شهد عام 2022 استمرار تأثر اقتصاد الصين بتداعيات وباء كورونا بعد نحو ثلاثة أعوام على ظهوره لأول مرة من مدينة ووهان ليقلب بعدها العالم رأسا على عقب.
وفى الوقت الذى اتجهت فيه أغلب دول العالم إلى العودة للحياة الطبيعية بعد توزيع اللقاحات على نطاق واسع، ظلت الصين تتبنى سياسة صفر كوفيد المتشددة التي تفرض عزلا واسعا على ملايين من السكان لتجنب انتشار المرض، وهو ما أدى استمرار التراجع الاقتصادى فى ظل أسوأ أزمة اقتصادية يشهدها العالم منذ عقود، وتفاقمت أزمة العقارات التى تشهدها البلاد، فيما ارتفعت البطالة وعانت مبيعات التجزئة مع استمرار الإعلاق، وإن كانت التجارة الإلكترونية قد شهدت انتعاشا.
نمو هائل قبل كورونا
قبل أزمة كورونا، كان النمو الاقتصادى الصينى مبهرا. فبمتوسط معدل نمو سنوى يبلغ 6.7٪ منذ عام 2012، شهدت الصين واحدة من أسرع التوسعات المستدامة لاقتصاد رئيسى فى التاريخ. وفى عام 2021، بلغ ناتجها المحلى الإجمالى قرابة 18 تريليون دولار، ويشكل 18.4٪ من الاقتصاد العالمى، وفقًا للبنك الدولي.
وتضاعف إجمالي حجم اقتصادها تقريبا من عام 2013 إلى عام 2021، شهدت الصين عقدا من التقدم الملحوظ، واضطلعت بدور أكبر على الساحة الدولية. خلال هذه السنوات، زاد الناتج المحلي الإجمالي للصين بمعدل سنوي قدره 6.6% في المتوسط، وهو أعلى من معدل نمو الاقتصاد العالمي البالغ 6.2% ومعدل نمو الاقتصادات الناشئة البالغ 7.3% في نفس الفترة، وفقا لتقرير صادر عن الهيئة الوطنية الصينية للإحصاء. وفي عام 2021، بلغ متوسط نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي في الصين 80976 يوانا (كان الدولار الأمريكي يساوي 9.6 يوانات تقريبا حينذاك)، بزيادة بلغت نسبتها 7.69% عن عام 2012، مع أخذ التضخم في الاعتبار.
وتجاوزت مساهمة الصين في النمو الاقتصادي العالمي 30% في المتوسط خلال الفترة من عام 2013 إلى عام 2021، لتحتل المرتبة الأولى في العالم في هذا الصدد. وكان الشعب الصيني هو المستفيد الأكبر من التنمية. في عام 2021، بلغ متوسط نصيب الفرد من الدخل القابل للإنفاق 35128 يوان، بزيادة قدرها 18618 يوانا عن عام 2012، بمعدل نمو سنوي 6.6% بعد أخذ التضخم في الاعتبار، وهو أعلى بمقدار نصف نقطة مئوية من متوسط نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي. من عام 2013 إلى أواخر عام 2020، تخلص 99.98 مليون مواطن من سكان الريف الفقراء، من الفقر المدقع، حسبما ذكرت الهيئة الوطنية للإحصاء أيضا.
كما أن التقدم التكنولوجي السريع للصين جعلها، كما تقول شبكة "سى إن إن"، تهديدًا استراتيجيًا للولايات المتحدة وحلفائها. وحتى وقت قريب، كان بعض الاقتصاديين يتوقعون أن تصبح الصين أكبر اقتصاد في العالم بحلول عام 2030، مما يؤدي إلى الإطاحة بالولايات المتحدة. لكن الوضع اختلف مؤخرا.
تخفيض توقعات النمو
فقد خفّض صندوق النقد الدولي توقعاته لنمو الصين إلى 3.2٪ هذا العام، وهو ما يمثل تباطؤًا حادًا من 8.1٪ في عام 2021. وسيكون هذا ثاني أقل معدل نمو في البلاد منذ 46 عامًا، أفضل من عام 2020 عندما ضرب تفشي فيروس كورونا الاقتصاد.
