أجد في النقد على خلاف كثير من الناس هدية ثمينة لا تُشبه الهدايا التقليدية التي تُقدم للمرء بكلمات الإطراء أو عبارات الثناء؛ فالنقد بالنسبة لي هو شهادة حية بأن العمل قدأحدث أثرًا، مهما كان صغيرًا، وأنه شغل فكر القارئ ودفعه إلى الكتابة أو الحديث عنه. فأي نص، حتى وإن بدا ضعيفًا في نظر البعض، إذا أثار النقاش وأشعل الحوار فهو نص يستحق الإشارة إليه؛ لأنه تجاوز وجوده الورقي إلى حياة الآخرين، وصار جزءًا من ذاكرتهم الفكرية.
لطالما شعرت أن المدح الدائم أقرب إلى الصمت، صوتٌ خافت لا يحرك شيئًا في أعماق الكاتب؛ لأنه غالبًا ما يخلو من عمق القراءة أو جدية التفاعل. ولعل كلمات الإعجاب على جمال وقعها تظل سطحية إذا لم تحمل معها نظرة ناقدة تعيد تشكيل العمل في ذهن صاحبه.
أما النقد فهو ذاك الصوت المختلف الذي يُضيء زوايا خفية في النص، يبين ما فاتني إدراكه، ويكشف عن ضعفٍ كنت أجهله أو قوة لم أكنواعيًا بها.
وأكثر ما يسعدني حين أجد دراسة جادة تُقرأ فيها أعمالي بعين موضوعية، بعيدة عن المجاملات أو الانحيازات، فتلك الدراسات، وإن حملت بين طياتها ملاحظات قاسية أو رؤى مغايرة لما قصدته، تجعلني أقف عند عملي مرة أخرى، كأنني أراه للمرة الأولى؛ إذ الناقد الجاد لا يهدم، بل يبني، حتى وإن بدا نقده قاسيًا، فهو يبني وعي الكاتب ويدفعه إلى المراجعة والتطوير.
إن النقد هو حوار عميق بين الكاتب وقارئه، حوار يمتد ليصبح درسًا في الفهم والتقبل. لذلك، حين أستقبل نقدًا، سواء كان في رسالة خاصة أو منشورًا في صحيفة أو مجلة، أشعر وكأنني دخلت إلى فصل دراسي جديد، أتعلم فيه من قارئ يحمل أدواته الخاصة ورؤيته التي قد تختلف عن رؤيتي.
على أن النصوص التي تُكتب ليست ملكًا لكاتبها وحده، وإنما هي كائنات مستقلة تنطلق في العالم، وتعيش حيوات لا حصر لها في عقول الآخرين؛ فالنقد هو ذلك الصوت الذي يعيد إليها توازنها، يوجهها، وربما يغير مسارها. ولهذا،أجد نفسي ممتنًا لكل من قرأ عملاً لي وقرر أن ينقده؛ لأنه بذلك يمنحني فرصة للنمو؛ كإنسان يرى في الاختلاف فرصة للتعلم.
إنني وبكل صدق لا أستريح كثيرًا لأولئك الذينيقدمون الإطراء دون أن يحملوا فكرة أو رؤية؛ لأن كلماتهم على جمالها لا تترك أثرًا يبقى، أما أولئك الذين يأتون بالنقد البناء، فهم شركاء في رحلتي الكتابية،يشاركونني في صنع الكلمة وتشكيل الفكرة، ويعلّمونني أن الكتابة ليست سوى بداية الحوار، لا نهايته.
وإن من اليقين أن يقال: إنه لا يستطيع الكاتب أنيدرك يقينًا أنه يمضي في الطريق الصحيح إلا حينما تأتيه كلمة الناقد البصير، تلك الكلمة التي تشبه نورًا يضيء دربه، أو مرآة يرى فيها ملامح ما كتب بصدق، وهي شهادةلا تُشترى بالمديح العابث، ولا تُستبدل بالإطراء العابر، بل هي ميزان الحقيقة الذي تضع العمل في كفته، فلا تنحاز إلا للجوهر.
إن شهادة أهل الاختصاص للأديب ضرورة وجودية لنصوصه،فهي الدليل على أن كلماته قد عبرت حدود نفسه، وأنها قد وصلت إلى عقول أخرى قادرة على قراءتها وتحليلها، وحين تكون هذه الشهادة مدحًا صادقًا فهي توقيع على صدق الإبداع، أما حين تأتي نقدًا بناءً فهي دعوة للكاتب ليعيد النظر، ليقوّم اعوجاجًا خفيًا، أو يعمق فكرة كانت تحتاج إلى اكتمال.
ولئن اجتمعت شهادات النقاد الكبار في صف كاتب ما فإنهاوسام يعترف بموهبته ويثبت مكانته بين الأقلام، وإعلان صامت بأن هذا الأديب قد ارتقى من مرحلة السعي إلى مرحلة الحضور، وأن ما يكتبه لم يعد محاولات فردية، وإنما صار جزءًا من المشهد الأدبي، يستحق التأمل والإشادة.
إن شهادة النقاد هي الثمرة التي يحصدها الأديب بعد جهد طويل، وهي في الوقت نفسه البذرة التي تغرس في نفسه شغفًا جديدًا، ليواصلالعطاء ويبتكر المزيد؛ فلا كاتب يكتمل دون عين ناقدة تقرأه، ولا نص ينضج دون عقل يزن معانيه ويضعه على محك النقد.

