سعيد الشحات يكتب.. ذات يوم 21 نوفمبر 1967.. الموسيقار محمد عبدالوهاب يكتب عن أم كلثوم: «وسواسة أكثر منى وأعظم فنا مما يبدو وأكثر وأعمق إخلاصا مما يقال»

سعيد الشحات يكتب.. ذات يوم 21 نوفمبر 1967.. الموسيقار محمد عبدالوهاب يكتب عن أم كلثوم: «وسواسة أكثر منى وأعظم فنا مما يبدو وأكثر وأعمق إخلاصا مما يقال»
سعيد الشحات يكتب.. ذات يوم 21 نوفمبر 1967.. الموسيقار محمد عبدالوهاب يكتب عن أم كلثوم: «وسواسة أكثر منى وأعظم فنا مما يبدو وأكثر وأعمق إخلاصا مما يقال»

كان الموسيقار محمد عبدالوهاب يظن أنه فتى مصر الأول فى   التدقيق والحساسية، التى يصفها بعض الناس بالوسوسة، حتى وجد أم كلثوم أكثر وسوسة منه، فهى مستعدة لإعادة جملة خمسين مرة حتى ترتاح لها أذنها مائة فى المائة، حسبما يذكر فى مقاله «وسواسة أكثر منى» بمجلة الكواكب فى عددها الخاص عن أم كلثوم، 21 نوفمبر، مثل هذا اليوم، 1967.

 

أصدرت «الكواكب» عددها بعد أيام من حفلتى أم كلثوم فى باريس ضمن حفلاتها لصالح المجهود الحربى، عقب هزيمة 5 يونيو 1967، وذكرت «الكواكب» فى افتتاحيتها «أنها تقدم عددها الخاص كمحاولة متواضعة منها لتحية فنانتنا العظيمة، التى جعلت فنها فى خدمة الشعب».

ساهم عبدالوهاب بمقال مهم، خاصة أنه قامة عظمية متفردة، ورائدة فى  تاريخ الموسيقى العربية، وتأخر تعاونه مع أم كلثوم بسبب تنافسهما، رغم تزامن بدايتهما الفنية فى الربع الأول من القرن العشرين، ويعترف عبدالوهاب فى مقاله بأن صلته بأم كلثوم كانت صلة أفراد فى أسرة الطرب، قد تجمعهما الظروف أحيانا فى سهرة، وكان أكثر الذى يعرفه عنها «سماعى»، ويتناثر الحديث بين الحين والآخر حول أمنية اللقاء الفنى بينهما، ولا يتقدم إلى لتنفيذ خطوة واحدة، وظل الأمر حتى لقائهما فى أغنية «انت عمرى» عام 1964، ثم تكرر التعاون فى أغانى «انت الحب، أمل حياتى، فكرونى»، وامتد التعاون فى   أغنيات «هذه ليلتى، ودارت الأيام، ليلة حب».

 

يذكر عبدالوهاب أن لقاءاته مع أم كلثوم منحته فرصة ذهبية ليراها عن قرب، واقتنع بعدها بأنها أعمق إخلاصا مما يقال، وأكبر طاقة مما تظهر، وأعظم فنا مما يبدو، لأن بعض الناس خاصة الجيل الجديد يتصورون أن أم كلثوم رائدة الأغنية الكلاسيك، الأغنية ذات الوزن والحجم والرسم، الأغنية الطويلة التى   تناسب عشاق الطرب فى جيل غير هذا الجيل الجديد، ولكنهم لا يعرفون عنها أنها رائدة فى ميدان التجديد، وتسعى إلى كل جديد بغير تردد، ما دامت تخضعه للدراسة والتذوق الذكى، وحبها للتجديد هو الذى فتح الباب للجيل الجديد من كتاب الأغنية بعد أن ظن الناس أنها حكر على هذا المؤلف أو ذاك الشاعر، وحبها للتجديد أيضا هو الذى فتح الباب للجيل الجديد من الملحنين، بعد أن ظن الناس أن ألحانها تتوزع بين فلان من الملحنين أو علان.

يحدد عبدالوهاب جانبا آخر أدى إلى عظمة أم كلثوم، وهو التفوق الأسطورى فى اختيار الكلمة، واستساغة اللحن، ويفسره قائلا: «عشت معها قصة كل أغنية التقينا فيها، كانت تزن كل كلمة فى كل مقطع، فإذا تعثرت الكلمة على أذنيها فإنها تقف عندها وتقول إنها أحست بعدم الارتياح، وقد تضع هى الكلمة المناسبة، أو تقول المعنى فيجد المؤلف الكلمة، ولها قدرة عظيمة على تتبع المعنى الذى يتصاعد داخل الأغنية، فالأغنية عندها عمل درامى وقصة متكاملة».

 

يعتقد عبدالوهاب أن أى أغنية حديثة مرت على أم كلثوم تناولتها بتعديل كلمة أو معنى، ويؤكد: «إذا كان الأمر أمر قصيدة، فهى خبيرة الجواهر التى تختار الأبيات ببراعة منقطعة النظير، تختار عشرين بيتا من قصيدة فيها مائة بيت، ولو اجتمع عشرة من جهابذة اللغة العربية وأساتذة الموسيقى  ليختاروا عشرين بيتا، لما تجاوزوا أبيات أم كلثوم، هى قادرة على المزج بين قصيدتين للشاعر الواحد من نفس البحر والقافية دون أن يلحظ ذلك مستمع، فإذا جاء دور الملحن فأم كلثوم صاحبة أذن موسيقية من طراز فريد، وأذنها الموسيقية هى التى تعينها على الغناء المعجز الذى ينتظره الملايين بلهفة، فإذا سمعت لحنا فإن الذى تبديه من الملاحظات ملاحظات خبيرة سلطنت أكثر العمر فى صميم النغم، والملحنون يعرفون هذا ولهذا يشحذون عبقرياتهم ليخرجوا لها أحسن ما عندهم، والتنافس بين الملحنين هو الذى قفز بأسماء كثيرة إلى القمم الجديدة».

 

يضيف عبدالوهاب: «إذا غنت أم كلثوم فهى القادرة على التصرف دون سواها، وإذا تصرفت فالجمهور يحس أن الإبداع إبداعها، ويجن جنونا، وإذا أعادت فكأنها مقرئ قرآن رخيم الصوت يثبت المعانى   فى القلوب كأنها قدسية، وإذا سكتت وهى على المسرح، فإن بدنها يقول مع الأنغام، وتظل بالمنديل المحصور بين يديها شابكة كل الآذان بحنجرتها الماسية».

 

«هى قادرة على أن تستمر فى أداء البروفات عشر ساعات بغير انقطاع، لا أنسى أننا مرة أمضينا اثنتى عشرة ساعة هلك فيها الموسيقيون، وأدركنى همدان شديد، أما أم كلثوم فكانت تخجلنا بحيويتها ونشاطها، ويعرف الموسيقيون الذين يجلسون خلفها ماذا تريد، فيعيدون من النقطة التى تريد بلفتة عابرة من يدها، وفى   البروفات يحسون ماذا يطربها وكيف تعيده، ذلك لأنها وهى تغنى تطرب نفسها وتطرب لنفسها، ولعل هذا هو السر الأول فى بلوغها هذه القمة من الأداء الساحر.. إنها تتقمص الأغنية تقمصا».

 

 

هذا الخبر منقول من اليوم السابع