مثلما كان الحال فى دول العالم أجمع، تأثرت الصين، ثانى أكبر اقتصاد فى العالم، بتداعيات عامين من وباء كورونا، وإن كانت السياسة التي اتبعتها حكومة بكين "بصفر كوفيد"، وما ترتب عليها من إغلاقات طويلة قد زادت من تأثر اقتصاد الصين.
وفى تقرير لها فى أكتوبر الماضى، قالت وكالة رويترز إن الاقتصاد الصينى، الذى يقدر الآن بـ 17 تريليون دولار، يعانى من سلسلة من الرياح المعاكسة، تتمثل فى قيود كورونا المستمرة لفترة طويلة، ومخاطر الركود العالمى، وتراجع قطاع العقارات.
وسجل الاقتصاد الصينى نموا بوتيرة أسرع من المتوقع فى الربع الثالث من العام، حيث أظهرت بيانات رسمية فى أكتوبر الماضى أن الناتج المحلى الإجمالى فى الصين قد نما على أساس سنوى 3.9% فى الفترة من يوليو إلى سبتمبر، متجاوزا توقعات بأن يقف عند 3.4%. فى حين أن الاقتصاد الصينى نما بنسبة 0.4% فقط فى الربع الثالث من العام الماضى.
وجاء هذا بعد أن سجل النمو الاقتصادى أداءً سيئا وتراجعا حادا فى الربع الثانى، بلغ 0,4 % فقط بسبب القيود الصحية وأزمة العقارات التي عرقلت النشاط بشدة، حسب أرقام رسمية. وفي الربع الأول من 2022، سجل إجمالي الناتج المحلي للصين نموا نسبته 4,8 بالمئة على أساس سنوي.
وكانت الصين نجحت العام الماضي في التعافي من صدمة الموجة الوبائية الأولى، وسجلت نموا نسبته 8,1%.
وفى حين أن أرقام النمو الأخيرة قد تبدو مرتفعة مقارنة بمعظم الاقتصادات الغربية، إلا أنها أقل بكثير من معدل التوسع الذي شهدته الصين منذ عقود، ولا تزال بعيدة بعض الشيء عن هدف 2022 البالغ 5.5٪ المحدد في مارس.
وأظهرت بيانات منفصلة أن الناتج الصناعي الصيني في سبتمبر ارتفع بنسبة 6.3% على أساس سنوي، متجاوزًا التوقعات عند 4.5%، لكن مبيعات التجزئة ظلت ضعيفة، حيث ارتفعت بنسبة 2.5%، والتي جاءت أسوأ من التوقعات التي كانت تشير إلى ارتفاع بنسبة 3.3%.
وذكرت تقارير أن انتشار كوفيد19 في العديد من المدن الصينية، من بينها مدن تعتبر مراكز إنتاج لصناعات هامة مثل شينزين تيانجين، مما أدى إلى أضرار بالغة لحقت بالنشاط الاقتصادي في أغلب القطاعات، كما تراجع الإنفاق على المأكولات، والمشروبات، ومنتجات التجزئة والسياحة، مما أدى إلى وضع الخدمات الرئيسية في مواجهة المزيد من الضغوط.
لكن على مستوى قطاع التصنيع، عاد نشاط المصانع إلى تحقيق تحسن في سبتمبر الماضي، وفقا لمكتب الإحصاء الوطني.
وقد يكون هذا الارتداد نتيجة للمزيد من الإنفاق الحكومي على البُنى التحتية في البلاد في الفترة الأخيرة. كما أن هذا التقدم هو الأول الذي يحرزه القطاع بعد شهرين من التوقف عن النمو، مما يثير تساؤلات عدة، خاصة منذ ظهور نتيجة استطلاع رأي خاص أشارت إلى أن نشاط المصانع الصينية تراجع في سبتمبر بسبب الأثر السلبي لتراجع الطلب على الناتج التصنيعي، والطلبات الجديدة، والتوظيف.
أعلنت الصين عن خطة بقيمة تريليون يوان (203 مليار دولار) في أغسطس الماضي لدعم الشركات الصغيرة، والبنية التحتية، والعقارات.
