الطاهر وطّار اسم لامع في سماء الأدب الجزائري بلا شك، وربما أطلق عليه البعض تسمية (رائد الرواية الجزائريّة ) وقد تكون هذه التّسمية صحيحة إلى أبعد الحدود، لكنّ هذا الأمر ليس محلّ نقاش في هذه اللمحات السريعة..وإنما الذي سأتناوله هنا هو أمر جوهري يتعلّق بشخصيّة الطاهر وطار نفسه وما طرأ عليها من تحوّل فكري كبير..
عندما كتبت الحلقة الماضية حول الكتب الحمراء تناولت بشكل سريع الطاهر وطار، وأشرت إلى هذا التحوّل، فعلّق الأستاذ العربي مودّع – وهو أستاذ الأدب العربي وأحد المثقفين البارزين الذين نفتخر بهم في بلدية شتمة – على ما قلته واستغرب هذا التحوّل، وطلب منّي توضيحا أكثر حول هذه القضيّة..
وكنت خططت من قبل أن أخصص حلقة من هذه الحلقات ( من أحلى الكلام ) للأديب الروائي الطاهر وطار أو بالأحرى لبعض كتبه التي قرأتها، ولكن بعد حلقات أخرى عديدة هي في مفكرتي رؤوس أقلام لما تنجز بعد، وعندما أثير الموضوع وعلّق عليه أيضا الأستاذ أحمد العلوي وهو من كتاب القصّة المعروفين، وأحد مثقفي بسكرة الذين يشار إليهم بالبنان، رأيت أنّ أعجل بكتابة هذه الحلقة وربما تكون اثنتين أو ثلاث حسبما يفتح به الله..
وطار اليساري ( القحّ ) ..
الطاهر وطار في رواياته الأولى يساريّ قحّ، ناقم على المِلكيّة الخاصّة ثائر على الدّين والعادات والتقاليد ( البالية وفقا لفهمه )، ويتجلّى ذلك أكثر ما يتجلّى في روايتي الزلزال واللاّز، وقد قرأت كلتا الروايتين بنظرة الناقد المتفحّص وكان في ذهني صورة قاتمة عن الطاهر وطّار، وكنت أعرف خلفيته الفكريّة، بل أكثر من ذلك كنت أنظر إلى الطاهر وطار على أنّه كاتب تافه، لا يستحق حتى مجرّد القراءة، وإنما قرأت له لأعرف حقيقته أكثر وأتكلّم عنه إذا ما تطلّب الأمر عن بيّنة ومعرفة واضحة..
وحقيقة قرأت الرواية الأولى الزلزال بقرف شديد وكانت عندنا في مكتبة البلديّة وازداد كرهي للطاهر وطار ولكلّ ما يكتبه، ورأيت كيف يجعل من رمز التدّين رجلا برجوازيّا يخاف على ممتلكاته وأراضيه من التأميم فيسعى إلى كتابتها بأسماء أقاربه الذين نسيهم منذ أمد بعيد، حتى يتفادى مصادرتها منه( بعد مشروع الثورة الزراعيّة الذي أعلنه هواري بومدين ) .. وكانت شخصيّة بولرواح النموذج السّيئ للرجل المتديّن الذي يقف في وجه القرارات التقدميّة الجريئة التي اتخذها بومدين..
ثمّ قرأت بعد ذلك رمّانة – ويا للأسف – والذي يدخل ماخورا - أكرمكم الله - لا يبعد كثيرا عن الذي يقرأ ( رمانة )، وقرأت أيضا اللاّز وازداد سخطي وحنقي على وطار لما رأيته يعطي الريّادة في تفجير الثورة التحريريّة للحركة الشيوعيّة – ويجعل من البطل اللاّز اللّقيط قائدا مثاليّا لا يشقّ له غبار..إنّه منتهى السخف والإسفاف..
لكن مع ذلك اكتشفت فنّ السّرد الأدبي المتميّز عند وطار، ولما قرأت شيئا عن حياته وعرفت خلفيته الأولى أثناء نشأته (باديسيّ – زيتوني)، أسفت على أن انسلخ من جلده وارتمى في أحضان فكر مادّي مفلس.. ثمّ جاء الاكتشاف لشخصيّة وطار الجديدة..
تحوّل وطار..
