لقد استهل الكاتب "بيل جيندلسبيرجر" مقاله الذى حمل عنوان "عصر "ترامب" يستحضر "قصة مدينتين" للكاتب "تشارلز ديكينز" الذى يصف العصر الذى عاش فيه "قائلاً كان أفضل الأوقات وأسوأها كان عصر الحكمة والحماقة عصر الإيمان وعدم التصديق كان موسم النور وموسم الظلام.. لقد كان بالفعل عصر التناقضات والأضداد تلك الرؤية التى ركز عليها العديد من الباحثين والكتاب السياسيين فى تناول تلك الفترة الجديدة لتولى الرئيس "ترامب" ومعالجته للقضية الفلسطينية.. لقد وعد "ترامب" بأنه آت بما لم يأت به الأوائل، ووضع حد لذلك الصراع المزمن، ولكن الحل الذى أتى به كان صادماً للجميع فيما يتعلق بخطة التهجير للشعب الفلسطينى من قطاع غزة بعد كل هذه التضحيات.. بالنسبة للعديد من الكتاب والباحثين كانت تلك الرؤية التى أعقبت وقف إطلاق النار فيما يتعلق بمصير هذه الإشكالية العصية على الحل بعد كل هذه الجولات من الصراع والتى لا تعود إلى الثمانين عاماً السابقة بل لحوالى 1700 سنة قبل الميلاد.. من بين هذه المقالات التى تسير فى نفس الاتجاه تلك المقالة للكاتب "ستيفن كوك" بعنوان الإسرائيليون والفلسطينيون خسروا مستقبلهم " إذ مع انقشاع دخان الحرب بدأ المجتمعان فى التراجع إذ أصبح من غير المرجح أن يتم تنفيذ تلك الصفقة المعقدة ذات الثلاثة مراحل بالكامل وكان من الأمور المثيرة للدهشة كيف لم يغير الصراع مسارات المجتمعين "الإسرائيلى" و"الفلسطينى".. واستطرد "كوك" قائلاً لاشك أن "حماس "حققت العديد من الإنجازات البارزة منذ أن شنت ذلك الهجوم الذى أطلقت عليه "طوفان الأقصى" وجرت جيش الدفاع الإسرائيلى إلى قتال شرس فى "غزة" مما أضعف شرعيته الدولية والدولة التى يدافع عنها.. تلك هى التناقضات التى ينطوى عليها ذلك الصراع الأطول عمراً فى التاريخ وذلك ما تطرق إليه الباحث "نيلز مالوك" فى مقاله بجريدة "الجارديان" بعنوان سألنا أهل غزة عن رؤيتهم لمستقبلهم وهذا ما وجدناه".. واستطرد "مالوك "قائلاً لقد كشفت تلك الاضطرابات التى أعقبت وقف إطلاق عن حالة عميقة من عدم "اليقين السياسى" إذ بعد خمسة عشر شهراً من القتال لاتوجد رؤية واضحة لما قد يأتى بعد ذلك ومن الذى ينبغى أن يحكم "غزة" ويعيد بناءها؟ وما هى طبيعة العلاقة المستقبلية بين غزة وإسرائيل.. ويؤكد "مالوك" على أنه كان عليه أن يجيب على هذه التساؤلات بالتعاون مع "جيرمى جينجز" أستاذ السلوك "بجامعة لندن"حول كيف ينظر كل من الفلسطينيين والإسرائيليين لبعضهما من خلال إجراء "استطلاع رأى" لما يزيد 1400 شخص من خلال عينات تمثل البلاد.. وقد أظهر الاستطلاع مدى التباين النفسى العميق بين تصورات كل جانب ومدى تغلغل الانقسامات فى "غزة" على الرغم من مرور 16 شهراً من الصراع المدمر والنزوح كانت القناعات السياسية الأولوية تصل إلى 10 أضعاف بالنسبة للفلسطينيين حتى ولو كان ذلك على حساب السلامة الشخصية المباشرة.. وقد بينت نتائج الاستطلاع فيما يتعلق بمدى اعتبار المستجيبين للقيم المختلفة كجزء من هويتهم الشخصية حيث أصبح تمسك الإسرائيليين بهويتهم الوطنية على نحو أكبر مقارنة بتلك البيانات التى تم جمعها فى مايو 2024.. على الجانب الآخر يشير الاستطلاع إلى أن الأغلبية الكبيرة من سكان "غزة" بنسبة 94% تميل إلى التمسك القوى بكونهم فلسطينيين وتحقيق السيادة الوطنية بنسبة 86% وبينما وصلت نسبة حق اللاجئين بالعودة إلى مدنهم وقراهم الأصلية خلال إنشاء دولة إسرائيل فى عام 1948 إلى 90% .. من بين النتائج الهامة التى أسفر عنها الاستطلاع هى وجود مجموعة أخرى من الفلسطينيين تصل إلى 48 % أقل ميلاً للحلول الدبلوماسية لاسيما عندما يتعلق الأمر بالمستقبل السياسى على المدى الطويل فى "غزة مازالوا يؤيدون "حل الدولتين".. على الجانب الآخر يرى 20% من الفلسطينيين أن السيناريوهات الأكثر واقعية لإنهاء الصراع هى تهجير اليهود من المنطقة بينما يعتقد 5% منهم بحل الدولة الواحدة مع التعايش فى ظل حقوق متساوية.. وقد خلص كل من "مالوك" و"جينجز" إلى أن التحدى الحقيقى يكمن فى إيجاد زعماء على كلا الجانبين يتمتعون ليس فقط بالقدرة على تمثيل المصالح السياسية لشعبيهما بل أيضاً على جسر تلك الفجوة النفسية بين الجانبين التى تعوق التوصل إلى السلام الدائم .
من ناحيته يرى الباحث الدولى "جيرمى بوين" فى مقاله بعنوان "خطة "ترامب" بشأن "غزة" لن تتحقق" إذ أن خطته للاستيلاء على غزة وتهجير سكانها لن تحدث على الإطلاق لأنها تتطلب تعاون الدول العربية ومصر والأردن اللذين رفضا تهجير الفلسطينيين إليهما.. ويؤكد "بوين" قائلاً ربما يميل بعض الفلسطينيين إلى الخروج إذا ما أتيحت لهم الفرصة ولكن حتى لو غادر مليون شخص فإن ما يصل إلى 1,2 مليون آخرين سيظلون هناك ومن المفترض أن تلجأ الولايات المتحدة المالك الجديد لمنتجع "ريفيرا" الشرق الأوسط إلى استخدام القوة لتهجيرهم وإزالتها.. ويؤكد "بوين" على أن هذا المشروع من شأنه أن يضع حدا نهائياً لحل الدولتين ذلك الطموح المتمثل فى إمكانية إنهاء ذلك الصراع الذى يزيد عمره عن قرن من الزمان من خلال إقامة الدولة الفلسطينية المستقلة إلى جانب إسرائيل.
إن ذلك الحل يلقى معارضة كبيرة من الجانب الإسرائيلى بل أن الفكرة فى حد ذاتها مرفوضة من الأساس لاسيما من جانب حكومة اليمين المتطرف التى يترأسها "نتنياهو"
وأصبح حل الدولتين على مدى تلك السنوات الطويلة من مباحثات السلام الفاشلة مجرد شعار فارغ.. ويستطرد "بوين" قائلاً أن تلك التصريحات التى أعلنها "ترامب" بينما كان نتنياهو يراقبه وهو مبتسماً بالرغم من غرابتها سوف تنطوى على عواقب وخيمة وقد تؤدى إلى تغذية الخطط والأحلام لدى المتطرفين اليهود الذين يعتقدون أن الأرض كلها قد وهبها الله ملكاً لهم.
بينما يرى "جيلبر الأشقر" أستاذ العلاقات الدولية بجامعة لندن فى مقاله بعنوان "سيناريوهان لغزة إسرائيل الكبرى فى مقابل أوسلو" أن الشيء الوحيد المؤكد هو أن الهجوم الإسرائيلى كان الأشد فتكاً وتدميراً عن الحلقات السابقة من الصراع الذى دام 75 عاماً والذى من المؤكد أنه سوف يزداد سوءاً على نحو كبير ويؤدى إلى زعزعة الاستقرار فى تلك المنطقة الأكثر اضطراباً فى العالم.. ويستطرد "جيلبر" قائلاً أن عدم الاستقرار فى المنطقة سوف يلعب دوراً رئيسياً فى زعزعة الاستقرار فى الشمال العالمى مع تدفق موجات اللاجئين وتفشى العنف وسوف تنفجر وجهة النظر والمعايير المزدوجة للولايات المتحدة والأوروبيون فى وجوهم بعواقب أكثر مأساوية.

