جهود مضنية ومضاعفة تبذلها الدولة المصرية لخفض التصعيد العسكري في قطاع غزة والعودة إلى مربع التهدئة في ظل العدوان الإسرائيلي الغاشم على المدنيين العزل داخل القطاع، وعملت مصر منذ اللحظة الأولى للعدوان على تشكيل جبهة إقليمية ودولية داعمة لرؤيتها المتمثلة في ضرورة وصول المساعدات الإنسانية إلى غزة والدفع نحو هدنة إنسانية كمرحلة أولى ومقدمة لاتفاق كامل لوقف إطلاق النار، وقد تكللت هذه الجهود بالنجاح بعد تكثيف مصر لتحركاتها واتصالاتها على كافة الأصعدة.
مصر أبرز الدول الفاعلة والمؤثرة في المشهد الفلسطيني نظرا لإدراكها طبيعة وتشابكات الملف، فضلا عن ارتباطها باتصالات مع كافة الأطراف سواء الفصائل الفلسطينية في غزة أو الجانب الإسرائيلي، وكان لها دور بارز في الحروب السابقة بالوساطة التي جنبت غزة ويلات العمل العسكري الإسرائيلي العنيف، وذلك انطلاقا من دورها التاريخي والمحوري الداعم للشعب الفلسطيني في الحصول على حقوقه التاريخية والتأكيد أيضا على أن خيار السلام هو الحل الوحيد للصراع بين الفلسطينيين والإسرائيليين.
ما يميز مصر أنها وسيط نزيه ومقبول من الطرفين الفلسطيني والإسرائيلي فهي تعمل بكل صدق من أجل المشروع الوطني الفلسطيني دون أي محاولة لإقحام الفلسطينيين في صراعات إقليمية ودولية مثلما تقوم أطراف بعينها وكذلك سعيها لنقل رسالة للإسرائيليين بأن الأدوات العسكرية الخشنة لن تحقق الأمن والاستقرار، وهو ما يعزز مكانة الدولة المصرية باعتبارها طرف مهم وفاعل في معادلة الصراع الفلسطيني والإسرائيلي، والقادرة على احتواء أي تصعيد عسكري في قطاع غزة.
رغم الدعم الغربي والأمريكي الأعمى لجيش الاحتلال الإسرائيلي عقب السابع من أكتوبر الماضي كثفت الدولة المصرية من تحركاتها واتصالات، وعملت على الضغط على الجانب الإسرائيلي للسماح بدخول المساعدات الإنسانية والطبية والوقود إلى غزة وتخصيص مطار العريش كنقطة لاستقبال المساعدات الخارجية لسكان غزة، والضغط على الاحتلال كي لا يستهدف الجانب الفلسطيني من معبر رفح وقد نجحت جهود مصر في هذا الإطار.
ومع التحركات المصرية على المستوى الإنساني كانت هناك خلية تعمل على مدار الساعة لتشكيل محور عربي وغربي داعم لحقوق الفلسطينيين حيث تم التطرق إلى جذور الصراع الممتد للعقود بين الجانبين الفلسطيني والإسرائيلي، ونجحت قمة القاهرة للسلام في توضيح صورة ما يجري داخل غزة وأسباب ودوافع الصراع الذي دفع الفصائل إلى هذه المرحلة من التصعيد العسكري، وقد نجحت القاهرة في تحييد بعض الدول الأوروبية التي كانت تدعم إسرائيل بشكل أعمي حتى تحولت مواقف هذه الدول ومنها من أصبح حيادي والآخر رافض لما تقوم به إسرائيل.
وبالتوازي مع هذا المسار كان الرئيس عبد الفتاح السيسي يتواصل مع قادة وزعماء العالم لشرح تفاصيل ما يجري في قطاع غزة، والعمل على تفنيد الرواية الإسرائيلية والتحذير من أي محاولات لفرض واقع جغرافي أو عسكري جديد داخل غزة يدفع الفلسطينيين للنزوح قسريا خارج أرضهم، والعمل على التصدي للمخطط الذي تعمل إسرائيل على تنفيذه حتى اللحظة إلا أن الجانب المصري يقف حائط صد أمام هذا المشروع الخبيث.
التحرك المصري الدبلوماسي الذي قادته وزارة الخارجية المصرية وجهود الوزير سامح شكري في التواصل مع كافة الأطراف الفاعلة، والضغط على أعضاء مجلس الأمن لاستصدار قرار يدعو لضرورة وقف كامل لإطلاق النار في غزة، وضرورة إدخال كافة المساعدات الإنسانية والغذائية والطبية، ونجحت الدبلوماسية المصرية في تشكيل جبهة عربية بقيادة مصر ومحور أوروبي داعم لرؤية القاهرة بأن السبيل الوحيد لحل هذا الصراع سيكون عبر الحل السلمي وتفعيل عملية السلام في الشرق الأوسط.
ومع الفشل الإسرائيلي في تحقيق أيا من أهداف العملية العسكرية داخل غزة لاسيما تحرير الأسرى الإسرائيليين، تحركت مصر في توقيت مهم للتوسط بين الجانبين لإبرام صفقة لتبادل الأسرى بالتنسيق مع الجانب الأمريكي والقطري، وذلك لتجنيب غزة من دفع فاتورة باهظة نتيجة القصف الإسرائيلي العنيف والعشوائي في كافة مدن القطاع، ورغم الانحياز الأمريكي إلى جانب الاحتلال الإسرائيلي إلا أن التواصل المصري الأمريكي المستمر والتحركات التي قادها الرئيس عبد الفتاح السيسي مع التحركات الشعبية الغاضبة والرافضة للاحتلال أعادت التوازن في المواقف الأمريكية والتي دفعت إدارة الرئيس جو بايدن لتكثيف الضغط على إسرائيل للالتزام بالهدنة الإنسانية والانخراط في صفقة تبادل الأسرى.
