سعيد الشحات يكتب..ذات يوم..5 مايو 1945طه حسين لوزير تركى: «انحدرت مصر وأفضت إلى انحطاط روحى وخلقى تحت حكم الأتراك العثمانيين»

سعيد الشحات يكتب..ذات يوم..5 مايو 1945طه حسين لوزير تركى: «انحدرت مصر وأفضت إلى انحطاط روحى وخلقى تحت حكم الأتراك العثمانيين»
سعيد الشحات يكتب..ذات يوم..5 مايو 1945طه حسين لوزير تركى: «انحدرت مصر وأفضت إلى انحطاط روحى وخلقى تحت حكم الأتراك العثمانيين»

انتقد عميد الأدب العربى الدكتور طه حسين، حكم الأتراك العثمانيين لمصر، فرد وزير تركى بالمفوضية التركية بالقاهرة، برسالة إليه يوم 5 مايو، مثل هذا اليوم، 1945، ليرد طه حسين عليه برسالة بالفرنسية، والرسالتان فى كتاب «طه حسين، الأوراق المجهولة، مخطوطات طه حسين بالفرنسية»، تحقيق وترجمة: عبدالرشيد محمودى.

 

قال «حسين» فى نقده: «إن مصر بقيت مستقلة، وأقامت مع العالم الخارجى صلات مزدهرة إلى أن أنهى الأتراك العثمانيون استقلالها فحصروها فى نطاق العزلة القاتلة، وهو ما يعنى يقينا باللغة العادية، أن مصر أُلقِى بها فى عزلة أفضت إلى انحطاط روحى وخلقى بسبب الغزو التركى الذى قضى على كل مظاهر الفكر ومسيرة التقدم المادى».

 

كتب الوزير التركى خطابا إلى «حسين»، اعتبر فيه أن ما قاله «قول أصبح شعارا منتشرا فى جميع البلدان التى كونت فيما مضى جماع الإمبراطورية العثمانية».. وأضاف: «العزلة القاتلة فى حالة البلدان الإسلامية التى تتحدثون عنها ينبغى ألا تعزى إلى القرن السادس عشر، فقد بلغت هذه العزلة أوجها بداية من القرن الثالث عشر عقب الحروب الصليبية، وغزوات المغول والاضطرابات الداخلية التى دمرت الشرق الأوسط، ووقع العالم العربى فى هذه العزلة القاتلة بسبب عوامل أخرى لا بسبب الأتراك العثمانيين، كما يحلو لسعادتكم أن تقولوا».

 

رد طه حسين، قائلا: «لتطمئن سعادتكم، فإننى عندما أدليت بتصريحى لم أرد التقليل من شأن أحد، أو أن أجامل أحدا، ولم يدفعنى إلى قول ما قلت إلا الحرص على الحقيقة التاريخية، وليس لدى ما يكفى من الكفاءة ما يؤهلنى لمناقشة وضع البلدان التى تذكرونها سعادتكم فى آسيا وأفريقيا وفى أوروبا، ولكنى أعلم أننى فيما يتعلق بمصر قلت الحقيقة الصادقة، فقبل الغزو العثمانى كان بلدنا يتمتع باستقلال تام سمح له بإقامة علاقات دبلوماسية واقتصادية، بل وعلمية مع أوروبا المتوسطية، وكانت حضارة بلدنا مزدهرة، وتولت القاهرة فى العالم الإسلامى دور الإسكندرية فى العالم الهلينيستى، وكانت جامعة الأزهر لدينا والمدارس التى أنشأها السلاطين المماليك فى كل مكان تقريبا تلعب دورا يشبه إلى حد كبير دور متحف البطالمة، والغريب فى الأمر أن نهضة علمية وأدبية وفنية فى مصر خلال القرن الثالث عشر والقرن الرابع عشر والقرن الخامس عشر كانت مرافقة للنهضة الأوروبية الأولى، ومن المحتمل تماما أن مصر كان يمكنها بدون الغزو العثمانى أن تشارك فى النهضة الأوروبية الثانية فى العصر الحديث.

 

وإذا طلبتم سعادتكم إلى تقديم أدلة على ذلك، أرجوكم أن تنظروا إلى آثار القاهرة لتلك الفترة، وأن تروا أن مصر فى تلك الفترة على وجه التحديد أعطت العالم الإسلامى مصنفاتها الأنسكليوبينية الرائعة، التى استطاعت بجمعها حصيلة المعرفة الإنسانية فى هذا الفرع أو ذاك من فروع الحياة الفكرية أن تصون تراث الحضارة العربية.

 

ويكفينى أن أذكر القلقشندى والنويرى والعمرى والمقريزى، لكى أثبت أن مصر فى ظل السلاطين المماليك صانت ونقلت إلى أجيال المسلمين خلاصة ما أنتجه العقل الإسلامى خلال سبعة أو ثمانية قرون من التاريخ، يضاف إلى ذلك أن هناك ظاهرة ثابتة فى تاريخ مصر، وهى أن من المستحيل بالنسبة لها أن تنتج شيئا مهما فى حياة العقل إذا لم تتمتع باستقلال فعلى بدرجة أو بأخرى، وهى عندما تخضع لسيطرة أجنبية تصاب بالإنهاك فى كفاحها من أجل الحرية، وهو كفاح يستنفد طاقتها بصفة تامة تقريبا، فهى فى ظل السيطرة الفارسية وفى ظل السيطرة الرومانية لم تعط أى شىء تقريبا، أما عصر البطالمة فكان فترة من الخصوبة المثيرة للدهشة، فمصر تحت حكم البطالمة كانت حرة، كان لديها ملوكها وعاصمتها وجيوشها البرية والبحرية، وهناك نفس الظاهرة فى العصر الإسلامى، ففى ظل خلافة المدينة ودمشق وبغداد كانت الحياة الفكرية المصرية متدنية تقريبا، ولكنها ما إن استعادت قدرا من استقلالها مع مجىء الطولونيين والإخشيديين حتى بدأت تصبح عاملا أساسيا فى حياة العقل الإسلامى، وأخذت مصر مع وصول الفاطميين والأيوبيين والماليك تستعيد استقلالها الكامل وتبسط سيطرتها خارج حدودها، وأصبحت القاهرة على الفور منافسا شديد الخطر لبغداد فى الشرق وقرطبة فى الغرب، وعندما وقعت بغداد تحت ضربات المغول، وقرطبة تحت ضربات مسيحيى إسبانيا بقيت القاهرة وحدها هى العاصمة الفكرية للعالم الإسلامى.

 

ثم يصل الأتراك العثمانيون فتنحدر مصر إلى مرتبة إقليم فى الإمبراطورية التركية، كما كانت إقليما فى الإمبراطورية البيزنطية والإمبراطورية الرومانية، وترتد إلى حالة التدنى، ومع مجىء القرن التاسع عشر تستعيد مصر شيئا فشيئا استقلالها وتسترجع فى نفس الوقت شيئا فشيئا حياة عقلية نشطة.. وهكذا ترون سعادتكم أننى عندما أدليت بتصريحى لم أفعل شيئا سوى أننى لاحظت ظاهرة ثابتة فى تاريخ أمتنا ولا شىء غير ذلك.


 

 

هذا الخبر منقول من اليوم السابع