وجاءت فترة التسعينيّات وكنت أتتبع خلالها نشاطات الطاهر وطار في الجاحظيّة، وبهرتني انجازات الجاحظيّة التي كانت في نشاطها تتفوّق على وزارة الثقافة، ولمست نوعا من التغيّر الخفيّ في شخصيّة الطاهر وطار – رغم إصراره على تبنّي الفكر الاشتراكي الذي لم يعد يظهر في كتاباته بشكل سافر – وبدأ الطاهر وطار يميل إلى تجسيد الفكر الصوفي في رواياته، أو هو يمزج بين الصوفيّة والشعريّة التي صارت نَفَس الرواية السّردي الجديد..
وخرج علينا الطاهر وطار بروايته ( الشمعة والدهاليز )، وظهر فيها نوع من الاعتدال والرؤية الوسطيّة للأحداث والواقع الجزائريّ، ثمّ ظهرت رواياته الأخرى ( الولي الطاهر يعود إلى مقامه الزكيّ ) ، (والولي الطاهر يرفع يديه بالدّعاء ) وكذلك ( قصيد في التذلّل )، وكلّها تعبّر بشكل جليّ عن تغيّر واضح في فكر الطاهر وطار، وأنّه انحاز إلى الفكر العروبي الإسلامي..وكان كلّ ذلك مجرّد استنتاج منّي، أكّدته بعد ذلك عدّة مؤشرات أخرى غير نصوصه الروائيّة التي تبقى خاضعة لقراءات مختلفة أذكر منها:
1 – تسميته لجمعيته بالجاحظيّة وهذا انتماء صريح للعربيّة، ممثلة في أحد روادها الأفذاذ الجاحظ..
2 – في كثير من حواراته مع الصحف والجرائد كان يظهر اعتزازه بالحرف العربي وانتمائه الإسلامي، وينتقد في عنف دعاة الفرنسة أو ما اصطلح على تسميتهم فيما بعد – سياسيّا – بالاستئصاليين.
3 – في جلسة خاصّة مع الشاعر عبد الكريم قذيفة، وكان مخرجا بإذاعة بسكرة الجهويّة حيث كنت أعمل متعاونا، سألته عن هذا التحوّل الذي لمسته في فكر الطاهر وطاّر لاسيما من خلال رواياته الجديدة، وكان الشاعر عبد الكريم قذيفة عضوا في المكتب الوطني للجاحظيّة، فأكّد لي هذا التحوّل وأكثر من ذلك أخبرني أنّ أحد أعضاء المكتب الوطني إمام من أدرار توفي – رحمه الله – بتفجير وقع في العاصمة.
4 – جائزة مفدي زكرياء المغاربيّة التي أنشأها الطاهر وطار، تنبي عن تحوّله الفكري بشكل واضح، إذ يخلّد الشاعر الإسلامي الصرف شاعر الثورة التحريريّة مفدي زكرياء رحمه الله.
5 - علاقته الحسنة بالإسلاميين وعلى رأسهم أحد أكبر شعراء وأدباء الحركة الإسلاميّة، الكاتب الشهير عبد الله عيسى لحيلح، الذي كانت تربطه بوطّار علاقة حميميّة وطيدة..
6 – كثير من الكتّاب والنقاد لاحظوا هذا التحوّل، أذكر منهم مثلا:
-ما قاله عبد القادر أنيس في موقع الحوار المتمدّن، بحيث يعاتب ويلوم الطاهر وطار على هذا التحوّل الذي هو في صالح الانتماء الإسلامي:
البقية العدد القادم
-------------------------------------------------------------------------------------------
الحلقة (٢)
" ما دفعني لكتابة هذه المقالة هو ما لمسته عند الكثير ممن كتب عنه في الحوار المتمدن، بمناسبة رحيله، من تغييب لوجه آخر للطاهر وطار كمثقف وكروائي خلال العشرين سنة الأخيرة من حياته على الأقل.
للطاهر وطار، إذن، وجه آخر يختلف كثيرا، حد التناقض، عن الوجه الأول الذي عرفناه له من خلال مواقفه ورواياته ومجموعاته القصصية الأولى (اللاز، الزلزال، العشق والموت في الزمن الحراشي (اللاز الثانية)، عرس بغل، الشهداء يعودون هذا الأسبوع، الحوات والقصر، ...).
في أعماله الأخيرة: تجربة في العشق، الشمعة والدهاليز، الولي الصالح يعود إلى مقامه، ... وفي تدخلاته عبر وسائل الإعلام راح وطار، شيئا فشيئا، يتخلص من تركته اليسارية، حتى بلغ به الأمر حد التعبير عن الندم..."
