أَعْقد جلسات بين الحين والآخر مع أبنائي، يكون الهدف منها هو الحديث في قضية عامة ممكن ان تشغلهم، أو للمناقشة في فكرة تلح على ذهن أحدهم، خاصة الأكبر فيهم، الذي يواجه العديد من الأسئلة، على مستوى الوطن، وعلى مستوى الدين، وعلى مستوى التاريخ، أسئلة لقضايا هامة، يواجَه بها في المجتمع النمساوي المتعدد الثقافات، والمتنوع المشارب، والمنفتح لدرجة هائلة، والمطروح فيه كافة القضايا للبحث والفحص والتأمل.
وأول ما حاولت أن أغرسه في أبنائي هو عدم إغلاق العقل على فكرة واحدة، أو اقتناع لا يصمد بالبحث والفحص ولا المناقشة، ودائما أطلب منهم أن يفكروا في أي أمر من زواياه المختلفة، وألا يجتزؤوا حدثا من سياقه أو فكره من موضوعها الكلي، وألا يستبعدوا الظرف التاريخي لأي من الأحداث التي يحاول البعض تعميمها للوصول إلى نتائج معدة سلفا تخدم قضية ما له.
إن ما أسعى سعيا دؤوبا لغرسه فيهم هو الثقة الهائلة والاعتزاز الكبير بجذورهم الممتدة في أعماق التاريخ، والمتنوعة المشارب، وألا يختزلوا هذا الانتماء – كما يحلو للبعض – في العقيدة الدينية التي أغرس فيهم قيمَها ومبادئها وعظمتها قدر المستطاع، ولا في تصور وطني محدود لفترة زمنية معينة، بل عشقا لهذا الوطن واعتزازا بكل تاريخه، وتقديرا لكل الحضارات التي دخلت مصر ولم تخرج بل ذابت مشاركة في صنع الحضارة المصرية الأعرق في تاريخ البشرية.
بماذا تسهمون في الحضارة الإنسانية؟ سؤال يواجه به العربي والمصري على وجه الخصوص باعتباره القاطرة التي تقود العالم العربي، في إشارة واضحة جلية أنه عالة على تلك الحضارة الحديثة، مستهلك لها مستخدم جانبها التكنولوجي دونما أن يكون له أي دور في التصنيع فضلا عن الابتكار والاختراع، وهو سؤال يقف أمامه العربي والمصري عاجزا عن تقديم إجابة مقنعة على محاوره المتعددة، حيث أن المحور الأول وهو أنه بالفعل لم يسهم في هذا التطور الحضاري بأي سهم، ولا يجد من الإفلات بالإجابة بالنفي مناصا، ليدهمه السؤال التالي: لماذا لم يكن لديك القدرة على التفاعل ولو بسهم بسيط في هذا التطور التكنولوجي؟ ليجد نفسه عاجزا عن تقديم أي مبرر، فيلجأ إلى اصطناع أسباب، لا تقدر بالمجادلة على الصمود أمام الحجج الدامغة، ليجد نفسه في النهاية محاطا بهزيمة نفسية أكثر منها مادية، وأظن أن هذه الهزيمة هي الهدف من السؤال الذي يتم طرحه بخبث شديد. ذلك الهدف هو غرس روح الهزيمة في نفس العربي، هذه الهزيمة التي تجعله يضع ذاته دون الشعوب المتحضرة الفاعلة التي تقدم للبشرية أسلوب الحياة العصرية، تلك الهزيمة التي تصيب العربي والمصري في روحه فتحيله مجرد مفعول به، حيث تجرده من القدرة على الفعل والإبداع، أو هكذا يظن مَن يطرح هذا السؤال. لا يقل العربي ولا المصري عن أي ممن ينتمون إلى أعراق قدمت للبشرية الكثير في عصرها الحديث، ولا ينقص هذا العربي شيء خلقي لكي يقدم نفسه فاعلا ومؤثرا ومساهما في الحضارة الإنسانية، ولقد استطاع هذا العرق أن يقدم للبشرية إسهامات حضارية ابتداء من أسلوب حياة مرورا بقيم وتقاليد انتقالا إلى أدوات استخدمتها البشرية، انتهاء بعلوم لم تكن للحضارة الحديثة أن تنهض دونها.
إن هذا الذي أذكره في حاجة إلى تدليل، ليس فقط لإثباته، بل لإزالة ذلك الشك الذي يتسرب إلى كل مفاصل أبنائي وقارئنا العزيز الذي تسللت الهزيمة إلى نفسه وعقله ووجدانه، فأسلوب الحياة العربية كان هو المثال الذي يحتذى، وكانت الشعوب الأخرى تقوم بتقليد العربي امتثالا لما ذكره ابن خلدون في مقدمته من أن الشعوب المهزومة تقلد الشعوب المنتصرة، وهو ذاته ما نجده اليوم معكوسا حيث أصبح العربي هو المقلد لتلك الشعوب المنتصرة، متخذا من سلوكها ونمط حياتها أسلوب ونمط حياة له.
إن التراث العلمي العربي في ظل الحضارة العربية الإسلامية الممتدة من القرن 8 الميلادي وحتى القرن 16 للميلاد، غني جداً لدرجة أنه كان يتحتم على الإنسان المثقف الذي يريد الإلمام بكل جوانب علوم عصره أن يتعلم اللغة العربية، وذلك ما أكده وقاله المؤرخ والفيلسوف جورج سارتون في كتابه تاريخ العلم: " إن علماء الإسلام والعرب عباقرة القرون الوسطى، وتراثهم من أعظم مآثر الإنسانية وإن الحضارة العربية كان لا بد من قيامها. ويؤكد أن العرب قاموا بدورهم في تقدم الفكر الإنساني وتطوره بأقصى حماسة وفهم، ويدافع سارتون عن العرب ويرد على بعض المؤرخين فيقول إنهم لم يكونوا مجرد ناقلين كما قال بعض المؤرخين بل إن في نقلهم روحاً وحياة.
فبعد أن اطلع العرب على ما أنتجته قرائح القدماء في سائر ميادين المعرفة نقحوه وشرحوه وأضافوا إليه إضافات هامة أساسية تدل على الفهم الصحيح وقوة الابتكار. وهذا ما يؤكد ذلك الدور الذي لعبه الإنسان والعقل العربي في تاريخ الحضارة الإنسانية، وهو ما يؤكد أن العربي يمتلك تلك الملكة العقلية والذهنية التي من خلالها - حال تم إعدادها إعدادا جيدا، وحال توفرت لها البيئة العلمية الصحيحة وحال تشجيع تلك المواهب العربية - تستطيع أن تسهم إسهاما حقيقيا في منظومة الحضارة الإنسانية المعاصرة، تلك التي تساهم فيها بفاعلية اليوم شعوب أوربا وأمريكا والصين ودول من آسيا التي لا يمكن أن يقل العقل العربي بحال من الأحوال عنها.