ماهية الشعر: لغوية أم ذهنية؟
الشعر يتجلى عند نقطة تقاطع اللغة مع الذهن، مما يجعل تحديد ماهيته أمرًا إشكاليًا. لكنه ليس مجرد بنية لغوية خالصة، ولا هو مجرد نشاط ذهني مستقل عن التعبير اللغوي. بل هو تكوين إدراكي لغوي في آنٍ واحد، حيث تتشكل التجربة الشعرية عبر اللغة، ولكنها لا تقتصر عليها.
إذا قلنا إن ماهية الشعر لغوية خالصة، فإننا نحصره في تركيب الكلمات وبنيتها الصوتية والتصويرية، دون الالتفات إلى البنية الإدراكية التي تحكم المعاني وتحركها في الذهن.
وإذا قلنا إن ماهية الشعر ذهنية محضة، فإننا نفصل التجربة الشعرية عن تجسدها الفعلي في اللغة، وكأن الشعر موجود قبل أن يُقال، أو مستقل عن أدواته التعبيرية، وهو افتراض غير ممكن لأن الشعر لا يكون شعرًا إلا حين يتجلى في اللغة.
إذن، الشعر هو ظاهرة إدراكية تتجسد في اللغة، أي أنه لا يمكن اختزاله في أحدهما دون الآخر. اللغة هي المجال الذي يتعين فيه الشعر، لكن ماهيته تنبثق من التفاعل بين الذهن واللغة، حيث يتم تحويل المدركات إلى بنيات لغوية مشحونة بتوتر دلالي وشعوري.
هل الشعرية هي شعرية أشياء أم شعرية كلمات؟
الشعرية ليست مجرد خاصية للكلمات، وليست أيضًا خاصة بالأشياء ذاتها، بل هي تنشأ من العلاقة بينهما، أي من الطريقة التي تعيد بها الكلمات ترتيب الأشياء وتكشف مستويات غير مألوفة منها.
إذا قلنا إن الشعرية هي شعرية كلمات، فإننا نقصرها على الأسلوب والبنية اللغوية فقط، وهذا قد يقود إلى الاهتمام بالمستوى الجمالي الشكلي للغة دون الالتفات إلى عمق التجربة التي تعبر عنها.
إذا قلنا إن الشعرية هي شعرية أشياء، فإننا نضع الشعر في الواقع المادي ونفترض أن هناك أشياء تمتلك شعرية ذاتية، وهو أمر غير دقيق، لأن الأشياء لا تكون شعرية إلا عندما تتجسد في اللغة بطريقة معينة.
إذن، الشعرية هي نتاج التفاعل بين الكلمات والأشياء، حيث لا تكون الكلمة وحدها كافية لخلق شعرية، ولا يكون الشيء نفسه شعريًا بذاته، بل يتم بناء الشعرية من خلال الطريقة التي تعيد بها اللغة تشكيل الأشياء وتقديمها برؤية جديدة أو انزياحية.
ما الفرق بين الشيء والكلمة؟
الشيء: هو الموضوع الموجود خارج اللغة، سواء كان حسيًا أو مجردًا، وهو يمثل مادة الإدراك التي يتعامل معها الذهن.
الكلمة: هي التسمية التي تمنحها اللغة للشيء، وهي لا تعكس الشيء كما هو بل تعيد تشكيله في نظام رمزي يعتمد على الثقافة والتجربة.
الفرق الجوهري بينهما هو أن الشيء موجود بذاته، بينما الكلمة ليست الشيء بل تمثيله في اللغة. ولكن في الشعر، الكلمة لا تكتفي بكونها مجرد علامة على الشيء، بل تصبح كيانًا يحمل دلالات تتجاوز وظيفتها الإشارية، مما يجعلها تولّد معاني جديدة تتداخل مع إدراكنا للأشياء.
محلصة البحث
ماهية الشعر ليست لغوية خالصة ولا ذهنية محضة، بل هي تفاعل إدراكي لغوي.
الشعرية ليست في الكلمات وحدها ولا في الأشياء وحدها، بل في العلاقة التي تبنيها اللغة بين الكلمات والأشياء.
الكلمة ليست الشيء، بل هي تمثيل رمزي له، لكنها في الشعر تتحول إلى شيء جديد يمتلك حضوره الخاص داخل النص.

