بانوراما حياتية للمجتمع المصري في رمضان الثلاثينات من القرن الماضي قراءة في أرشيف الصحافة المصرية بقلم د. محمد فتحي عبدالعال

يعد أرشيف الصحافة المصرية مرآة صادقة لواقع الحياة الإجتماعية في مصر في الماضي بكل ما يحمله من تناقضات وطرائف تحيط بصفوته ونجومه وعامة الناس أيضا.
وسنعتمد في مبحثنا هذا لسبر أغوار هذا الواقع وكشف خفاياه على  رمضان في الثلاثينات وتحديدا رمضان بين عامي 1934م و1935م حيث كان المجتمع المصري يموج بتحولات سياسية بارزة تصب في اتجاه الخلاص من المحتل الإنجليزي ونيل الاستقلال الكامل غير منقوص السيادة  مما افضى إلى توقيع  معاهدة الصداقة والتحالف بين الجانبين  عام 1936م ..هذه إطلالة  مقتضبة على المحيط السياسي المعروف بحذافيره وتناولته مئات الكتب بالشرح والتفصيل المستفيض .. لكن ماذا عن حال الناس على اختلاف طبقاتهم ؟!ماذا كان يشغلهم خاصة في الشهر الفضيل؟! وسنعتمد بعض أعداد مجلة "الجامعة" النادرة الصادرة في شهر رمضان في الفترة التي اخترناها لترسم لنا صورة ثرية  عن كثب لمختلف الطبقات المجتمعية  وواقعهم المتباين  في الشهر الفضيل..  ونبدأ بعالم الفن وفيلم المفآجات الذي احتل اهتمام الجمهور المصري مع استمرار عرضه في شهر رمضان بين عامي 1934م و 1935م فيلم "شبح الماضي"  إنتاج شركة "كوندرو فيلم" التي يملكها الأخوان "لاما " وقد قامت ببطولته المطربة "نادرة" والفنانة " أمينة محمد"  والفنان والمنتج الفلسطيني الأصل "بدر لاما" والطفل "عبد الله لاما"  وبحسب كتاب "تاريخ السينما المصرية " لمحمود قاسم  فقصة الفيلم  والذي ربما احترق مع ما احترق من التركة السينمائية لأسرة "لاما" في حريق مروع : تتناول المهندس المعماري "رمزي عباس" الذي يقطن  مع زوجته "دلال "  بفيلا  على النيل، ثم تجمعه قصة حب بنادرة زوجة "محمود خاطر" لكن  الأخير يقف  عقبة أمام هذا  الحب  ويدبر للإيقاع بغريمه حيث يدعي أنه مسافر ثم يباغت "رمزي" وهو خارج من عند زوجته " نادرة " ويلقي على ظهره حجرا ثقيلا كسر عموده الفقري ومن ثم أصابه بالشلل ثم دخل على زوجته وقتلها وسرق حليها ليوهم البوليس أن زوجته الخائنة  قتلها لصوص وبذلك يفلت من جريمته ..حاول "رمزي " التكتم على الحادثة خشية الفضيحة وأدعى أن سيارة صدمته ..تدور الأيام بمحمود ويفقد ثروته ويعاود الانتقام من "رمزي" ولكن هذه المرة في شخص ابنه الصغير  "سمير " حيث اختطفه وعذبه في جبل المقطم ثم أمر " رمزي" بالمجيء بمفرده وراح يخيره بين حياة ابنه والذي كان معلقا على شفا جرف الهاوية أو زوجته ..في هذه اللحظة تحدث المعجزة ويشفى "رمزي " من الشلل ويقوم لإنقاذ ابنه فيما يحاول "محمود" طعنه بالسكين لكن رجله تنزلق من أعلى الجبل ويهوى منه ميتا ...الفيلم شهد مفاجأة وهي أن واضع أغانيه هو الأديب "عباس محمود العقاد" والتي غنتها "نادرة"  ومنها "غازي قلوب الشعب بالكرم" و"في الهوى قلبي زورق يجري" و"يا ساعة الصفو غبت عني" و"مولدي يوم شقائي طال في المجد رجائي" و"يا حبيبي أنت ري ليس في النيل نظيره" وهذا حدا بالبعض للغلو في مكانة "نادرة " لدى العقاد وأنها البطلة الحقيقية لروايته الشهيرة "سارة".
الفيلم جاء  منافسا للأفلام الأجنبية التي كانت تجتاح السينمات المصرية آنذاك وقد بادرت دار سينما "كوزمو أو  الكوزمجراف الامريكاني" بشارع عماد الدين  لصاحبها المسيو "موصيري" لعرض الفيلم لإتاحة الفرصة للأفلام العربية لتأخذ فرصتها في المنافسة..بطبيعة الحال كانت مخاطرة  تحملها "موصيري " الذي   آمن أن جمهوره المستهدف هم المصريين وأن الجمهور المصري في بلاده هو "الكل في الكل" ورعايته والعمل على تلبية رغباته أمر ضروري وسيأتي بعوائد ذلك في المستقبل القريب.
