حسنى حنا يكتب: الأهمية العلمية للحملة الفرنسية على مصر

"حملت الحملة الفرنسية على مصر، علماء ومهندسين فرنسيين الى النيل وبدوره حمل عمل هؤلاء روائع النيل إلى أوروبا

C.Gilespie                                     

في الأول من شهر يوليو تموز من عام ( 1798 م ) ظهر قبالة شاطئ الإسكندرية من بعيد، أسطول مكون من ( 400) سفينة نزل منها الى الشاطيء، مع غروب شمس ذلك اليوم، جيش مكون من ( 36,000 ) جندي، تحت أمره نابليون بونا بارت Napolion Bonapart

ولما لم يلق هذا اية مقاومة..سارع الى تسيير جنوده، كي يلحقوا الهزيمة بحكام مصر القساة من المماليك، في معركة الاهرام ( 21 ) من الشهر نفسه وبعد 10 أيام دمر الأميرال البريطاني نيلسون Nelson الأسطول الفرنسي ، الذي كان راسيا في مرفأ ( أبي قير) تاركا قوة الحملة معزولة في الأرض، التي ستدير شؤونها، و تستكشفها طوال السنوات الثلاث التالية

ولكن بعد عام ترك نابليون جنوده في مصر، وتسلل عبر الحصار البريطاني في البحر، عائدا إلى فرنسا، حيث تسلم زمام السلطة في انقلاب التاسع من شهر أكتوبر/ تشرين الأول من عام ( 1799 ) ..وقد كان بين القليل من مرؤوسيه، الذين عادة بهم معه، العالمان مونج وبرتوليه، العضوان البارزين في أول بعثة علمية ترافق حملة عسكرية

‏أما زملاؤهمامن لجنة العلوم والفنون، الذين تركاهم وراءهما مع الجيش..فكانوا مجموعة من ( 151 ) عالما ومهندسا وعاملا، في مجال الطب وانواع البحث العلمي. واكثر من ( 2000 ) متخصص من خيرة الفنانين والرسامين والتقنيين٠ وقد اختيرت النخبة من هؤلاء لتكوين ( المجمع العلمي المصري) الذي تأسس بمبادرة من بونابرت، لكي يكون نسخة معدلة من ( المجمع العلمي الفرنسي ).

كتاب وصف مصر

أنجزت لجنة الخبراء التقنيين، التي أتت مع الحملة الفرنسية في أرض الفراعنة أشياء كثيرة، ذات اهمية علمية...وقد جمعتها كلها في سفر ضخم خالد، سجل أعمالهم في المسح الأثري والجغرافي وأبحاثهم في الظواهر الفيزيائية والكيميائية..وكذلك في التاريخ التاريخ الطبيعي الخاص بالمنطقة.إضافة إلى تحقيقاتهم في الشؤون الاجتماعية لهذا البلد الغريب

هذا السفر الذي طبع بين عامي ( 1809 - 1829 م ) تحت اسم وصف مصر Description de l'Egypte مازال يعتبر الي اليوم اكبر وأشمل موسوعة للاراضي والآثار المصرية.

يقع هذا الكتاب في ( 20 ) جزءا.وقد تميز بصور ولوحات كثيرة شديدة الدقة والتفاصيل. ومن تلك الأجزاء ( 11 ) مجلدا من الصور واللوحات ( 9 ) مجلدات من النصوص.وقد كان عمل اولئك العلماء والباحثين عملا مجهدا وعظيما، غطى جميع أرض مصر من شمالها إلى جنوبها.

 وقد تطلب تغليف هذا الكتاب، تصميم قطعة أثاث خاصة ‏من خشب ( الماهوجي Mahogany ) تتضمن  10 من أجزائه، وهي من القطع الكبير، لوحات مصورة، قياس كل منها ( 20- 26 )بوصة. وهناك أطلسان  قياس كل منهما (  2 - 26 ) بوصة يشتملان على ( 837 ) لوحة حفر على النحاس منها ( 50 ) لوحة ملونة. والعديد منها يحتوي على الكثير من الرسوم التوضيحية.