ثمّ يتساءل قائلا:
" فماذا حدث حتى يُحدِث وطار كل هذا الانقلاب في توجهاته وقناعاته وتحالفاته ؟ " ويجيب قائلا:
" هذا ما نلمسه من خلال قراءتنا لروايته "الشمعة والدهاليز" المعبرة حقا عن الوجه الآخر لوطار والتي هي خطاب سياسي تبريري تمجيدي في صالح الحركة الإسلامية. ولقد لمست في معظم ما كتب حول الطاهر وطار في الحوار المتمدن تغييبا متعمدا أو عن حسن نية لهذا الوجه.."
وفي حوار بجريدة الشروق يطرح هذا السؤال عن قضيّة التحوّل عند الطاهر وطار:
" سؤال آخر رفعناه إلى الطاهر وطار مفاده أن كلاما تردد حول وطار كونه بعد الثمانينيات كسب الإسلاميين وخسر الشيوعيين . الإجابة من جهته لم تكن بالنفي ولا بالإيجاب لكنه أكد بقوله " بعض الشيوعيين فقط" وأردف قائلا " لما التقيت في باريس بالصادق هجرس الأمين العام لحزب الطليعة الاشتراكية طرحت عليه رأيي بخصوص الموضوع ووافقني ، وكان له نفس الرأي .. وطرحت الفكرة نفسها على الأمين العام للحزب الاشتراكي الأردني ووافقني هو الآخر .. لا يمكن في نظري تجاهل طرف آخر لمجرد أنه يحمل وجهة نظر تختلف عن وجهة نظرنا ".
7 – في حوار أجراه أحمد حرز الله مع الطاهر وطار سأله عن موضوع التحوّل هذا فأجابه بكلّ تلقائيّة تظهر هذا التحوّل:
" جاءت الأزمة الجزائرية أي سنوات 90 فكتبت روايات قال عنها بعض النقاد أنها تحوّل جذري من الطاهر وطار الشيوعي إلى طاهر وطار الإسلامي، ومنها رواية الولي الطاهر يرفع يديه بالدعاء وروايات سابقة، ما تعليقك عن هذا الموضوع؟ هل تحولت من روائي شيوعي إلى روائي إسلامي؟
الطاهر وطّار:
أنا أفضل آراء النقاد ولا أفضل آراء زملائي الروائيين هي ثلاثة روايات "الشمعة والدهليز"، "الولي الطاهر يعود إلى مقامه الزكي" و"الولي الطاهر يرفع يديه بالدعاء" هذه ثلاث أعمال وهي قصيرة تعالج الظاهرة الإسلامية، الشمعة والدهليز قال الإسلام هو الحل، وطرح يعني قضية أي إسلام، أي حركة أي اتجاه ثم التصادم بين الشاعر وبين القيادات الإسلامية، في الولي الطاهر يعود إلى مقامه الزكي أطرح قضية جماعة الهجرة والتكفير، قال نهاجر المدن نهاجر هذه الأساليب نهاجر كذا نعود إلى ما كان عليه الأولون، فلا يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلُح به أو لها الخ..
وفي الولي الطاهر يرفع يديه بالدعاء هناك إقرار بالهزيمة وهذا ما حصل لكثير من المناطق من هزيمة الحركات الإسلامية المسلحة، ودعوة قال اللهم أصلح هذه الأمة بما تراه، فكان يعني ضياع بترول وأنفاق البترول من الآبار وتحوله إلى ماء زلال يدعو الناس إلى العمل إلى نزع اللباس الأبيض هذا وارتداء اللباس الأزرق لباس العمل، والتشمير على الزنود والعمل في الأرض والبداية من جديد إلى آخره، ليس هناك يعني لا مهاجمة أو شتم للإسلام والإسلاميين، ولا أيضاً لا أقول تمجيد ولكن تبشير، هناك يعني نظرة ورؤية موضوعية تقول ما لهؤلاء الناس وما عليهم بحيادية وبموضوعية تامة، والناس هنا انساقوا للقذف وللشتائم وللرفض الأعمى لكل رأي مخالف "
ومن هنا يمكن أن نؤكد بشكل واضح أنّ الطاهر وطار عاش تحوّلا كبيرا في مرحلة حياته الثانية، التي بدأت بالتحوّلات الكبرى في العالم بسقوط المعسكر الشرقي وتبعها التحوّل الكبير في الجزائر، لكنّ هذا التحوّل لم تتضح ملامحه بشكل جلي للناظر من بعيد، وربما لأنّ الطاهر وطار نفسه لم يعلن عنه بشكل صريح..