حسنى حنا يكتب: الاسكندر المكدوني في الساحل السوري

حسنى حنا يكتب: الاسكندر المكدوني في الساحل السوري
حسنى حنا يكتب: الاسكندر المكدوني في الساحل السوري

"لعل أعظم مأثرة قدمها الاسكندر للتاريخ، هي في إتاحته الفرصة لامتزاج الأفكار والمؤسسات اليونانية والشرقية"

*Philip Hitti

ولد الاسكندر المكدوني Alexander the Great بن الملك فيليب ملك مكدونيا في شهر تموز من العام (356 ق.م) وقد عشق الاسكندر المجد، منذ نعومة أظفاره. وكان والده قد وحد مكدونيا مع بلاد اليونان.

كان الاسكندر المكدوني شاباً جميل الصورة، متوقد الذكاء، ذا خلق رفيع، كريماً وسمحاً مع اصدقائه. تتلمذ على يد الفيلسوف الكبير أرسطو Aristotle وكان ولوعاً بقراءة أشعار هوميروس Homer وقد كتب في رسالة الى معلمه أرسطو: "أؤكد بالنسبة لي أنني أفضل أن أتفوق على الآخرين في معرفة الأحسن. من أن أتفوق عليهم في مدى سلطتي وممتلكاتي" وإضافة الى هذا، فقد كان الاسكندر قائداً متخصصاً في فنون الحرب، شجاعاً لايهاب الموت.

الاسكندر ملكاً

عندما كان الملك فيليب، يخطط لغزو الامبراطورية الفارسية الكبيرة –وهي العدو القديم لليونان- قتل في مؤامرة في العام (336 ق.م) فأصبح ابنه الاسكندر ملكاً، وهو في العشرين من عمره. وعندما جمع كبراء دولته، واستشارهم في أمر حملته على الفرس، وأكثر من هباته لعماله وجنوده، قال له وزيره (بريكاس): "ماذا أبقيت لنفسك؟! فأجابه الاسكندر: "الرجاء"!..

وعندما قابل الاسكندر سفراء بلاد فارس، لم يسألهم عن الجنائن المعلقة في بابل Babylon ولا عن ملكهم، ولا عن الضرائب في وطنهم. بل سألهم بأي الطرق يسار الى بلدهم. وكم تبعد عن مكدونيا، وبماذا تقوم قوة ملوك فارس، وكيف يسوس ملكهم شعبه، وكيف يعامل أعداءه!...

الاسكندر يتوجه الى الشرق

في ربيع سنة (334 ق.م) عبر الاسكندر المكدوني مضيق الدردنيل متوجهاً الى آسيا، على رأس جيشه، الذي كان يتراوح عدده بين (30- 40) الف رجل. وقد وثب من السفينة، ووطأت رجلاه أرض آسيا، قبل جميع جنده..

وكان الفرس قد أعدوا حشداً عسكرياً منوعاً، يقرب من مائة الف رجل، من شعوب الامبراطورية الفارسية المختلفة، ينقصه التدريب، وتعوزه القيادة الحكيمة.

وحسب المؤرخ يوسيفوس Flavius Josephus فقد كانت كل شعوب آسيا مقتنعة بأن المكدونيين لن يجرؤوا على الدخول في معركة مع الفرس بسبب كثرة عددهم!..

المعركة الأولى (معركة جرانيكوس)

جرت هذه المعركة بين الاسكندر والفرس، عند نهر جرانيكوس Granicus في شمال غرب آسيا الصغرى. قرب موقع مدينة طروادة Troy الآثرية القديمة، وذلك في شهر ايار-مايو من العام (334 ق.م) وقد عبر الاسكندر النهر، على ظهر جواده الشهير (بوسيفالوس).

المعركة الثانية (معركة إيسوس)

جرت هذه المعركة في إيسوس Issus (29 تشرين الثاني – نوفمبر) من العام (333 ق.م) قرب مدينة اسكندرون الحالية في شمال غرب سوريا. وهي المدينة التي بنيت على اسم الاسكندر، تخليداً لانتصاره في هذه المعركة وهي لاتزال تحمل اسمه. وقد قررت هذه المعركة مصير امبراطورية كبيرة، وفتحت للاسكندر ابواب سوريا.