أزمة قطاع العقارات
شهد قطاع العقارات الصيني هذا العام أزمة غير مسبوقة منذ أواخر حقبة التسعينيات من القرن الماضي، إذ تكافح معظم شركات التطوير العقاري الصينية لإعادة تمويل سنداتها المحلية، وسط انخفاض بأسعار المساكن خلال الأشهر الـ11 الماضية.
وتعود هذه الأزمة إلى شركات التطوير العقاري التي جمعت مبالغ كبيرة من خلال البيع المسبق للشقق التي لم تُبن بعد، قبل أن يفشل بعضها في ضمان استكمال بناء هذه الوحدات.
ونشأت بسبب الصعوبات المالية التي واجهتها مجموعة إيفرجراند وغيرها من مطوري العقارات الصينيين، في أعقاب فرض قوانين صينية جديدة على حدود ديون هذه الشركات. وذلك بعد أن أقرضت البنوك والصناديق والمؤسسات المالية الأخرى في الصين مبالغ ضخمة لشركات التطوير العقاري الصينية، والأسر التي تتطلع إلى شراء شقق، والحكومات المحلية التي تهيئ البنية التحتية العامة.
وتقدر مساهمة قطاع العقارات والقطاعات المرتبطة به بما يصل إلى ربع إجمالي الناتج الداخلي الصيني.
وحسب بيانات بنك الشعب الصيني، تبلغ قيمة قروض الرهن العقاري في البلاد حتى نهاية مارس الماضي 39 تريليون يوان (5.73 تريليونات دولار). وبسبب وقف عملاء عن دفع أقساط الرهن العقاري، يتوقع أن تتعثر معاملات تبلغ قيمتها 1.7 تريليون دولار بحلول نهاية العام الجاري، وفق تقرير لمؤسسة ستاندرد آند بورز للتصنيف الائتماني.
ونظرا لأن الصين تعد ثاني أكبر قوة اقتصادية في العالم وترتبط بعلاقات مالية وتجارية عالمي، رأى محللون أنه في حال وصلت أزمة العقارات إلى المنظومة المالية الصينية، فستتجاوز الصدمة حدود الصين.
وجاء في مذكرة لوكالة "فيتش" للتصنيفات الائتمانية فى يوليو الماضى أنه: "إذا تصاعد التخلف عن السداد، قد تكون هناك تداعيات اقتصادية واجتماعية واسعة وخطيرة".
البطالة
كما ارتفعت نسبة البطالة في الصين في سبتمبر لتبلغ 5.5% فى نوفمبر مقابل 5.3% فى أكتوبر. إلا أن هذه النسبة لا تعكس سوى جزء من المشهد إذ إنها تقتصر على سكان المدن. وتقول "بى بى سى" إن هذه النسبة لا تأخذ في الاعتبار ملايين العمال المهاجرين، وخاصة الضعفاء في المناطق الريفية. وقد خسر عدد كبير منهم وظائفهم بعد الموجة الوبائية الأولى عام 2020.
نجاة من مأزق التضخم العالمى
وفى الوقت الذى عانى فيه العالم أجمع من ارتفاع حاد فى التضخم فى 2022 بسبب إغلاقات كورونا وأزمات سلاسل التوريد ناهيك عن حرب روسيا وأوكرانيا، إلا أن التضخم لم يكن من بين أزمات الاقتصاد الصينى. ففي أكتوبر الماضى، أظهرت البيانات أن أسعار المستهلكين أضافت 2.1% على أساس سنوي في أكتوبر، فى الوقت الذى وصلت فيه النسبة فى بعض دول أوروبا إلى أكثر من 13% بينما بلغت نحو 8% فى الولايات المتحدة.
وفى حين أن الصين لم تواجه تضخما حادا، لكنها تواجه مشكلات أخرى، فالبلد الذى يوصف بأنه مصنع العالم فوجئ في الفترة الأخيرة بعدم وجود ما يكفي من المستهلكين لشراء ما ينتجه على المستويين المحلي والدولي.
كما تلوح في الأفق بين المشكلات التي تواجه الاقتصاد الصيني تلك التوترات التجارية مع اقتصادات رئيسية أخرى مثل الولايات المتحدة، والتي تعيق تقدم الاقتصاد أيضا.
هذا الخبر منقول من اليوم السابع