليه سابقا إذ يقول : " لا تخلو بعض قصائدى من ثلاثى، هو: الشاعر بوصفه إنسانًا، والشاعر بوصفه متكلمًا فيها، والقصيدة بينهما. ففى قصائد مثل هذه تنعقد علاقات – بعضها نزاعي، وحزين – بين هذه الأطراف الثلاثة، وتبدو فيها القصيدة هى الأبقى – إن بقيتْ – بينها....فى أحيان أتكلم عن غربتى مع قصيدتى، بعد أن تخرج منى، فى عهدة قارئ، أو إذ أزورها بعد وقت، أو أتفقدها بعد النشر من جديد.....فى أحيان، لا أتورع عن الكتابة، أو عن التصريح، أن ما يعنينى من القصيدة هو وجودها، معناها الذى يتعدانى، لا شخصى. إلا أن أقوالى يشوبها ألم أكيد، وهو أن القصيدة قد تبقى ناقصة، بعد خروجها إلى القارئ: ناقصة عما انطلقت منه، وناقصة، إذ إنها تكون – نهائيًّا – من دونى" .
الصورة الذهنية والصورة الصوتية
إذا كان هيدجر يدعونا إلى الابتعاد عما يسميه بالكلام الزائف وعدم الاعتداد به ، قاصدا كلام المحادثات اليومية باعتباره يمثل انهيارا للمعنى الأصلى للوجود من حيث هو لغة ، والذى لا يتجلى إلا فى القول الشعرى ، التعبير الأصفى للشعراء، تجليات الحالات الداخلية للإنسان فى قمة تعبيره ، حيث يمكن القبض على المعنى الباقى وعلى ما يمكن أن يتداول من جيل إلى جيل ، فإن دى سوسير يدعونا بدوره إلى ضرورة الالتفات إلى الصورة الذهنية للمعنى ، فاللفظ لا يشير إلى مسمى مباشر فى الواقع الملموس وإنما إلى صورة فى الذهن عن هذا الواقع الملموس تتكون بواسطة اللغة ، بمعنى آخر فإن العلامة اللغوية أى اللفظ ومعناه ، تتكون من وجهين هما الصورة الصوتية "دال " والصورة الذهنية" مدلول" وهذان الوجهان لعملة واحدة ينعكسان على الشيئ المشار إليه فى الواقع
وما بين مسعى هايدجر للانفصال عن الكلام الزائف ودعوة دى سوسير للالتفات إلى الصورة الذهنية للمعنى لأنها أدق مما نعتبره مسميات الواقع الملموس، يقدم شربل داغر فى ديوانه الأخير مجموعة من التمرينات والتساؤلات البحثية من داخل اللغة الشعرية الجمالية ، حيث القصيدة تختبر نفسها واللغة تفكر فى ماهية تشكلها وتزن ألفاظها مثل الصائغ الذى يفحص مجوهراته
يقول شربل فى قصيدة بعنوان " مفردات ذات هيئة" :
"كل شيء بمتناولك / يكفي أن تمدَّ يدكَ، أينما تشاء، لتعثر على أناس يتكالمون فيما بينهم : هذان شاعران يتناظران فيما ينصرف عابرون وصيادون عنهما باحثِين عن دُمى يجدون فيها هيئات بقيت محتجبة عنهم وراء ستائر مسدلة...ص63"
و فى قصيدة " أقفل النثر جملته":
"كان النثر يودُّ بدوره مجالستهم في وليمتهم المنصوبة، إلا أنه امتنع عن ذلك بعد أن وجد أكثر من واحد فيهم يَجمعون في صحونهم أكثر مما يحتاجون، ويزدردون فلا يذوقون..." ص 60
وفى قصيدة "تشبيه ساكن يكاد أن ينقطع":
"مفردات في معجم
كأنها مشدودة بحبل دقيق
في بئر
في انتظار أن يسحبها أحد
قبل أن تسقط تمامًا في عتمة الغفلة" - ص65
ويقول فى قصيدة " بين شعب وشغب وشغف" :
"- وماذا عن الشعب والشغب ؟
= قد يكون بينهما جناس ناقص.
- هناك قربى غير ذلك.. لا تلبيها بلاغة بالية
= ما تكون ؟
- تأتيني فكرة قديمة أجد أنها مناسبة في هذا التكالم، وهي أن بعضهم كان يفضِّل الخاصّة على العامّة، بل يجد في الدهماء ما يقلق مجلس الخليفة والفقهاء والعلماء والأدباء.
.................