وصف معركة إيسوس

يعتبر المؤرخون أن أول معركة موصوفة في التاريخ، هي معركة قادش Qadesh التي جرت بين فرعون مصر رمسيس الثاني وجيشه، وبين الحيثيين بقيادة ملكهم موا تالي على نهر العاصي قرب مدينة حمص في وسط سوريا، حوالي العام (1274 ق.م) انظر كتاب (فن الحرب) للمارشال مونتغمري. Montgomery

وقد وصف العديد من المؤرخين معركة إيسوس الفاصلة ومنهم (آريان Arrian) و (بوليبيوس Polybius) و (ديودورس Diodorus) وغيرهم.

أرسل الاسكندر أمامه قائد رجاله (بارمينيو) الى مدينة طرسوس Tarsus في كيليكيا. فبلغها والفرس يعملون على احراقها. فأنقذ المدينة من الحريق، وطرد الفرس منها، وبعد وصول الاسكندر، قام بارمينيو بارسال قسم من جيشه للسيطرة على معبر سوريا (ممر بيلان) وأقام فيه حامية، وتابع سيره الى إيسوس (الكائنه على خليج اسكندرونه) واجتاز معبر سوريا بسائر جيشه..

ووفد (داريوس Darias) او (دارا) ملك الفرس (336- 330 ق.م) بجحافله الجرارة الى إيسوس. وهو يظن أن الاسكندر وراءه. وكان أن تقدمه. فزين له أعوانه أن الاسكندر منهزم من وجهه، وماعليه إلا ان يتبع آثاره!..

وبلغ الاسكندر أن داريوس وراءه، فكاد لايصدق الخبر، لوفرة سروره به، ولأن الموقف يلائمه كثيراً. وحسب أن الآلهة قد ساقت داريوس الى هذا المضيق لتهلكه. فإن البحر هناك من جانب والجبال من جانب آخر. وليس بينهما إلا أرض تضيق، عن جحافل داريوس الكثيرة. وتكفي جنود الاسكندر اليسيرة!..

بادر الاسكندر وجيشه أعداءهم بالهجوم. ومالبث الجيش الفارسي اللجب، الا ان تبدد، وتهافت على الفرار، في تلك المضائق الوعرة. وهلك منهم جمع غفير بأرجل الخيل، وخارج ساحة الحرب. أما داريوس فقد فر الى الشرق مع فلول جيشه. تاركاً معسكره وأهل بيته. وروى المؤرخون أن الاسكندر، دخل خيمة الملك بعد فراره. فرأى أم داريوس والملكة وبنتيه وابنه، فبذل لهم الآمان، وعاملهم بإحسان! وصدق بذلك قول الشاعر:

"دار الزمان على دار وقاتله.. وأما كسرى فما أواه إيوان"!.

الاسكندر يتجه جنوباً

بعد إنتصاره الكبير في معركة إيسوس، زحف الاسكندر بجيشه، قاصداً الساحل السوري، فلم يلق معارضاً، ودانت له مدن الساحل، بما فيها جزيرة أرواد Aradus.

وبينما كان الاسكندر في مدينة عمريت Maratus المقابلة لجزيرة أرواد على الساحل. وقد كانت يوم ذاك مدينة غنية وعامرة وردت إليه رسالة من (دارا) يطلب إليه فيها. أن يأخذ من المال مايشاء، على أن يرد عليه أمه، وامرأته وأولاده، فأجابه الاسكندر قائلاً:

"إذا حضرت إلي خاضعاً، رددت اليك فدية أمك وأمرأتك وأولادك. وإن خشيت أن تمتثل بين يدي. فعهدي أنني ضامن لك حياتك. وإن كتبت إلي مرة أخرى، فاذكر أنك لاتكتب الى ملك. بل إلي ملكك.."!...

وفي رسالة أخرى عرض (دارا) على الاسكندر أن يقتسما العالم القديم. وان يزوجه بابنته. ولكن الاسكندر رفض هذا العرض. وعندما قال له أحد قواده: "لو كنت مكانك لقبلت" أجابه الاسكندر بقوله: "وأنا لو كنت مكانك لقبلت"!...

وقد قام الاسكندر بزيارة موقع معركة قادش الشهيرة محققاً رغبة له، طالما كان يحلم بتحقيقها.

وتوجه بعد ذلك جنوباً، سالكاً طريق الساحل. ولما بلغ مدينة جبيل Byblus خرج سكانها للقائه، مرحبين وخاضعين ولما علم أهل صيدا Sidon بقدوم الاسكندر، هبوا جميعاً الى لقائه وكان هؤلاء يكرهون الفرس، لأن ملك الفرس (أرتحشستا) كان قد خرب مدينة صيدا، قبل ثماني عشرة سنة.