المثير أن الفيلم وبعد عرضه فجر مفاجأة جديدة حول ملكية قصته فبينما حمل الفيلم اسم "إبراهيم حسين العقاد " وإبراهيم لاما " في  السيناريو والحوار  فقد  رفع الكاتب والشاعر "عادل الغضبان" صاحب رواية "أحمس الأول أو طرد الرعاة"  قضية ضد صناع الفيلم الأخوين "لاما" يتهمهما بالاستيلاء على  قصته المكتوبة بالفصحى والمجازة من إدارة المطبوعات  بوزارة الداخلية وتحويلها لفيلم مع تعمد إغفال اسمه وإنكار صلتهم به  وتغييرها الى العامية على غير رغبته وقد تجاهل الأخوين الأمر..
الطريف ما قدمته مجلة "الجامعة" معلقة على المسألة من أن فيلم "الوردة البيضاء" المنسوب كقصة وسيناريو وحوار وإخراج لمحمد كريم  تعرض لنزاع قضائي هو الآخر حيث رفع مالك القصة ويدعى "متولي" دعوى ضد عبد الوهاب داعية لوضع حد لهذا النوع من القضايا التي تهدر حقوق المبدعين عبر سن قانون لحفظ حقوق المؤلفين وحقوق استخدامها.
ومن الفن إلى الرياضة ويبدو  أن شهر رمضان  حمل الكثير من المفارقات مع نجم أبطال حمل الأثقال المصري "السيد نصير" فقد رفض عرضا من المصارع "يوسف برزا" بطل أمريكا السابق في المصارعة الحرة والملقب بالنمر السوري لترتيب عدة مباريات يلاعب فيها "نصير" عدة مصارعين دوليين  من اليونان وسوريا وتركيا تمهيدا لمباراة "لاندوز" بطل العالم في المصارعة الحرة وذلك  لتواضع المقابل المادي الذي سيحصل عليه  كما دخل في شجار داخل كازينو "بديعة مصابني "مع الوجيه "عطا حسني" وأخوته وأصدقائه وفشلت كل محاولات احتواء المشاجرة من جانب ضيوف الكازينو والسيدة "بديعة مصابني" نفسها .الطريف أن الوجيه " عطا حسني" لم يكتف بما حدث بل رأى أن الساحة الرياضية هي خير وسيلة للرد على خصمه فذهب إلى النادي الأهلي  وطلب بشكل رسمي مصارعة "السيد نصير " في الحلبة ووافق الاخير ملبيا النداء وبالتأكيد واثقا من الفوز .لكن مندوب النادي "حمدي أفندي" تحفظ على الطلب الذي يضمر صاحبه الانتقام  لما له من عواقب جسيمة  تتجاوز  الأعراف الرياضية.
نأتي بعد ذلك لأرباب الأسر الراقية "الهاي لايف " وحياتهم في رمضان ونبدأ بالآنسة "حورية إدريس " ابنة خالة السيدة "هدى هانم شعراوي " والتي توالت أخبارها السعيدة فبعد خطبتها تم تتويجها ملكة للجمال في إحدى قرى لبنان أثناء إجازة الصيف بصحبة السيدة هدى .. هذا التتويج آثار اغتباط شقيقتها الصغرى الآنسة "حوا " ورأت أحقيتها أن تكون ملكة جمال مصر  فدعت لإقامة مسابقة للجمال في مصر ترعاها جمعية " شقيقات الاتحاد النسائي"  والتي نشأت من الطبقات الراقية  كداعم للاتحاد واعترضت الآنسة "حورية " بشدة على هذا المقترح من شقيقتها وقد فطنت لمبتغاها منه وتصاعدت الخلافات وقد حاول بعض الأعضاء تهدئة الأجواء..