العملية العسكرية التي يقودها جيش الاحتلال والتي يرفض بنيامين نتنياهو إيقافها هي تحرك بهدف انتقام شخصي من رئيس وزراء حكومة الاحتلال ضد غزة وليس تحركا للإفراج عن الأسرى الإسرائيليين، وهذا ما اتضح جليا في القصف الإسرائيلي الذي استهدف أهداف مدنية ومناطق بشكل عشوائي، ما أدى لمقتل عدد من الأسرى الإسرائيليين الذين يزعم نتنياهو أنه يقود العملية العسكرية للإفراج عنهم.
السيناريو الحالي ومع نجاح اليوم الأول للهدنة الإنسانية بإنجاز المرحلة الأولى من صفقة التبادل ووصول المساعدات الإنسانية والغذائية والطبية وكذلك الوقود، يثبت بالدليل القاطع أن التحركات التي قادتها مصر كانت سببا رئيسيا في الوصول للهدنة الإنسانية وصفقة التبادل للأسرى والإشراف عليها بشكل كامل، وذلك لأن الدولة المصرية تتمتع بثقل استراتيجي كبير لما تتمتع به من خبرات متراكمة في ملف الوساطة والتهدئة وباعتبارها أحد أبرز الدول العربية انخراطا في الملف الفلسطيني.
فرحة عارمة تجتاح الشارع الفلسطيني في قطاع غزة بعد نجاح الوساطة المصرية لإقرار الهدنة والإنسانية التي يتمنى سكان غزة أن تتحول لوقف كامل لإطلاق النار، في ظل تأكيداتهم على قدرة القاهرة على فرض معادلة الهدوء الكامل خلال الفترة المقبلة، وهذا يمكن تحقيقه بإنجاز صفقات لتبادل الأٍسرى خلال الأيام المقبلة، ونقل رسائل هامة للجانبين الفلسطيني والإسرائيلي بأن الطرفان المتصارعان هما الخاسران سواء في الخسائر البشرية والمادية الكبيرة التي تكبدها الفلسطينيين في غزة أو الخسائر الاقتصادية الفادحة والضغوطات الغربية والدبلوماسية التي تتعرض لها إسرائيل.
جهد كبير وعمل متواصل بدون انقطاع خلال الأسابيع الماضية من مؤسسات الدولة المصرية ممثلة في مؤسسة الرئاسة والجهات السيادية ذات الاختصاص بالملف الفلسطيني وكذلك وزارة الخارجية، نجحت في فرض معادلة جديدة على الأرض وهي انخراط الأطراف المتصارعة في مفاوضات من أجل هدنة إنسانية وتفعيل التحركات المكثفة لإبرام صفقة تبادل للأسرى وهي المرة الثانية التي تنجح فيها مصر بعد صفقة الجندي جلعاد شاليط التي نجحت المخابرات المصرية في رعايتها خلال عام 2006، وها هي الجهود المصرية تنجح مجددا في التوسط للوصول لصفقة تبادل للأسرى بين الطرفين، وهي بداية حقيقية وخطوة ملموسة ستساهم بشكل كبير في خفض التصعيد تدريجيا والانخراط في التفاوض لحسم ملف الأسرى لدى الجانبين.
مصر ترفض أي محاولات أو مخططات إسرائيلية أو غربية لفرض واقع جغرافي وسياسي وعسكري جديد على الفلسطينيين، فضلا عن التحركات التي تقودها القاهرة منذ سنوات بضرورة توحيد صفوف الشعب الفلسطيني والاتفاق على رؤية وطنية موحدة للانخراط في مفاوضات مع الجانب الإسرائيلي ضمن الرؤية المصرية الثاقبة التي ترى أنه لا حل للصراع بين الفلسطينيين والإسرائيليين إلا بالمفاوضات، فضلا عن إمكانية تحقق السلام مع الجانب الإسرائيلي في المنطقة من دون حصول الفلسطينيين على حقوقهم التاريخية.
رسالة فخر واعتزاز وتقدير للجهود التي بذلتها مؤسسات الدولة المصرية العظيمة والتي أعادت الزخم إقليميا ودوليا للقضية الفلسطينية، وتأكيدها على ضرورة اللجوء للحل السلمي لنزع فتيل الأزمة، فضلا عن تحرك مؤسسات الدولة للتخفيف عن الفلسطينيين بتقديم المساعدات اللازمة لهم أو باستضافة الجرحى من النساء والأطفال والشباب لتلقي العلاج في المستشفيات المصرية، وهو ما يؤكد أن مصر الكبيرة هي الدرع الحامي والمدافع الأول عن حقوق الفلسطينيين التاريخية بإقامة دولتهم المستقلة على حدود 4 يونيو 1967 وعاصمتها القدس.
من المهم الإشارة إلى الدور المهم لقناة القاهرة الإخبارية التي باتت مصدر موثوق للأخبار، وتغطيتها المتوازنة والمهنية لتطورات الأحداث الإقليمية والعالمية، وأثبتت القناة خلال فترة قصيرة أنها جزء مهم في معادلة الإعلام الإقليمي، وهو ما يؤكد أن رؤية الشركة المتحدة للخدمات الإعلامية قد نجحت في تدشين قناة إخبارية مصر بمواصفات عالمية وقادرة على المنافسة بقوة خلال الفترة المقبلة.
هذا الخبر منقول من اليوم السابع