أأنتَ قانع أم يائس ؟
- لا، أنا في مكان آخر
= أين ؟
- في نقطة
= أيها ؟
- ما جعل الشغب ينتهي إلى : شغف
= تستحق أن تبدل وجهة القبلة" - ص ص 70-71
هل يمكن القول إذن إن شربل داغر فى قصائد ديوانه الذى بين أيدينا، يسجل موقفا فلسفيا وجماليا ، يحمل فيه راية هيدجر محذرا من انهيار الوجود بسبب طغيان اللغة الاستعمالية الشائعة على الشعر بدلا من الإنصات إلى اللغة الجوهرية والإمساك بالصمت بين الألفاظ أو السعى نحو العلاقات العصرية بين الألفاظ والتراكيب؟
هل يمكن القول إن شربل داغر اختار الموقف الرافض لكل ثرثرة لغوية غير منضبطة ، ولكل تداع أو تهويم شعرى لا يعرف شعراؤه ضبط العلاقات بين الكلمات ويتعاملون مع الكلمات تعامل النهمين الذين يزدردون ولا يتذوقون؟
هل يمكن القول إن شربل داغر ينعى حال اللغة المهجورة من أصحاب الألسنة والمتكالمين ، الذين يديرون ظهورهم إلى ما يمتلكون من ثروات بينما يعيشون على الكفاف؟
هل يمكن القول إن شربل داغر ينعى نقص الشغف فى العلاقة مع اللغة والقصيدة والذى ينتهى إلى إفقار الوجود وحرمانه من أهم مقوماته ، وينتهى إلى نوع من الوجود المتكرر فى الزمان والمكان ، معاش سلفا ومختبر قبلا ولا إضافة فيه ، رغم الأصوات العالية والشغب الذى يثيره الموجودون؟
البحث عن الحوار .. البحث عن الوجود
يرى شربل داغر أن الشكل معنى فى المقام الأول وهو يعمل على الشكل من بناء الجملة إلى بناء النص الشعرى وعلاقة الجملة بالسطر الشعرى وكذا علاقة السطر الشعرى بسابقه والذى يليه ، والشكل الحوارى أو الديالوج من أكثر الأشكال التى ينحو شربل إلى إيجاد متنفس لها وسط قصائده ، وكأنها بقعة الضوء المفسرة لطبيعة العلاقات داخل القصيدة أو كأنها نوع من السعى للمعنى الشعرى عبر مسرحته ، والمسرحة هنا فى جوهرها بحث عن التواصل الذى هو أثر جوهرى لكل حوار ، تواصل يعنى الاكتمال بالآخر بالانفتاح عليه والاحتكاك به واختبار أفكار بأفكار وبعث الحياة فى ألفاظ خاملة ومتروكة وشائعة بعد وضعها فى علاقات جديدة ، وهو ما يجعل مفهوم الشكل لدى شربل بناء ثقافيا وجماليا أيضا.
يقول شربل داغر فى قصيدتة "قد نكون فى تدافع ماشين ، دون أن تتلامس خطواتنا " ص ص7-8
= هل في إمكاني تعليق أحمالي فوق هذا الجدار ؟
- لا، إنه جداري.
= أفي مقدوري محو ما كتبتَ لكي أكتب فوقه ؟
- لا، ما كتبتُه قد مضى. ما ستكتبه سيمضي بدوره.
= أترانا في موج كلام ؟
- قد نكون في تدافع ماشِين من دون أن تتلامس خطواتنا.
= لو نرتِّب لقاء بيننا...
- ها نحن نتلاقى من دون أن نتبادل حتى تحية.
- لماذا ؟
= يكون أحدنا ينعطف في المجيء لمّا ينعطف الآخر في الذهاب.
- كلانا ينعطف... لماذا يكون الواحد يجيء والآخر يذهب ؟
= أتريد أن تقول إن كلينا يجيئان أو يذهبان ؟
- ربما، لكنهما لا يسلكان الشارع عينه.
= بلى... نتلاقى في عينَي آخر قابعٍ في عتمته"
حوار إذن لكنه مفتوح على التساؤلات المعرفية والوجودية ، وتحريك الذهن بشأن غاية القصيدة فى وجودها وحياة الألفاظ فى علاقاتها داخل الجملة والسطر الشعريين وفى الخيال الشعرى العام الذى بات نوعا من الجزر المنعزلة التى تفتقد الحد الأدنى من التواصل ، أو كما يعبر هو ،طرق لا تؤدى إلى تلاقى السائرين فيها لأنهم لا يسلكون الشارع نفسه وينتظرون أن يتلاقوا فى عينى آخر قابع فى عتمته ومكتف بها
ويقول فى قصيدة بعنوان " شفتان للسان واحد":
- إن لم تَسَع القصيدةُ اللغةَ، فمن يتكفل بها ؟
= لا عليكَ. أبعد من أن تصل إليها... قصائد عديدة في خدمتها
- لا، من دون القصيدة تكون مجموعة في معجم... مبعثرةً في موتها الرخامي.
= أتحكي عنها أم عن الشاعر ؟
- عنها، بين يديه.