وهناك إلى جانب هذه الاجزاء تسعة اخرى للنصوص . تصغرإلى جانبها اية موسوعة حديثة. وهي تتضمن على وجه التقريب ( 7000 ) صفحة للمذكرات و الوصف والتعليق. وقد قسم السفر كله إلى ثلاثة أقسام هي (مصر القديمة) و (مصر الحديثة) و (التاريخ الطبيعي).

وتكون اللوحات الآثارية للقسم الأول، أكثر من نصف مجموعة ثروة الكتاب من الرسوم التوضيحية. وإليها يرجع الفضل في تكوين الرؤية الحديثة الأولى، لعصور مصر القديمة اذ ان الاوربيون قدروا حجم وادي النيل، من تأملهم للشمول والتفصيل من هذه النقوش المهولة الرائعة. في حين كانت أول معرفة للقرب بأرض الفراعنة، تقوم بالدرجة الأولى، على ما يروى من أقاويل عن حجم الأهرام واتجاهها، ولغز أبي الهول. ولم يكونوا يعرفون عن مصر العليا أي شيء، أكثر من حكاية غريبة لسائح!...

لكن رواية الفنان ( دينون ) الذي رافق الجنود في حملتهم على اعالي النيل.تحمل إلينا تأثير الدوران، حول احد منعطفات النهر، والوصول منه الى معبد الكرنك والأقصر، بين أطلال طيبة:

"وقف الجيش باسره فجأة ومن تلقاء نفسه، في حالة ذهول وأخذوا يصفقون بهجة وسرور"!...

لقد دون المساهمون في وضع كتاب ( وصف مصر ) على الورق جميع الأوابد بدءا من جزيرة فيله في الجنوب...كانوا يرسمون ويقيسون، وينقبون على  طول الطريق، سائرين مع مجرى النهر. مرة من ضفته اليمنى، ومرة من ضفته اليسرى. فمروا من ( كوم امبو) و ( إدفو) الواقعتين على ضفتي النهر اليمنى واليسرى على التوالي .( اسنا ) القديمة التي تنحرف انحرافا طفيفا، إلى الغرب من النهر، ثم توقف جمعهم طويلا عند مجموعة الاوابد الكثيرة في ( طيبة ) مأخوذين بمدينة ( هابو) ومعبد رمسيس الثالث Ramasseum

وتمثالي ممنون الضخمين الذين تقع خلفيهما أضرحة ( وادي الملوك ) وتلوح في مواجهتهما عبر النيل، أعمدة الأقصر والكرنك الهائلة.

وفي سيرهم مع مجرى النهر، اطلوا فجأة على اروع الأعمال المعمارية والفنية في دندرة.وبعد ان سجل الفريق صور هذه التحف الرائعة، استأنف سيره نحو الشمال..إلى ممفيس واهرامات الجيزة.

كان كل موقع من هذه المواقع يرسم على ثماني لوحات أو عشر لوحات متتابعة تبدأ بطبوغرافية المكان تليها صورة شاملة للبناء بالوضع الذي كان فيه حينذاك. ثم تأتي بعد ذلك الرسوم المعمارية والنقوش والسطوح المغطاه بالكتابة. ثم يطلقون لأنفسهم العنان ليعيدوا على اللوحة الاخيرة - وبعين الخيال -  صورة البناء بأكمله كما كان في الماضي.

اهتمامات اخرى

اهتم العلماء الذين وضعوا كتاب ( وصف مصر ) بعلم الحيوان، وعلم النبات وعلم التعدين الذي كان مثيرا للإهتمام، فهناك ( 15) لوحة على اكثر من ( 100 ) رسم توضيح صخور مصر، إضافة إلى دراسة شاملة عن جغرافية مصر.وكان مؤلف القسم ( دو روزيير) مهندس مناجم.وكان علم التعدين حتى ذلك الحين أخذا في التميز عن التاريخ الطبيعي، والدخول في فرع الجيولوجيا الصاعد وقد صمم روزيير لوحاته بوضوح لتكون مثالا عن اهمية فنون الرسم في العلم الجديد. وكان مازال على الجيولوجيين أن يطوروا لغة يمكنها أن تساعد على تعريف المعادن باسماء تخصها، لذلك كان وصف الصخور في الكتابات الجيولوجية بلا معنى، مالم يكن مرفقا بعينات من هذه الصخور، الا أن الرسم التوضيحي المناسب كان بإمكانه أن يغطي هذا العجز.