هل تخلو حياة صفوة المجتمع من حفلات الخطبة والأعراس ؟!بالطبع لا ..ولا حتى في شهر رمضان والذي يستغله البعض كمناسبة تذكارية لطيفة للخطبة وعقد الزيجات ..لكن الشروط بين الزيجات تتفاوت والناس درجات وفي تطلعاتهم ما بين الغرائب والمسلمات حكايات وحكايات  فمثلا أسرة الآنسة "علوية حلمي" كريمة الأستاذ "عباس حلمي" وحفيدة معالي "محمد توفيق رفعت باشا " اشترطت لخطبتها على الوجيه الشاب " عبد العزيز كشميري " المنحدر من أصول هندية ومن منطقة تحظي  بحماية بريطانية أن يحجز لعروسه بنوارا في حفلة السوارية من يوم الاثنين أسبوعيا بسينما "رويال" وأن يلتحق بصالة "سبيرو" لإتقان حركات وخطوات رقصتي الرومبا والكاريوكا!! ..على النقيض من هذه النزعة الليبرالية المغالى فيها جاءت اشتراطات الآنسة "سميحة مكرم " حفيدة "السيد عمر مكرم " الزعيم الشعبي البارز ونقيب الأشراف الأسبق على خطيبها الشاب "سامي درويش " من ضرورة اجتيازه امتحان البكالوريا والالتزام بالطاعات والفروض الدينية كالصلاة والصوم وقد أهدته سجادة قيمة كما اشتملت الشروط على معاونة العريس المنتظر لها في أعمال المطبخ وإعداد طبق السلطة وتقشير الفول المدمس وتورد المجلة أن دخل العروس الشهري تسعين جنيها..
نأتي لعالم الرجال والرجل المصري بطبيعته يميل  للتشاؤم ويلجأ له كمبرر في كثير من مشاكله  ومن طريف ما تخبرنا عنه مجلة "الجامعة"  في رمضان اتهام الدكتور "محمد أمين نور "مفتش صحة السيدة زينب بكتابة وصفات طبية  "روشتات" لبعض مدمني المخدرات  والذي جاء متزامنا مع استقلاله  سيارته الجديدة "الاوبيرن الزرقاء " بسعرها "اللقطة" إذ اشتراها ب 800 جنيه وثمنها الأصلي 1500 جنيها أي نصف الثمن  وكانت لم تزل في معرض السيارات " الأجانس" إذ أحجم الثري المعروف "عبد الحميد الشواربي بك" مالكها الأول  عن استلامها بعد أن سدد ثمنها الأول كاملا حيث مني في نفس يوم استلامها بخسارة فادحة بقضية له فتشاؤم منها .
وجاء ما حدث لمالكها الثاني لتوضع السيارة المسكينة تحت وصف "السيارة المشؤومة".
نأتي لعالم الطلبة والطالبات في رمضان ونبدأ بالطالب "عزت مدكور" صاحب النشأة الإنجليزية والطالب بالسنة الرابعة بالمدرسة السعيدية والذي لا يستخدم سوى اللغة الإنجليزية في مجالساته مع أقرانه وحتى في حصة القواعد العربية والانشاء لا يفهمها إلا بما يقابلها من مصطلحات إنجليزية ومع ذلك فهو دائم الرسوب في اللغة الإنجليزية !!..سبحان الله .."عزت" وضع لنفسه هدفا جليا وهو أن يكون طبيبا وفي سبيل تحقيق هذه الغاية والتي تمكنت منه لحد تقمص شخصية الطبيب بالفعل فراح يكتب روشتات مجانية لزملائه ووصل الأمر بحسب المجلة إلى قدرته على علاج أمراض استعصى على الأطباء الناجحين علاجها.
ومن "عزت" الموهوب المزعوم  ننطلق في أعتاب "الآنسة ماري سلامة" الطالبة بكلية الآداب والتي صارت حديث الصحافة في تلك الآونة بعدما قام زميل لها بإرسال خطاب لمنزلها مفعم بالحب والهيام وتفوح منه رائحة " سانك فلور" فتسلمه أخوها الدكتور "أنيس سلامة" فسلمه بدوره للعميد والذي قضى بفصل الطالب .ومن بعد الخطاب وبحسب المجلة غدت الفتاة قبلة للعرسان وسرت إشاعة قوية ربما مصدرها من اسمتها  المجلة سكرتيرتها الخاصة " أمينة الشعراني " أنها على وشك الخطبة وأنها ستقنع بالبقاء في المنزل بدلا من الذهاب للكلية كل صباح !!.ونختتم حياة الطلبة ببريد القراء ورسالة من الآنسة "اعتدال" من شبرا والتي أحبت ابن عمها ولا زال طالبا  بمدرسة الصيدلة ونظرا لمعارضة والدها الزواج فهي تستشير المجلة في نية الحبيبين المفعمين بالمشاعر الجياشة والحب الملتهب على الانتحار بسم مركب يصنعه الحبيب الصيدلاني  ابن العم ..جاء رد المجلة لتصف الفتاة بالشخصية الخيالية القابعة في  القرون الوسطى حيث قصص الحب التي يطغى عليها الاستهانة بالموت مع ضيق الحدود والأفق منبهة أن  الحياة العصرية أصبحت أكثر رحابة واتساع للأفق من ذي قبل.
 
 
* د.محمد فتحي عبد العال 
كاتب وباحث وروائي مصري