مقاومة مدينة صور

كانت مدينة صور Tyre ملكة الساحل الكنعاني وهي مدينة قديمة جداً فقد ظهرت الى الوجود حول السنة (2750 ق.م) على حسب ماروى المؤرخ اليوناني هيرودوت (الكتاب الثاني: 44) وقد وصفها بدقة النبي حزقيال Ezekiel في أسفاره بأسلوب رائع، مبيناً أهميتها وعظمتها في قديم الأزمان.

صور التي تحدت الغزاة الآشوريين والكلدانيين، قررت هذه المرة أن تقاوم جيوش الاسكندر. وقد كانت معظم ابنتيها في ذلك الحين، على جزيرة، تبعد قليلاً عن اليابسة وكان لها سور مرتفع منيع. يحيط بها من جميع الاطراف.

رأى الاسكندر ضرورة الاستمرار في حصارها، لأن دخولها ييسر له دخول مصر. ولما كان الدنو من الجزيرة لمهاجمتها مستحيلاً، إلا بوضع جسر يصلها باليابسة أو بردم المسافة بينها وبين اليابسة. فقد أمر الاسكندر بردم المسافة بين الجزيرة والبر وأشرف بنفسه على الردم، بينما كان أهل المدينة يرمون جنود الاسكندر بالنبال من على أسوارها.

وبعد سبعة اشهر من الحصار، فتحت مجانيق الاسكندر منفذاً في السور، تسلقت منه فرقه من جنوده. وكان ملك أرواد وملك جبيل، قد قررا مساعدة الاسكندر، في حصار مدينة صور. كما ساعدته بعض السفن القادمة من جزيرة رودس Rhodes اليونانية. وبسقوط مدينة صور في شهر آب-أوغسطس من العام (332 ق.م) سقطت قرون من الحضارة الكنعانية المزدهرة.. وبعد دخول الاسكندر مدينة صور. سار بجيشه الى مدينة القدس Jerusalem التي فتحت ابوابها ليزحف بعدها إلى مصر، ثم الى بلاد الرافدين، ليحقق النصر من جديد على الفرس وملكهم داريوس في معركة أربيل Arbela في صيف عام (331 ق.م) ثم توجه بعد ذلك الى الهند.

 

وفاة الاسكندر

في ربيع العام (323 ق.م) عاد الاسكندر الى مدينة بابل Babylon من أجل الراحة، والتخطيط لفتوحات جديدة لكنه توفي بالحمى في شهر حزيران-يونيو من العام (323 ق.م) وهو في الثالثة والثلاثين من عمره. وقد قال عنه المؤرخ أريانوس: "لم يوجد في العالم كله، رجل آخر مثيله. لقد توافرت له مكانة لم يتح لأي من الناس، أن يبلغها في الشرف والفطنة".

 

أمتزاج الشرق والغرب

رغب الاسكندر في إقامة دولة، يسودها الحب والوئام، وتمتتزج فيها حضارة الشرق وحضارة الغرب، وكان الاسكندر أول رجل عظيم حلم بمجتمع لا أثر للحواجز فيه. وقد عمل على تحقيقه. وأقام في بضع سنوات، أعظم امبراطورية في العالم. في ذلك الزمان. وقد خلفه في حكم سوريا قائده سلوقوس نيكاتور Seleucus Nicator (312- 280 ق.م) الذي أمر ببناء مدينة انطاكيا Antioch وسلوقيا لتكون مرفأها (سترابون: كتاب 16ص 749).

وكان إنشاء المدن- التي يروى أنها زادت عن السبعين- وسيلة أخرى حول تقارب أوثق بين لشرق والغرب. هذا ولم ينقطع تماماً ذلك الأمل البراق، الذي ضمنه الفيلسوف الفينيقي (زينون Zeno) في (جمهوريته)!..

مؤرخو الاسكندر

كتب سيرة الاسكندر، أعظم المؤرخين في العالم، ومنهم أريان Arrian (92- 175م) في كتابه: (غزوات الاسكندر) والمؤرخ بلوتارك Plutarch (46- 120م) في كتابه: (تراجم المشاهير) وديودور الصقلي Diodorus Ciculus (90- 30ق.م) في كتابه: (المكتبة التاريخية) وكانت في أربعين كتاباً. إضافة الى ماكتبه عن الجغرافي والمؤرخ سترابون Strabo (ت 30م).

ويشير دانيال النبي Daniel الى الاسكندر بوضوح (8: 5 -21) ويبدو أن الاسكندر (ذو القرنين) في بعض المراجع العربيه وكأنه مكلف برسالة سماوية!...