وكان العالم روزيير يهدف، إلى أظهار الكيفية التي تستمد بها الثقافة من الظروف المادية، لا من تدبير إلهي او عوامل اخرى.

أوضاع مصر في نهاية القرن 18

يستوفي مؤلف ( وصف مصر ) إلى حد كبير الحديث عن تعداد السكان و العوائل، وأوضاعهم وأشغالهم، وطرق الزراعة عندهم، وتعداد الخيول والجمال، وكيف تتم العناية بالحيوان، وانماط التجارة والصناعة.ومواضع المقالع والواحات والقنوات، ووسائل النقل والاتصال إضافة إلى الأصول العرقية و طبيعة الناس الدينية ‏المستقرين منهم والرحل على السواء.

وقد اهتمت الحملة على مصر بالامور الطبية، التي كانت في أوضاع مأساويه وقد اهتم أطباء الحملة بوصف الامراض التي كانت منتشرة في ذلك الحين من خلال المعاينة السريرية.

 و كتب علماء الحملة الفرنسية على مصر في العلوم الاجتماعية والإنسانية، فهي تتضمن معلومات في الأنتروبولوجيا (علم الإنسان ) وفي علم السكان والأحوال، والعلوم السياسية وعلم الاجتماع، والسياسة الجغرافية، وتاريخ العصور الوسطى والتكاليف الإدارية والاقتصادية المحلية Micro-Economics

 لقد كان لإسهام العلم في البعثة معنى آخر، يتجاوز مجرد تجميع المعلومات الهائلة عن مصر. انه العلاقة التي أقامها بين المعرفه الصوريه Formal والسياسية.  إذا كان لاحتلال مصر جانب حضاري مختلف عن النزعه الاستعمارية التي سبقته.

 وهكذا كانت الكفاءة التقنية دعامة قوية للثقافة والحضاره ولم يدرك نابليون هذه الحقيقة بطريقة المجردة بل بالحدث المباشر نفسه الذي أدرك به أي شيء يرتبط بممارسة السلطة فانبثق منه الحافز الذي مكن من غرس مجموعة من نباتات العلم الفرنسي على ضفاف النيل وهذا ما لم تحاول دول عديدة أخرى،. لا بريطانيا  في الهند، ولا هولندا في إندونيسيا، ولا الأسبان والبرتغاليون في امريكا!...

تأثير الحملة الفرنسية

لقد كان تأثير الحملة الفرنسية على مصر كبيرا جدا فقد كانت هذه الحملة أول اتصال حضاري، بين الغرب والشرق الاوسط منذ زمن حروب الفرنج. وبعد العزلة التي فرضها عرب الفتح والمماليك والعثمانيون، على منطقة الشرق الاوسط. والتقوقع والآنغلاق الفكري، الذي كان سائدا في ذلك الحين تحت شعار ( الجمود على الموجود )!..

ويبقى من أهم الآثار التي تركتها الحملة الفرنسية على مصر، هي انها انهت حكم المماليك الفاسد، ومهدت لمجيئ أسرة محمد علي، وقيام حركة النهضة العربية وفكر التنوير العربي، في منتصف القرن التاسع عشر، كما أنها إيقظت الشعور الوطني لدى المصريين. وقد أوجدت الحملة فكرة حفر ( قناة السويس ) للوصل بين البحرين المتوسط والأحمر وفك رموز ( حجر رشيد ) من قبل العالم الفرنسي شامبليون، وإكتشاف اللغة المصرية القديمة، الذي ساعد على كشف أكثر من ثلاثة ألاف عام من الحضارة في مصر قبل الميلاد وكذلك عملت الحملة على إنجاز أول خريطة دقيقة لمصر والكثير غيرها !..

إن كتاب ( وصف مصر ) وعلى الرغم من أهميته العلمية والتاريخية والحضارية. وبعد مرور أكثر من قرنين على وضعه الا انه لم يترجم إلى اللغة العربية حتى الان. علما انه افضل سفر تم تأليفه عن مصر منذ أقدم العصور حتى كتابته هذه السطور!..