= أهو يصنعها لكي يتلقفها بخفة خبّاز من عجينه ؟
- لقد وجد من السبل ما يؤلفها : هي في هيئات مختلفة
= أهي اللغة في القصيدة أم القصيدة في اللغة ؟
- شفتان للسان واحد فيما القصيدة تحملها وتطلقها
= لعلك لا تصف، بل تُسوِّق
- ولِمَ لا ؟ من يُروِّج للغة أفضل من القصيدة ؟ من يُحييها إذ يَدرج معها أينما كان : في وصفها، وحوارها، وتتابعِها في انحدار عبارة، وشغفها بما تدعو غيرها معها للاحتفاء به ؟
= أتريد القول إنها محظية اللغة ؟
- قد لا تكون محظية قط، وإنما تفرح في ما تقوم به من دون دعوة من أحد" - ص ص 56-66
نعود إلى هايدجر وتفضيله للشعراء باعتبارهم مخلصين للإنسانية بشرط إيمانهم أولاً بوجودهم المتحقق عبر اللغة، بيت الوجود وسيدة الانسان وليس عبر وسيط سواها، اللغة التي عندما تتجلى، يتجلى وجودنا وتظهر علاقتنا بالعالم، والقصيدة هنا ليست محظية اللغة ولا خادمتها ولا أداتها الاستعمالية وإنما هى الكاهنة فى معبدها التى تبذل ما تبذله كاهنات باخوس عن إيمان لا عن عهر وعن محبة فرحة لا عن تكلف وقصدية دعائية جامدة
كما يدعو هيدجر إلى التواصل بالحوار :" بالحوار نكون واحدا، مترابطين في تركيباتنا الأساسية، أنا ما أقول، ونحن معا ما تعبر عنه كلماتنا ، كما أن التواصل بالقول، هو حالة خاصة من التواصل المدرك على نحو وجودى ، ففي الديالوج ،خصوصا الإبداعى، تتعين كينونة الذات الفاهمة مع الذات الأخرى الشريكة فى العالم ويحدث اقتسام الوجدان معا ومشاركة الوجود ، وهو ما يمكن مراقبته فى قصيدة "فذلكة" حيث يقول شربل :
- ما الصلة بين الكلمة واللكمة ؟
= مبعثَرة في كلمات متقاطعة
- هذا ما قلتَه سابقًا : بين شارع وشاعر، من دون أن أجد جوابًا شافيًا عن ذلك
= أما فرحتِ باللقية ؟
- بلى. لكن اللقية أثرية : تفيد عما فات، تبقى عنه علامة وإن مكسورة أو... مبعثرة
= هناك جَرَيان قد جرى... هناك خطوات قد تقاطعت مع خطوات أخرى بالصدفة أو إثر موعد مرتَّب
- ها أنت تلعب من جديد
= من قال إن اللعب لا يليق باللغة، أو بالشاعر، وهما – معًا – يناوران فيما يلهوان : يُسدِّدان مِشية حروف، أو ضربة على الفكّ .
- كلمة بمثابة لكمة... لكمة بمثابة كلمة أليس كذلك ؟
= ما يتغير ليس نهاية اللفظ : مة، وأنما أوله : لك أو كل
- ما يعني هذا ؟
= يعني أن هذا : لك. ويعني أيضًا أن هذا : كل
- كيف وجدتْها هذه ؟ أكنتَ تعرفها قبل أن نبحث في الصلة ؟
= لا. كنت ألهو... لكنني سعيتُ ووجدتُ ما يجنِّبُني السكوت في حوار معكِ
- أكنت تفيدني أم تغريني ؟
= جِدِي الجواب على طرف لساني" - ص ص 67- 68
يهرب شربل داغر مما يسميه " الرثاثة اللغوية " التى باتت تتحكم ببناء العبارة فى الشعر والأدب عموما ، كما يعارض رد الفعل الآلى الذى يتجلى عند الإتباعيين من الكتاب والشعراء الذين يلجأون إلى لغة خشبية جامدة أو إلى جر ألفاظ المعجم من ثباتها وجمودها إلى ثبات وجمود جديدين دون خيال أو جهد أو تفكير فى اختبارها بعلاقات جديدة تمنحها هواء مختلفا لتتنفس وتضعها فى جدليات مثيرة للتساؤل والقلق والتفكير ، وهو بين هؤلاء وأولئك يلوذ بالتجريب واللعب والاختبار والتمرينات الحرة داخل الجملة والسطر والقصيدة ، آمنا فى بيت اللغة المقدس من كل خطر مادام فرحا بلقياه ممنا بمهمته الهيدجرية كمخلص للإنسانية من خلال اللغة الشعرية وابتكاراتها وأسئلتها الجمالية والوجودية
هوامش :-
- محاضرات في علم اللسان العام، ترجمة: عبدالقادر قنيني، دار نشر إفريقيا شرق، 2006
- مدكور عاطف، علم اللغة بين التراث والمعاصرة، دار الثقافة القاهرة - 1987
-اتجاهات البحث اللسانى – تأليف ميلكا إفيتش – ترجمة :سعد عبد العزيز مصلوح ووفاء كامل فايد – المجلس الأعلى للثقافة 1996
- مارتن هيدجر – كتابات أساسية – ترجمة اسماعيل المصدق – المجلس الأعلى للثقافة- القاهرة 2003
-الزمان الوجودى – عبد الرحمن بدوى- دار الثقافة –بيروت 1973
- نظرية التأويل – مصطفى ناصف –النادى الأدبى الثقافى بجدة – السعودية 2000
هذا الخبر منقول من اليوم السابع